يهل الشهر الفضيل, شهر رمضان المبارك, فتجتاز عتبات الأذن فيوض من السبحات التنويرية, لآيات كتاب الله. وتلاوة آيات الكتاب فن, مارسه قرّاء القرآن الكريم, على امتداد مساحة العالم الإسلامي. وقد لقّب هؤلاء القرّاء بأكثر من لقب, فهم سفراء كتاب الله, وهم منشدو صوت السماء, وهم الشيوخ الذين يشنفون الآذان بالكلمات الطيبات من الآي الحكيم.
ولسنا نزعم أن هذا الفن جديد على المجتمع الإسلامي, فقد كانت مهمة مرتّلي الكتاب أن ينقلوا المعنى السماوي للعقل الأرضي, في ارتباط بين المقدس والإنساني, بين الخالق وعباده, ليدرك المؤمنون صفاء معانيه, في بيان لا تحيط به شائبة. وحين نعرض لكتاب صدر في القرن العشرين عن قرّاء القرآن الكريم, فإننا لا ننسى أن هذا الفن - فن التلاوة - له مصادره ومراجعه, ويتحدث الدكتور عبدالوهاب بوحديبة في كتابه (ثقافة القرآن) عن نص في إجازة في تدريس علم القراءات منحت للشيخ عمر بوحديبة في 31 مارس 1762, باعتبار هذا النص مؤسسًا للنص القرآني في وسط مجتمع القيروان خلال القرن الثامن عشر للميلاد. ونقرأ في الكتاب: (ولاشك أن المفروض في القرآن ترسيخ الإيمان, ولكن هل يمكن أن يحدث الطرب? أين يقع الحد الفاصل بين الأحاسيس الرقيقة والانفعالات القوية قد تبلغ حد الغشية, وهو ما يثير استنكار جميع الناس? ذلك أن تلحين القرآن بدأ منذ القرن الأول للهجرة, فأصبح الغناء في خدمة النص المقدس, والعكس بالعكس, مما أدى إلى معارضة شديدة من قبل الفقهاء. وبيّنت هند شلبي أن محاولات لتلحين القرآن وقعت في إفريقيا إلى عهد متأخر لكنها زالت تمامًا في الفترة التي كتبت فيها هذه الوثيقة. وكان القراء - كما هو الشأن اليوم - يدعون إلى مجالس صوفية يتذوّق فيها مرتادوها الغناء والموسيقى الوترية أو النقرية. وكانت المزامير وغيرها من آلات الموسيقى محرّمة في المساجد ومباحة فقط في الأعراس أو للإعلان عن حلول شهر رمضان وانتهائه.
وينتمي عمر بوحديبة المتوفى عام 1802 إلى هيئة فقهاء القيروان, وكان قاضيًا سنة 1800, وبالرغم من أن تقاليد طلبة العلم آنذاك كانت الاغتراب, وقصد إحدى مدن الشرق أو الغرب, كالقاهرة أو مكة أو المدينة أو دمشق أو فاس, لكن الشاب عمر لم يقطع مسافة بعيدة, بل اكتفى بتونس العاصمة وزيتونتها. ولما عاد إلى القيروان, تولى وظائف عدة, فكان قارئًا مرتلاً, وشاهد عدل, ومدرسًا بجامع الزيتونة في مسقط رأسه, وأخيرًا قاضيًا ابتداء من سنة 1800, في عهد حمودة باشا. ولقد نشأ الشيخ عمر في أسرة ظل فيها القرآن ودراسته النظرية والعملية من المشاغل اليومية العادية. وكان والده الحاج محمد فقيهًا أيضًا, مشهورًا بنسكه وورعه وتجويده للقرآن, وهو الذي لقّن ابنه الشاب عمر المبادئ الأولى لثقافة القرآن, فحفظه إياه وقراءاته, ودرّبه على فن التجويد, وحبّبه إليه, كما شجعه على الأخذ عن كبار مشايخ القيروان في ذلك العصر, وعلى إعداد إجازته على يد الشيخ الثقاقلي البكري.
وتحلل الكاتبة آمال موسى هذه الوثيقة (وهي عبارة عن قطعة مقاسها (53x40.5سم) من الرقع البديع المصنوع من جلد الغزال, مكتوبة بالخط المغربي الدقيق والمتأنق), فتعتبرها مع المؤلف شاهدًا أساسيًا لثقافة القرآن, والتي يقصد بها جملة السمات المميزة, التي طبع بها القرآن المجتمعات المعتنقة للإسلام. وهذه السمات تجلّت بطرق مختلفة على مستوى الأشكال, أو على مستوى النفس, الذي وحّد بين رؤى العالم والتصرّفات الفردية أو الجماعية, والرموز والتصوّرات الحياتية العادية. كما كشف بوحديبة عن العلاقة بين الإيمان بالقرآن وثقافة القرآن, معتبرًا أن السر الحقيقي للعقيدة الإسلامية يكمن في هذا الإيمان, لأن القرآن يتضمن إطارًا عقليًا برمّته, وليس مجرد وحي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. إنه كلام تأسيس بلاشك, ولكن يتعين اعتباره دومًا حضورًا للقدسي في التاريخ, وناقلاً للأحداث, وارتباطًا متجددًا بالأصول. وليس التجويد مجرد قراءة, بل هو دعاء وصلاة وانبعاث للقدسي, بل هو الحضور عينه. ولقد أوكلت للمرتلين مهمة تمكين المؤمنين من تقبّل النص القرآني وإدراكه في صفائه, وكذلك مهمة الإبانة عمّا لا يستبين. إنه عمل جليل يقتضي من المرتّلين وقارًا, وشعورًا بالمسئولية, ودراية كبيرة بفن التجويد. وقد كانوا يتدرّبون عليه بكامل الدقة والعناية, وعلى مدى السنين. وفي خصوص تعدد طرائق التلاوة, وتنوّع أساليبها, يذكر بوحديبة أن السنة أقرّت ذلك, واستبعدت الغناء.
