حاول مثقفو الدول المتطورة في عصر العولمة الاستفادة القصوى من تفوق الغرب التكنولوجي الواضح، في مختلف المجالات، لفرض ثقافة موحدة على جميع دول العالم.
لقد انقسم المثقفون العرب بين فئة تحبذ الاقتباس السريع لتكنولوجيا الغرب، لكنها ترفض مسبقًا غالبية قيمه الثقافية، تحت ستار الحفاظ على الأصالة، وفئة تحذّر من فصل التكنولوجيا عن القيم الثقافية التي أنتجتها، لأن هذا المنحى يقود إلى التغريب والتبعية وليس إلى الحداثة.
وقد نشرت دراسات لا حصر لها حول ثقافات عصر العولمة، والصراع الخفي أو المضمر بين «الأنا» و«الآخر». وتحوّل الحوار مع الآخر إلى حاجة ملحّة، بسبب الخوف من ضياع الثقافات الإنسانية السابقة، أو دمجها في ثقافة عصر العولمة الموحدة من موقع الإلحاق والتبعية وتذويب الخصوصيات المحلية.
تعيش شعوب العالم اليوم عصر العولمة وسط خوف كبير على الذات والمصير، فالعولمة تساهم في تدفق الأفكار والسلع والخدمات بين جميع الدول. وهي تتجاوز الكثير من الحواجز والقيود السابقة، وتنزع إلى توحيد العالم في مختلف مجالات السياسة والاقتصاد، والثقافة مع ما يحمل هذا التوحيد من مخاطر جدية لإلغاء التنوع الثقافي. ومع بلوغ العولمة مرحلة القطب الواحد والعمل على تهميش كثير من الشعوب والثقافات، انبرت كثير من الدول لمواجهتها ودرء سلبياتها الكثيرة. وذلك يتطلب فهمًا دقيقًا لسيرورة التاريخ العالمي في المرحلة الراهنة التي تشكل العولمة أحد أبرز تجلياتها. فقد فرضت القوى الفاعلة في عصر العولمة مفاهيم عالمية يجري تعميم مقولاتها الأساسية انطلاقا من ثلاث قضايا شمولية:
الأولى - التشديد على أن الديمقراطية هي النظام الوحيد الواجب اعتماده على المستوى السياسي.
الثانية - اعتماد الليبرالية وما يستتبعها من خصخصة شبه شاملة على المستوى الاقتصادي.
ثالثًا - بناء الدولة العصرية على أسس مدنية لا دينية، ونشر العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة، التي تشكل القاعدة المادية للإنتاج، وتساعد على تطوير الاقتصاد والمجتمع.
حوار غير متكافئ
عقدت مؤتمرات عدة للحوار السياسي والثقافي والاقتصادي، شاركت فيها نخب عربية متميزة، وناقشت موضوعات مصيرية بحثًا عن المصالح المشتركة بين العرب والشعوب الأخرى.
فبعد أن أجهضت النهضة العربية الأولى، تحت وطأة التناقضات الداخلية والضغوط الأجنبية المكثفة، منذ أكثر من قرنين من الزمن، تعاني الساحة الثقافية العربية أزمات حادة ومتلاحقة.
فهناك انحدار مريع على مستوى التعليم، وركود قاتل على مستوى الإبداع والإنتاج الثقافي المتميز في غالبية الدول العربية. لذلك، يواجه الحوار الثقافي بين العرب والمثقفين الآخرين صعوبات كبيرة ناجمة عن تفكك العرب، وعجزهم عن صياغة مشروع ثقافي عربي موحد يجمع أفضل النخب العربية، ويشكل قاعدة صلبة لحوار المثقفين العرب مع مثقفي الشعوب الأخرى من موقع الندية والتفاعل الإيجابي الحر. والإنتاج الثقافي الإبداعي في الوطن العربي اليوم ضعيف للغاية.
ويصنف العرب في خانة الدول النامية التي تستهلك ثقافات الغير أكثر مما تقدم إضافات نوعية للثقافة الكونية السائدة.
وعلى الرغم من وفرة الإنتاج الثقافي المحلي في كل دولة عربية، فهناك تغييب ملحوظ للثقافة العربية الجامعة. نتج عن ذلك انحسار واضح لدور المؤسسات الثقافية القومية وفي طليعتها اتحادات الكتّاب والمؤرخين والسينمائيين والإعلاميين والمسرحيين وغيرها من الاتحادات العربية ذات الطابع العربي الشمولي، في ظل عجز الاتحادات الوطنية عن لعب دور فاعل في تأطير جهود النخب العربية على المستويين المحلي والعربي الشامل.
