مختارات من:

عبدالوهاب.. موسيقار الأجيال.. سرقات أم اقتباسات?

سليم سحاب

منذ أن أصدرت منظمة اليونسكو بجناحها العربي في سنة 1979 لائحة تضم 13 أغنية لمحمد عبدالوهاب متهمة إياه بسرقة ألحانها من أعمال موسيقية غربية وأنا أتناول هذا الموضوع في إطاره الموسيقي فقط, والهدف من ذلك هو إبعاد تهمة السرقة عن محمد عبدالوهاب على أساس أنه مارس ما مارسه غيره من أساطين الموسيقى الغربية.

لقد تناولت الموضوع أول مرة في جريدة السفير اللبنانية سنة 1979, مما أدى الى مساجلة طويلة بيني وبين الدكتور عزيز الحاج رئيس المجموعة العربية آنذاك في المنظمة المذكورة, لم تنته إلا يوم 6/3/2000 بمقالة للدكتور فكتور سحاب عنوانها (خاتمة سعيدة لقصة في ستة مشاهد) على صفحات السفير, وردا على مقالة الدكتور الحاج على صفحات الصحيفة نفسها يوم 2/3/2000 الذي دافع عن نفسه وعن اليونسكو بعد أن وافق مجلسها التنفيذي على إدراج اسم محمد عبدالوهاب ضمن الشخصيات التي تحتفل بها المنظمة بمناسبة ذكرى ميلاده المئوية.

وتناولت الموضوع مرة ثانية في مجلة الكواكب المصرية في بداية التسعينيات من القرن المنصرم ردًا على ملحن مصري كرس حياته لرصد اقتباسات محمد عبدالوهاب من الموسيقى الغربية واتهامه بالسرقة, وتناولته مرات عديدة في مقابلات إذاعية وتلفزيونية وصحفية وما زلت. ومع ذلك أرى أني لم أفِ الموضوع كامل حقه وذلك لحصري إياه في مجال الموسيقى فقط, وهذا ما أعطاه حجمًا أكبر مما لو وضع بين أقرانه من الاقتباسات الفنية في جميع ميادين الفن: المسرح, الشعر, الرواية, الرسم والسينما, ذلك كي يأخذ الموضوع حجمه الطبيعي الصغير ولرفع الظلم عن فنان كبير أصبح رمزًا من رموز الحضارة العربية وأصبح أكبر من احتياجه للدفاع عنه, ولنثبت أن الاقتباس الفني في جميع ميادين الفن ومنذ أقدم العصور ظاهرة صحية موجودة ويمارسها كل الفنانين الكبار في جميع البلاد والعصور.

العودة للأصول في المسرح

عودة في التاريخ إلى القرن السابع عشر. نحن الآن في سنة 1636. على أحد مسارح باريس, يعرض المؤلف المسرحي بيير كورناي Pierre Corneille باكورة أعماله المسرحية (السيد) Le Cid التي أحدث ظهورها هزة في الأوساط الأدبية عامة وفي الأوساط المسرحية خاصة. فأصبح يُؤرخ لنا المسرح الفرنسي: قبل (السيد) وبعد (السيد). وقد أبدعها كورناي بمفاهيمه التي تقف موقفًا وسطًا بين المفاهيم الجمالية لعصر النهضة, القائمة على التحرر من أية قيود في الذوق والخيال والأبعاد, والمفاهيم الجمالية للمدرسة الكلاسيكية الوليدة التي قيدت الكتابة المسرحية بالوحدات الثلاث المعروفة: وحدة المكان والزمان والموضوع, وبضرورة اللجوء إلى التراث القديم. هذا ما نعرفه عن (السيد) لكورناي. ولكن ما لا يعرفه الكثيرون أن هذه المسرحية وحتى اسمها مأخوذان عن مسرحية لمؤلف مسرحي إسباني معاصر لكورناي اسمه جييرمودي كاسترو Guillermo di Castro) واسم المسرحية (السيد) El Cid.. سرقة أم اقتباس?