وهكذا ما بين وثيقة تاريخية وكتاب جديد, يجد القارئ نفسه في خضم هذا الفن, لكن الوسائط الأخرى عبرت عن امتنانها لهذا الفن أيضًا, فقد قدم القارئ عبدالزهرة العماري برامج دينية عدة على شكل حلقات, كل برنامج مكوّن من ثلاثين حلقة, أولها (موسم الألحان من السماء), وقد عرض في التلفزيونين السوري واللبناني, وثانيها (عباقرة في فن التجويد), وهو أيضًا في ثلاثين حلقة للتلفزيون السوري, أما البرنامج الثالث فهو (فن الترتيل والتجويد), وقد عرض على إحدى القنوات اللبنانية الخاصة, وقدم أيضًا (فن الألحان في تلاوة القرآن), وقد عرض في دول عربية عدة. وقدم الموسيقار عمار الشريعي, في برنامجه, الذي يعرض سنويًا بإحدى القنوات المصرية الخاصة (سهرة شريعي), حلقات مع قراء الكتاب الكريم وعنهم, مما يجعل هذه البرامج المصوّرة والمسموعة وثائق حيّة لهذا الفن.
ولكن مع طفرة الوسائط الناقلة, يجد اليوم, عشّاق سماع القرآن الكريم بأصوات قرّائه في المشرق والمغرب, منافذ إلكترونية للاستماع والاستمتاع بقراءات حية, وتسجيلات نادرة, ليس فقط للتلاوة, بل لحوارات مع شيوخ القرّاء.
ففي موقع (قرّاء القرآن الكريم), وعنوانه: www.qquran.org, تسجيلات لثلاثة وعشرين قارئًا, فضلاً عن مقابلات عدة, منها مقابلة مع الشيخ عبدالباسط عبدالصمد (صوت العرب), ومدتها 45 دقيقة, ولقاء مع الشيخ مصطفى إسماعيل, بُثت بإذاعة القرآن الكريم, وحوار مع الشيخ محمود خليل الحصري, ومقابلة مع الشيخ أبوالعينين شعيشع عن الشيخ محمد رفعت.
ويحظى الشيخ محمد رفعت - بالرغم من ندرة تسجيلاته - بأدبيات كتابية كثيرة على شبكة الإنترنت - وفي مجلة الرسالة, يكتب عنه الأديب (محمد السيد المويلحي): (سيد قراء هذا الزمن, موسيقي بفطرته وطبيعته, إنه يزجي إلى نفوسنا أرفع أنواعها وأقدس وأزهى ألوانها, وإنه بصوته فقط يأسرنا ويسحرنا دون أن يحتاج إلى أوركسترا). ويصف الموسيقار (محمد عبدالوهاب) صوت الشيخ محمد رفعت بأنه ملائكي يأتي من السماء لأول مرة, أما الأستاذ (علي خليل) (شيخ الإذاعيين فيقول عنه: (إنه كان هادئ النفس, تحس وأنت جالس معه أن الرجل مستمتع بحياته وكأنه في جنة الخلد, كان كيانًا ملائكيًا, ترى في وجهه الصفاء والنقاء والطمأنينة والإيمان الخالص للخالق, وكأنه ليس من أهل الأرض). ونعته الإذاعة المصرية عند وفاته إلى المستمعين بقولها: (أيها المسلمون, فقدنا اليوم علمًا من أعلام الإسلام). فيما جاء نعي الإذاعة السورية على لسان المفتي حيث قال: (لقد مات المقرئ الذي وهب صوته للإسلام!!!).
ويبدو أنه في ظل تنافس المواقع الإلكترونية على استضافة التسجيلات الصوتية لقراءة القرآن الكريم, فإن الشبكة الإسلامية www.islamweb.net تقدم نحو ثلاثمائة قارئ, مما يجعلها بوابة استماع حقيقية. بينما لا يكتفي موقع ترتيل بتقديم مكتبة سمعية وحسب, بل يرفقها بأكثر من نافذة تمثل دروسًا في التلاوة والتجويد: www.tarteel.com, وينشر هذا الموقع رسالة بعنوان (دروس في ترتيل القرآن الكريم), ألفها الشيخ فائز عبدالقادر شيخ الزور, الذي تلقى الدرس عن شيخ قرّاء حماة الشيخ سعيد العبدالله, كما يرفق الموقع مادة سمعية للكتاب.
أما موقع نداء الإيمان, وعنوانه: www.al-eman.com/Quran, فلا يكتفي بذلك أيضًا, فيقدم الآيات البيّنات نصًا وصورة وسماعًا, مع أحكام التلاوة, وفهارس موضوعية, وتسجيلات صوتية للقرآن الكريم بأصوات نحو 20 قارئًا, بينما يسهب موقع إسلاميات www.islamiyyat.com في فصول التجويد, وقد جمعت السور القرآنية مجوّدة بصوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد, والشيخ محمود خليل الحصري, والشيخ محمد صدّيق المنشاوي.
وقد وضعت إدارة الدراسات الإسلامية في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت, وعنوانها: douralquran.com مكتبة صوتية لتسعة قراء. ويمكن الاستماع عبر شبكة الإنترنت إلى عدد كبير من الإذاعات للقرآن الكريم, ومنها إذاعة القرآن الكريم في نابلس, بفلسطين, وعنوانها الإلكتروني: www.quran-radio.com .