لقد أكدت تقارير التنمية العربية التي تصدر سنويا بإشراف الأمم المتحدة وبمشاركة فاعلة من أفضل النخب العربية، على أن العقود الثلاثة الماضية شهدت تراجع دور المؤسسات الثقافية ذات المستوى الإبداعي، فضعف دورها كثيرًا في تنامي الوعي الثقافي الشمولي، وهي عاجزة عن الاستفادة من تزايد الباحثين والمبدعين العرب المنتشرين في جامعات ومعاهد ومراكز الإعلام والفنون العربية. وتشكو المؤسسات الثقافية العربية غياب التخطيط الشامل والعقلاني لتحويل التراكم الكمي إلى تراكم ثقافي نوعي، يوظف في إطلاق مشروع نهضوي جديد طال انتظاره.
ويلاحظ كذلك أن الإنتاج الثقافي العربي الراهن هو، في الغالب، أسير الثقافة الاستهلاكية لعصر العولمة، التي تعمل على تهميش الثقافات المحلية. فالحضور الطاغي لثقافة العولمة في جميع وسائل الإعلام العربية يشكل تحديًا كبيرا لقدرة الثقافات الوطنية والقومية على الاستمرارية ومواجهة التحديات. وباتت علاقة الداخل بالخارج، ثقافيًا, غاية في التعقيد، بعد سيطرة وسائل الإعلام الحديثة، وشبكات الإنترنت، والأجهزة اللاقطة لمحطات الإرسال الفضائية العالمية.
بالمقابل، يتجه العالم المعاصر نحو مرحلة متقدمة جدًا من العولمة الشاملة، التي تؤسس لثقافة كونية تتجاوز كل الحدود الجغرافية. ولم يعد بمقدور المثقف العربي أن يبقى أسير ثقافات محلية ضيقة بعد أن تداخلت في وعيه جميع الثقافات بشكل لا مثيل له في السابق. وينمو الآن جيل جديد من المثقفين العرب الذين يتشكل وعيهم اليومي عن طريق مقولات الثقافة الاستهلاكية لعصر العولمة. وتكمن معضلة الثقافة العربية في مطلع القرن الحادي والعشرين في انعدام حرية الرأي والتعبير، وغلبة الكمي على النوعي، وهيمنة ثقافة التبرير على ثقافة التغيير. وهناك شريحة واسعة من المثقفين العرب تخشى مخاطر الانتماء إلى الثقافة النقدية التي تعرّضها للقمع والاضطهاد.
هكذا تتبدى الثقافة العربية السائدة، في معظم تجلياتها، عاجزة عن فتح حوار إيجابي مع الآخر المختلف. وهي لا تحتمل الرأي الناقد أو المختلف لدرجة أن كثيرًا من المجتمعات العربية تفتقر بشدة إلى وجود رأي ناقد لا يعرض صاحبه للقتل أو السجن، أو النفي.
فالرأي السائد يلاحق الرأي الناقد في حياتنا اليومية ليطرده بقسوة، أو ليفرض على صاحبه نوعًا من الرقابة الذاتية، التي تصل أحيانًا إلى أسوأ درجات القمع، لأنها تقتل الطاقة الإبداعية في المثقف وتحيله إلى كاتب لنص هزيل وبائس. كما أن الأنظمة العربية حدّت كثيرًا من هامش الحرية الفكرية لدرجة تحول معها العمل الثقافي إلى مشهد باهت يتكرر يوميا دون إبداع.
والأخطر من ذلك أن الشباب العربي مغيّب بشكل غير طبيعي عن دائرة الإنتاج المتميز أو الإبداع الثقافي على امتداد الوطن العربي. في حين أن تطور التعليم العالي في المجتمعات العربية قدم خدمات كبيرة في نشر الثقافة على نطاق واسع في الوطن العربي.
صحيح أن الجامعات والمعاهد العليا العربية ساهمت فعلاً في إحداث تغييرات جذرية في البنية الثقافية لدى الجيل العربي الجديد، الذي يمتلك قسم مهم منه ثقافة عصرية، وبالانفتاح المتزايد على اللغات والثقافات العالمية، لكن المعضلة الأساسية في هذا المجال تكمن في أن الدول العربية لا تولي الاهتمام الكافي بدور الأجيال الشابة في إنجاح برامج التحديث والتنمية، ولا تفسح لهم في المجال للمشاركة الفاعلة في تسيير شئون الدولة، ولا تحتضن الطاقات الإبداعية من المتميزين في مختلف حقول الإنتاج الثقافي والفني والعلمي.