ننتقل بالزمن 25 سنة إلى الأمام. نحن في بداية الخمسينيات من القرن السابع عشر, العصر الكلاسيكي للفنون وخصوصا المسرح. وكان يسيطر على الحياة المسرحية في باريس مؤلف شاب اسمه جان راسين Jean Racine وكانت المفاهيم الكلاسيكية قد أصبحت مترسخة وسائدة في جميع النواحي الفنية, وأهمها استلهام التراث القديم إلى جانب الوحدات الثلاث. فعادت أبطال مسرحيات. يوريبيدس واسخيلوس وسوفوكليس بمواضيعها وأبطالها الإغريقية إلى المسارح الفرنسية. وأعاد راسين في مسرحيته (أندروماك) قصة أوريست وبيروس وهرميون وأندروماك أرملة هكتور بطل حروب طروادة واستعاد في مسرحية (فيدر) قصة فيدرا وهيبوليت. أما في مسرحيته (بريتانيكوس) فيلجأ راسين إلى مسرحية رومانية تصف حقبة نيرون الطاغية والجرائم التي اقترفها بقتله والدته التي مهدت له اغتصاب العرش من أخيه (بريتانيكوس) الذي قتله بدوره بعدما قتل زوجته التي حاولت ردعه عن جرائمه. سرقات أم اقتباسات?

ننتقل إلى مؤلف كلاسيكي آخر موليير (Moliere) لنرى أنه أخذ بعض مواضيع مسرحياته من مسرحيات أريستوفانيس الإغريقي. وأذكر أننا عندما درسنا موليير في السنة الثانية الثانوية قرأنا في كتاب الأدب الفرنسي وفي مسرحية البخيل, مقارنة بين نصين: الأول من الشمال من بخيل موليير والثاني من اليمين من بخيل أريستوفانيس. وكان التشابه حرفيًا بين النصين لولا بعض الإضافات المبتكرة لموليير على النص الأصلي, ومنها أنه عندما كان البخيل يحقق بفقدانه صندوق ماله استدعى خادمه وطلب منه أن يريه يديه, ففعل. هذا في النصين. وهنا يضيف موليير من عنده (أرني يديك الأخريين) متخيلاً أن له أربع أيدٍ من تأثير هلوسته لفقدانه ماله. سرقة أم اقتباس?

كذلك أخذ لافونتين (Jean de la Fontaine) الشاعر الكلاسيكي الفرنسي الذي كتب القصص عن الحيوانات وعلى لسانها أخذ السواد الأعظم من قصصه هذه عن قصص المؤلف الإغريقي إيزوب Ezope عن الحيوانات. سرقة أم اقتباس?

كاتب آخر هو لا بيرويير La Bruyere أخذ جل مواضيعه في كتابه الأشهر (الشخصيات) (Les caracteres) عن كتــاب بالاســـم نفـــسه لكاتب إغــريقي لا يحضرني اسمه. وقد برر لابرويير في أول جملة من كتابه الحجم الكبير لاقتباسه مواضيعه عن الكاتب الإغريقي بمقولة ذهبت مضرب الأمثال في الاحتياج الدائم للجوء إلى التراث والاقتباس منه. المقولة هي: (كل شيء قد قيل, وقد جئنا متأخرين جدا). (tout est dit e lصon vient trop trad).. سرقة أم اقتباس?

وفي الروايات أيضا

ننتقل الآن إلى القرن التاسع عشر وإلى أهم رواية في تاريخ فرنسا الأدبي وأعني ملحمة (البؤساء) لفيكتور هيجو, الفصل الثاني من الفصول الخمسة الضخمة التي تتألف منها الملحمة يحمل اسم كوزيت Cosette ويروي, بعد أن يُقسم البطل جان فالجان في الفصل الأول عند انكشاف أمره أمام الشرطة بأنه سجين سابق, وأمام فانتين والدة كوزيت وهي تحتضر بأن يعتني بابنتها, يروي بأسلوب غاية في الإبداع والإمتاع والروعة والعمق الإنساني كيف يهرب من الشرطة ويذهب إلى بلدة مون فيرماي Montfermeil التي كانت تعمل فيها كوزيت عند عائلة (تيناردييه) الذين استغلوها أبشع استغلال أدى إلى وفاة والدتها من كثرة ما طالبوها من أموال بحجة الصرف على ابنتها. إن وقائع إنقاذ كوزيت كما وردت في هذه الملحمة مع اسم البلدة التي زارها فيكتور هيجو سنة 1845 يذكّر في الكثير من النقاط برواية (بائعة الحليب) من مون رماي (La laitiere di Montfermeil) التي كتبها الروائي بول دي كوك Paul de Kock سنة 1827 أي 35 سنة قبل رواية البؤساء. كل ذلك كما ورد في حاشية الكتاب في آخر الرواية.. سرقة أم اقتباس?

