مختارات من:

لبنان الجريح.. لبنان الصامد

سليمان إبراهيم العسكري

مرة أخرى يقف لبنان في مواجهة قوى الشر والعدوان، مرة أخرى يدفع هذا الشعب النبيل ضريبة الدم عنا جميعا، يحارب العدو الصحيح. يخطو لبنان ـ معمدا بالنار والبارود ـ فوق أنقاض ماض عربي مليء بالتعاسات، ليخطو نحو مستقبل غامض لا نعرف آفاقه بعد، إنها وحدة الدم العربي المهدور التي تجمعنا معا، بإرادتنا ورغما عنا، يمتزج الدمان الزكيان، اللبناني والفلسطيني، ليقدما شهادة على عهد من التخاذل، والضعف والهوان الذي يدفع ثمنه الأبرياء، انهار الخط الأخضر في فلسطين، والخط الأزرق في لبنان،وكل ما فرضه علينا العدو من خطوط، ولم يبق إلا خط واحد هو خط النار. إن آلة الحرب الإسرائيلية في قمة جنونها، تعيث في القلب العربي تدميرا وقتلا، وكلما أوغلت في ذلك، ازدادت استهتارا بأي رادع أخلاقي أو إنساني، لم يعد من سبيل غير امتلاك القوة لردعها وإيقافها عند حدها، ولن نستطيع فعل ذلك بواسطة أجساد الأطفال العزل في فلسطين، ولا بترك قرى الجنوب المهدمة والمحاصرة في لبنان تلاقي مصيرها، ولا بإصدار الفتاوى أو بيانات الشجب والإدانة، ولا حتى بعشرات من مظاهرات المواطنين الغاضبين مهاني الكرامة في الشوارع العربية، لن تجدي المؤتمرات الدولية الصورية، ولا مواقف الأمم المتحدة الخاذلة، السبيل الوحيد أن نتعلم الدرس من لبنان وفلسطين، أن ننتقل من ثقافة الهزيمة إلى ثقافة المقاومة، أن يجمع العرب قوتهم الضائعة وإرادتهم وأن ينزعوا عنهم قيود الضعف والتخاذل، ولتكن حمم النار المشتعلة في لبنان وفلسطين هي المصهر الذي يعيد تشكيل نفوسنا المتخاذلة.

إنها اللحظة الحاسمة، وربما لن توجد بعدها لحظة أخرى، إذا لم نفق وننهض فسوف تدمر مدننا وتنهار دولنا واحدة تلو الأخرى. لقد دفع لبنان الثمن عنا جميعا، ويجب ألا يمضي هذا الثمن الفادح هدرا، علينا الاستفادة منه وتحويله إلى قوة دافعة لنا جميعا، فهذه الحرب ليست ضد لبنان وحده، ولا ضد فئة من اللبنانيين وحدهم، ولا ضد أهالي غزة والضفة الغربية، ولكنه ضد كل الأحلام العربية التي تنتظر بزوغ الغد، ضد الوجود العربي ذاته، يجب ألا يمر ما حدث دون سبب، ودون أن يوقظنا جميعا من سبات التخلف الثقيل، فالقاتل الإسرائيلي ليس قويا إلا بسبب ضعفنا، وليس متجبرا إلا بمقدار هواننا، وهذا هو الدرس الأهم في معركة لبنان، فتلك الحفنة الضئيلة من الصواريخ التي أطلقت على مدنه قد أثارت هلعه، وشلت اقتصاده،وتلك المقاومة التي أبداها مقاتلو لبنان على الأرض جعلته يرتعد ويوقف تقدمه البري أجل.. قليل من المقاومة كشف عن حجم هذا العدو ومدى خوفه وجبنه، فماذا لو تخلى المنصاعون عن انصياعهم، وكف المهادنون عن تهادنهم، ماذا لو قاومنا كلنا، لو نهضنا جميعا وصرخنا في مواجهة الذلة والهوان وعبرنا عن كل ما يعتمل في صدورنا من غضب وحرقة؟

إن تلك المجازر والنيران المشتعلة، تدور في أهم وأقدس مناطق العالم العربي، فتلك المنطقة التي تمتد من نهر الأردن إلى بحر صور، هي موطن الحضارة التي أعطت العالم الكلمة والدين وغصن الزيتون، فعلى تراب فلسطين سار الأنبياء، وعلى تلالها هبط الرسل، يحملون كلمة الله إلى كل البشرية، وكل ما على هذه البقعة من آثار ـ تلك التي يقصفها الإسرائيليون الآن ـ صنعتها أرواح البشر قبل أيديهم، ومن المؤسف أن يتم هذا الدمار لذلك الجزء المهم من حضارة العالم وسط صمت العالم.

وقد كانت لبنان ـ وسوف تظل ـ وطنا استثنائيا، وطنا للتعايش بين الطوائف المختلفة، ووطنا للحوار، ووطنا للثقافة، وكان يمكن أن يكون بعد تجربة الحرب الأهلية المريرة التي مر بها في أواخر القرن الماضي، نموذجا للحرية والتفاهم بالنسبة لبقية العرب، ولعل الكتاب، الذي هو أداة التقدم الحضاري، لم يستمتع بالحرية في أي قطر عربي، بالحرية التي تمتع بها في لبنان، والثقافة العربية، مدينة في جزء كبير منها لهذا البلد الصغير. لقد كان لكتابه وأدبائه وشيوخه وقساوسته، الفضل الأكبر في تأصيل اللغة العربية وإثراء الوجدان العربي على مدى عقود من الزمان.

إننا في حاجة إلى عهد عربي جديد يحمي مواطنيه من عودة هذه المجازر، عهد نعتمد فيه على أنفسنا وقوتنا الذاتية، ونصون كرامة مواطنينا، ولا نقدمهم لقمة سائغة لآلة القتل الإسرائيلية، فمهما كانت قوى العرب ضئيلة فقد أثبتت التجربة أنها فعالة وقادرة على وقف البغي العدوان، إن الذي أكسب «صلاح الدين الأيوبي» شرعيته - وهو الكردي - ليقود كل الجيوش العربية، هو أنه لم يهادن الصليبيين، لم يكن صلاح الدين في حاجة لاستئذان مجلس الأمن من أجل إنقاذ القدس، ولم يكن كل الشهداء العرب في حاجة لمباركة العالم الغربي وهم يموتون دفاعا عن بلادهم، إن المأساة التي تحدق بلبنان وتتواصل في فلسطين لم يعد من الممكن الاستسلام لها، فهو لن يعني إلا مد حبال الانتظار حتى تأتي الضربة القادمة، ساعتها لن ينفعنا التباكي، فقد شلت أعيننا من كثرة البكاء، وجف الدم في عروقنا من فرط ما نزفنا، ساعتها لن نبكي لبنان وفلسطين فقط، بل سنبكي أنفسنا الخانعة، إلا إذا نهضنا وقاومنا وتغيرت، قبل أن نمحى من صفحة الوجود.

سليمان إبراهيم العسكري مجلة العربي سبتمبر 2006

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016