نتيجة لذلك، قاد عجز المؤسسات الثقافية العربية عن القيام بدورها في استقطاب النخب الجديدة من ذوي الطاقات الإبداعية المتميزة لدى النخب الشابة، إلى تهميشها داخل أوطانها مما دفعها إلى اتخاذ مواقف سلبية متشنجة ضد الدولة الاستبدادية العربية ومؤسساتها الثقافية. وأصيبت النخب العربية بالإحباط على المستوى الشخصي، ومنهم من فضّل طريق الهجرة للاستقرار في الخارج. ومع استفحال ظاهرة النزوح الكثيف للمبدعين العرب الشباب تتضاءل الفرص العملية للحوار الثقافي بين العرب أنفسهم ومع مثقفي العالم. وفقد النظام العربي القدرة على توليد مشروع نهضوي جديد يعيد للعرب موقعهم المفقود في الإبداع الثقافي على المستويين المحلي والعالمي.
الحوار الثقافي العربي - العربي أولاً
نبهت نخب ثقافية عربية متميزة، بصورة إفرادية أو جماعية إلى موجبات الحوار مع الذات أولاً، تمهيدًا للحوار مع الآخر المختلف. تجدر الإشارة هنا إلى أن المثقف الآخر لا يعني فقط مثقفي الغرب الأوربي والأمريكي، بل أيضًا مثقفي الدول الآسيوية في أقصى الشرق، وروسيا، وأمريكا اللاتينية، والدول الإفريقية، وغيرها. وعقدت لهذه الغاية ندوات علمية متخصصة تناولت موضوعات ثقافية بالغة الأهمية كمشكلة الهوية، والصراع العربي - الإسرائيلي، ومخاطر الدمج بين المقاومة والإرهاب، وافتعال صدام دائم بين الإسلام والغرب، وانقسام العالم بين شمال غني وجنوب فقير، ومشكلات البيئة، والتصحّر، والبطالة، والجوع، والأمراض، والأميّة وغيرها الكثير.
يدرك المثقف العربي جيدًا أن العرب هم اليوم في قلب الصراع الدولي المتفجر حاليًا على كثير من الجبهات السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والثقافية. وهو لا يستطيع الوقوف مكتوف اليدين تجاه ما ينتظر الشعوب العربية من تبدلات مصيرية، أو على مستوى منطق الشرق الأوسط، حيث التحضير جار لإقامة مشروع الشرق الأوسط الكبير من جهة، وعلى مستوى التكتلات الجغرافية والسياسية الكبيرة التي يشهدها العالم في المرحلة الراهنة. وبعد سلسلة من الحوارات مع المثقفين الآخرين حول قضايا مصيرية تهم العرب بالدرجة الأولى تبيّن للمثقفين العرب أن باب الحوار مفتوح فعلاً على مصراعيه، بينهم وبين الشعوب الأخرى، إلا أنهم لا يشكلون قوة ثقافية موحدة، وقادرة على مواجهة النزوع المتزايد لتهميش العرب في المؤتمرات الدولية، أو إبعادهم عن القرارات المصيرية التي تتعلق بمستقبل شعوبهم ودولهم وثقافتهم الجامعة. وكثيرًا ما يتم التعاون معهم كمثقفين منفردين، أو غير منتمين إلى مشروع ثقافي عربي موحّد. ونظرًا لغياب الحد الأدنى من التنسيق بين المثقفين العرب، يتجلى التمايز بين مقولاتهم التي تطرح في المؤتمرات الدولية واضحًا، لأن قسمًا كبيرًا منهم ينبري للدفاع عن السياسة الثقافية لدولته أكثر من دفاعه عن القضايا الثقافية المشتركة بين جميع الدول العربية.
غني عن التأكيد أن حوار العرب مع الذات يجب أن يسبق الحوار مع الآخر أو يسيران جنبًا إلى جنب. وذلك على قاعدة الإيمان الراسخ بالتعددية الثقافية، ومعرفة الذات ومساءلتها، وبلورة أطر مرجعية للحوار البنّاء، ورفض النظم العسكرية، وكل أشكال التمييز العرقي أو الديني، أو القبلي، وتبني الدولة المدنية القادرة على تحقيق العدالة الاجتماعية، والتنمية البشرية المستدامة. ويهدف الحوار مع الذات أيضًا للحفاظ على الخصوصيات الثقافية للمكونات السكانية في المجتمعات العربية، شرط أن تكون منفتحة على الثقافة الكونية، وبعيدة عن كل أشكال التعصب، والتقوقع، والعنصرية، ورفض الآخر، أو الإساءة إلى تراثه الروحي والثقافي.