وإذا انتقلنا إلى روائي آخر من القرن التاسع عشر وهو الكسندر ديما Alexandre Dumas نرى أن اثنتين من أعظم رواياته وهما الكونت دي مونتي كريستو) من بدايتها حتى سجنه وهروبه من السجن مأخوذة حرفيًا عن محضر شرطة أطلع عليه الكسندر ديما وبنى على أساسه روايته الشائقة, مغيرًا مصير البطل الذي يموت في الحقيقة بعد هروبه وهو يحاول الأخذ بالثأر من الذين تسببوا في سجنه سنوات طويلة, بينما يتمكن إدمون دانتيس بطل الرواية من الحصول على كنز خرافي موجود على جزيرة مونتي كريستو يستعمله في عملية الثأر. كل هذا في سياق روائي من أروع ما كُتب في فن المغامرات والإثارة والتشويق. سرقة أم اقتباس?

وما دمنا بصدد (الكونت دي مونتي كريستو) فلا بد من ذكر الوصف المثير لهرب (إدمون دانتيس) بطل القصة من حصن (إيف) كما ورد بكل تفاصيله مع علاقته بالأب السجين (فاريا) الذي علمه كل العلوم وأطلعه على سر الكنز ومكانه. إن جميع تفاصيل الهروب المثير بما فيها جميع وسائل النحت في الجدران والمواد اللازمة لصناعة الشمع للرؤية الليلية وإخفاء الرمل المتأتي عن النحت في الجدران وغيرها من التفاصيل ووجود شخصية الأب (فاريا), كل هذا أخذه ألكسندر ديما من كتاب مذكرات كازانوفا (ولد سنة 1725) من المجلد الرابع الذي يصف فيه كازانوفا بكل التفاصيل التي وردت في رواية (الكونت) كيفية هربه من السجن بمساعدة الأب السجين (بالبي) مع بعض التغييرات البسيطة.. سرقة أم اقتباس?

أما روايته الأخرى العظيمة (الفرسان الثلاثة) فنقرأ في المقدمة التي كتبها الكاتب نفسه: المقدمة التي نؤكد فيها أنه بالرغم من أن الأسماء التي تنتهي بالأوس والإيس, فأبطال الرواية التي لنا شرف سردها على قرائنا ليس فيهم أي شيء أسطوري. فمنذ سنة, وأنا منكب على بحثي في المكتبة الملكية لكتابي (تاريخ لويس الرابع عشر), وقعت بالصدفة على (مذكرات السيد دارتانيان) وفي مكان آخر نقرأ: (... ويروي دارتانيان أنه في الزيارة الأولى للسيد دي تريفيل قائد فرسان الملك يلتقي بثلاثة شبان ينتمون لهذه الفرقة الشهيرة ويحملون أسماء أتوس وبورتوس وأراميس). ويتابع الكاتب في مقدمته: (... ومنذ ذلك الحين لم نعد نعرف طعمًا للراحة ونحن نبحث في المكتبات عن أي كتاب لهذه الحقبة يحتوي على أي أثر لتلك الأسماء الخارقة التي أثارت فضولنا). ويتابع: (... وبعد بحث طويل ومستمر كدنا فيه أن نيأس من وجود أي شيء, وعندما كدنا نهمل هذا البحث العقيم وجدنا مخطوطة بعنوان (مذكرات السيد الكونت دي لافير) المتعلقة ببعض الأحداث التي حصلت في فرنسا في نهاية عهد الملك لويس الثالث عشر وبداية عهد الملك لويس الرابع عشر). (... ولكم أن تتصوروا كم كانت فرحتنا عظيمة ونحن نتصفح هذه المخطوطة عندما عثرنا في الصفحة العشرين على اسم أتوس والصفحة الحادية والعشرين على اسم بورتوس والصفحة الحادية والثلاثين على اسم أراميس). إذن لم يقتبس الكاتب الكبير موضوع روايته العظيمة بكامله فقط بل استعمل أسماء الأبطال الواردة في المخطوطة. أيضًا.. سرقة أم اقتباس?

وفيما يختص بالاقتباس عند ألكسندر ديما يدافع الكاتب الفرنسي جاك لوران عن الكاتب وعن أخذه الكثير من كتّاب معاصرين وغير معاصرين ومن مستويات مختلفة, في المقدمة التي كتبها لرواية الكونت دي مونتي كريستو بمقولة خطيرة تسري على كل الفنانين العظام الذين مارسوا الاقتباس في أعمالهم الفنية بغض النظر عن نوع الفن الذي أبدعوا فيه. فيقول حرفيًا: (لقد اكتشف المتخصصون ما يدين به ديما لـ ماكيه (Maquet) وكيف أنه استلهم من كتب بوشيه (Peuchet) وأرنو (Arnoud) وحتى أوجين سو (Eugene Sue). وهذا التفصيل لا يهمني أكثر من التفاهات التي توضع في القوقعة لتحريضها على تقطير وبلورة اللؤلؤ)!

من منا لم يقرأ ولو قصة واحدة من مغامرات شارلوك هولمز? هذه الشخصية التي ابتكرها الكاتب الإنجليزي الطبيب الضابط في الجيش آرثركونان دويل في أواخر القرن التاسع عشر. هذا البطل الذي تلقى ويتلقى لغاية الآن ملايين الرسائل من المعجبين من جميع أنحاء العالم. وقد تحولت شقته في القصص (مع صديقه وراوي سيرته الدكتور واطسون) الواقعة في شارع (بيكر ستريت) في وسط لندن, الى مزار لملايين المعجبين حتى الآن.

إن أسلوب شارلوك هولمز العلمي المنطقي في جمع الوقائع والأحداث ووضعها في تسلسلها المنطقي حتى الوصول بطريقة الاستنتاج إلى حقيقة المعضلة المطلوب منه حلّها, هذا الأسلوب أخذه أرثر كونان دويل حرفيا من (إدجار آلان بو) (ولد سنة 1809) والذي استعمل أسلوب الاستنتاج ذاته في ربط الوقائع والأحداث في تسلسلها المنطقي للوصول إلى الحل, كما في قصته (جريمة قتل في شارع مورج) أو في قصته المثيرة والمذهلة (الجعران الذهبي) وغيرها وغيرها.. سرقات أم اقتباسات?

وتتكرر في الرسم

وإذا انتقلنا إلى الرسم نرى ظاهرة الاقتباس في أجلى مظاهرها. ومن مئات الأمثلة اختار أربعة رسامين من عصور مختلفة, وهم فيلاسكيز وبيسارو وبيكاسو وسلفادور دالي.

في القرن السابع عشر اشتهر الرسام الإيطالي المعروف (كارَفادجو) بأسلوبه الواقعي المبتكر البعيد كل البعد عن الأساليب الأكاديمية للرسم. السبب هو عدم دراسته فنون الرسم في أية مدرسة أكاديمية. وكان لأسلوبه الواقعي هذا التأثير الكبير على فناني جيله. ومن بين من تأثر به الفنان الإسباني الشهير دييجو فيلاسكيز (1599 - 1660) خاصة في بداية مشواره الفني. ففي سنة 1618 وهو في سن التاسعة عشر رسم فيلاسكيز لوحته الشهيرة (امرأة عجوز تطهو البيض) متأثرًا بواقعية كارفادجو التي تبدو واضحة في الفقر الشديد البادي في ثياب المرأة وعلى وجهها الضعيف والبارز العظام وفي عينيها الجامدتين الفارغتين من أي تعبير والأواني الكثيرة الفارغة.. سرقة أم اقتباس?

في ذروة سيطرة المدرسة الانطباعية في فرنسا جاء جورج سورا (1859 0 1891) بثورة جديدة في عالم الرسم واضعًا نظرية اللون والأسلوب العلمي لمدرسة الانطباعية الجديدة. وحسب نظريته يجب على الرسام أن يقسم اللون والنور والظل إلى بقع غاية في الصغر. هذه الطريقة أدت إلى ظهور مدرسة البوانتيبيزم (التنقيطية), أي الرسم بالنقط بطريقة لو نظرنا من خلالها إلى اللوحة من بعيد تضيع النقط مؤلفةً المنظر العام لها. وظل معاصره كاميل بيسارو المولود قبله بـ 29 عامًا (1830 - 1903) يبحث عن أسلوب جديد للرسم, خارج المدرسة التنقيطية فأحس أنه وجد أخيرًا الأسلوب الذي يجب أن يتبعه. فاعتنق التنقيطية على يد سورا وسار عليها لآخر عمره. وكانت السبب في شهرته التي بحث عنها طوال حياته. سرقة أم اقتباس?

في سنة 1927 عرض بيكاسو لوحة كان قد رسمها في 1906 اسمها آنسات من فينييون. وجاءت هذه اللوحة كسرًا نهائيًا مع مرحلتيه الأوليين الزرقاء والوردية. وكانت بداية مرحلة جديدة ليس في فنه فقط بل وفي تاريخ الفن الأوربي. ومن أهم ما رسم في هذه المرحلة إلى جانب اللوحة المذكورة: الكمان 1913 الراقصات الثلاث 1925, الجرينيكا 1937, امرأة في الكرسي الهزار 1943, ورأس امرأة 1949. وقد امتدت هذه المرحلة إلى أكثر من 50 عامًا وكانت في أساس ظهور المدرسة التكعيبية في الرسم. أما سبب ظهور هذا التحول الخطير والمفاجئ في أسلوب بيكاسو فيرده النقاد إلى وقوعه تحت تأثير معرض المنحوتات الإفريقية البدائية الذي أقيم في باريس سنة 1906.. سرقة أم اقتباس?

وإذا انتقلنا إلى رسام آخر وهو سلفادور دالي فإن استعارته الرمزية والتفاصيل التخيلية التي تمتلئ بها أعماله كلها نراها بكاملها عند فنان هولندي ألماني الأصل هو جيروم بوسخ (Bosch) مواليد 1450. ولا يفرق بينهما سوى اختلاف أساليب التنفيذ وسببه القرون الخمسة التي تفصل بين الرسامين.. سرقات أم اقتباسات? وما دمنا ذكرنا بوسخ فلا بد من الإشارة إلى أن تعامله مع النور وحسه في التأليف الفضائي وإيحاء العمق والمسافة, كل هذه العناصر التي حققها في أعماله تذكّر بأعمال جان وهوبيير فان ايك. كل هذا نراه بوضوح شديد عند سلفادور دالي.. سرقات أم اقتباسات?

وننتقل إلى الشعر. كلنا يعرف قصيدة (مع الجريدة) لشاعرنا الكبير نزار قباني.


أخرج من معطفه جريدة
وعلبة ثقاب... إلخ


ولكن من منا يعرف أن هذه القصيدة منقولة بتصرف عن قصيدة من ديوان (كلمات) (Paroles) للشاعر الفرنسي الذي لمع اسمه في منتصف القرن العشرين جاك بريفير (Jacques Prevert). كلنا يعرف لنزار (القصيدة الشريرة) التي يصف فيها علاقة آثمة بين امرأتين..


مطر مطر وصديقتها
معها ولتشرين نواح
والباب تئن مفاصله
ويعربد فيه المفتاح... إلخ


ولكن من منا يعرف أن هذه القصيدة مأخوذة عن قصيدة بنفس الموضوع من ديوان أزهار الشر (Les fleurs d mal) لشاعر الواقعية الفرنسية شارل بودلير? سرقات أم اقتباسات?

نوع آخر من الفنون. السينما. كل من رأى أفلام عبقري السينما شارلي شابلن يعرف أن كل المفردات الكوميدية للسينما مأخوذة حرفيًا منه وأن من بعده لم يخترعوا أية مفردة جديدة في هذا المضمار. من هذه المفردات ضرب الناس على وجوههم بالتورتات المصنوعة من الكريمة, أو إظهار البطل بثياب أنيقة جدًا من فوق ومع رجوع الكاميرا إلى الوراء تظهر ثيابه الداخلية من تحت, أو كسر الموقف الدرامي الذي يكاد أن يؤدي إلى مأساة بموقف كوميدي مفاجئ.. سرقات أم اقتباسات?

كل من رأى فيلم ألفرد هيتشكوك المبدع الكبير لأفلام الإثارة (الطيور) يعرف من أين أتت سلسلة أفلام الكوارث المتعلقة بالحيوانات التي تهاجم البشر: من تماسيح ضخمة وعناكب سامة وأسماك طائرة ونمل وأسماك القرش كما في فيلم (الفك المفترس) والأفاعي الضخمة كما في فيلم (اينكوندا) والأسماك المفترسة كما في فيلم (بيرانيا) والديناصورات كما في فيلم (جوراسك بارك) وغيرها من الحيوانات والأفلام. سرقات أم اقتباسات?

من رأى فيلم الرجل الذي عرف كثيرًا The man who knew too much) تمثيل دوريس داي وجيمس ستيوارت وإخراج ألفرد هيتشكوك يدرك من أين جاءت أساليب الإثارة في الأفلام الحالية, خاصة عندما تتمشى الكاميرا ببطء شديد في ممرات طويلة مظلمة, كل هذا بمصاحبة صمت طويل مطبق يكتم أنفاس المشاهد ويرفع جرعة الإثارة إلى أقصى حد.. سرقات أم اقتباسات?

كم فيلما أنتجته هوليوود عن تصنيع أوبئة والمصل المضاد لها مرة بواسطة الجيش الأمريكي للحصول على أسلحة دمار شامل فتاكة ومرة بواسطة جماعات إرهابية لكسب أرباح خيالية من المصل المضاد لم يكن فيلما عن مرض شبيه بمرض (ايبولا) ينقله قرد صغير على سفينة تجارية قام بتمثيله داستن هوفمن. وخلاصة الفيلم اتهام الجيش الأمريكي بتصنيع هذا الوباء وإخفاء مصله المضاد عن المصابين به حفاظًا على أسرار الجيش العسكرية البيولوجية. وليس آخر هذه الأفلام (مهمة مستحيلة 2) الذي قام بتمثيله توم كروز.. سرقات أم اقتباسات?

نصل أخيرًا إلى الموسيقى. وأراني مضطرًا ولو باختصار إلى ذكر الاقتباسات التي مارسها الموسيقيون الغربيون بأخذهم ألحانًا بعضهم من بعض لا لتبرير اقتباسات محمد عبدالوهاب فهو لا يحتاج إلى ذلك بل لإثبات أن الاقتباس في جميع الفنون موجود منذ القدم وأنه عملية يمارسها كل الفنانين الكبار بغض النظر عن الفن الذي يمارسون. ونبدأ بباخ. لقد أخذ باخ حرفيًا الكثير من تيماته أو مواضيع فوجاته من ملحنين معاصرين له أهمهم (فرسكو بالدي) الإيطالي (وبوكستيهوده) الألماني. وقد اطلعنا على هذا الموضوع بالتفاصيل أثناء دراستنا للموسيقى في روسيا في مادة تاريخ الموسيقى الغربية. موتسارت أحد أعظم موسيقيي التاريخ أخذ كثيرًا من الألحان من الكثير من زملائه ومن ضمن ما أخذ لحن الفوجا المزدوجة الشهيرة (كيريي الايسون) من القداس الجناز (ريكوبيام) أخذه من أوارتوريو (المسيح) لهندل. ومن الأوراتوريو نفسه أخذ بتهوفن حرفيًا من كورال هالليولويا تيمة الفوجا التي وضعها في جزء (انيوس ديي) من قداسه الاحتفالي. كما أنه أخذ بداية سيمفونيته الثالثة البطولية من افتتاحية أوبرا (باستيان وباستيانا) التي ألفها موتسارت في سن الثالثة عشرة. الضربات الأربع الشهيرة التي تبدأ بها السيمفونية الخامسة التي تمثل القدر وهو يقرع على الباب أخذها بتهوفن من رقصة (تارنتيلا) إيطالية من القرن السادس عشر. كذلك تشايكوفسكي الذي أخذ لحنًا من أوبرا بيزيه (كارمن) واستعمله كلحن ثانوي في الحركة الأولى من كونشرتو الكمان والأوركسترا الشهير. وكذلك اللحن الثانوي من الحركة الأولى من أعظم سيمفونياته (السادسة) أخذها من أبرا فاوست لجونو. وكذلك ليست وبرامز ورخمانينوف وشابرييه لغاية شوستاكوفيتش (توفى سنة 1975) وغيرهم وغيرهم. ولو أردنا الاستمرار في سرد هذه الاقتباسات لاحتجنا لصفحات كثيرة.

ماذا بقي الآن من اتهام محمد عبدالوهاب بالسرقة? إني أعتقد أن هذه التهمة الخاطئة سببها إما عدم معرفة مخترعيها بدور الاقتباسات في تطور جميع أنواع الفنون, أو تجاهلها لأسباب شخصية أو لأسباب أخرى كما حدث عند إصدار لائحة الاتهام, أو عدم معرفتهم أساسًا بوجود هذه الاقتباسات التي ذكرناها في جميع العصور وعند جميع الفنانين وفي كل أنواع الفنون.

إن الاقتباس ظاهرة كانت موجودة منذ أقدم العصور قبل محمد عبدالوهاب وفي أثناء حياته وستظل موجودة إلى ما شاء الله ما دام هناك فنون وفنانون يبدعون وتواصل في التراكم الحضاري.

سليم سحاب مجلة العربي نوفمبر 2005

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016