وما يدفع العرب إلى الحوار مع الآخر، إيمانهم الراسخ بموجبات ذلك الحوار في عصر العولمة، وقدرة الثقافة العربية على مواجهة تحديات المرحلة الراهنة.
الاستبداد وقمع الحريات
أنجزت الدول العربية خلال القرن العشرين خطوات مهمة على طريق التحديث، والتنمية البشرية والاقتصادية، والإصلاحات الإدارية والتربوية والاجتماعية المتنوعة. إلا أن المعوقات السياسية في الداخل، والضغوط الأجنبية من الخارج، منعت تحول تلك المنجزات إلى نهج عربي متكامل يضع العرب في موقع القادر على مجابهة تحديات عصر العولمة.
يشكل الحوار الثقافي العربي - العربي مدخلاً أساسيًا للإصلاح والتغيير الحقيقي، وعلى مختلف الصعد. وذلك يتطلب القيام بالإصلاحات الضرورية التي ينتظرها المواطن العربي، ورسم خطط طويلة الأمد، وتقديم مقترحات عملية تأخذ بعين الاعتبار خصوصية تطور المجتمع في كل دولة عربية، واختيار أفضل السبل لتطوير عملية التنمية البشرية والمادية فيها. فتحقيق التغيير المطلوب عربيًا يفترض بالضرورة إنجاز خطوات جذرية على أرض الواقع، أبرزها التركيز على أهمية التداول الديمقراطي للسلطة، وتعزيز ركائز الإصلاح في جميع الدول العربية، وتطوير الممارسة الديمقراطية بصورة سليمة، عبر الاحتكام إلى الإرادة الشعبية في القضايا المصيرية باعتبار الشعب مصدر جميع السلطات.
لا بديل إذن عن العمل على تعزيز التقارب التدريجي بين الأنظمة والشعوب العربية وتطوير مؤسسات المجتمع المدني ودعمها لضمان نشر الحريات الأساسية للمواطن العربي. وذلك رهن بقدرة العرب على التحرر من الاحتلال الخارجي وجميع مظاهره المادية والذهنية في المجتمعات العربية، ومشاركتهم في إصلاح المنظومة الدولية، وفي قيام عولمة ديمقراطية وأكثر إنسانية، وإعداد خطط استراتيجية عربية تعالج الخلل الكامن في البنى السياسية والإدارية، والتركيز على الحرية باعتبارها شرطًا ضروريًا لقيام حوار ثقافي وإيجابي فاعل مع مثقفي عصر العولمة.
وقدرة العالم العربي على النهوض ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية متوافرة على أرض الواقع، وعلى مختلف الصعد البشرية، والاقتصادية، والثقافية، والإبداعية وغيرها. لكن تحقيقها رهن بانحسار كل أشكال الظلم والاستبداد وقمع الحريات العامة والخاصة. ونجاح التغيير الديمقراطي في العالم العربي بحاجة ماسة إلى تجمع القوى الديمقراطية فيه، وتنظيم صفوفها لضمان حقوق الأفراد والجماعات، وممارسة المواطن العربي لحرياته الأساسية بصورة طبيعية، مع التنبيه إلى أن مفهوم الحرية لا يقتصر فقط على ممارسة الحقوق والحريات المدنية والسياسية، بل يتعداه إلى التحرر من القهر وكل أشكال الاستلاب والتبعية، ومن المعوقات الاجتماعية التي تسيء إلى كرامة الإنسان كالجوع والمرض والجهل والفقر والقهر والاستغلال والبطالة.
والحوار مع الآخر بحاجة إلى مؤسسات مجتمعية تصونه، وتضمن ممارسة الحرية وتطورها دون معوقات من أي نوع كان. وذلك يتطلب احترام إرادة الشعب من خلال الاختيار الدوري الحر والنزيه لممثليه، على مختلف الصعد، واحترام النظم الدستورية، وسيادة القانون الذي يطبق على الجميع دون استثناء، والقضاء النزيه والمستقل تمامًا عن السياسة. فقيام دولة القانون والمؤسسات، وبناء الإدارة العصرية على أساس الكفاءة والشفافية، وممارسة الحرية على أرض الواقع، والمساواة بين المواطنين أمام القانون في الحقوق والواجبات، وتأمين العدالة الاجتماعية، وضمان حقوق الإنسان العربي هي مداخل أساسية لإقامة حوار ثقافي ناجح مع الآخرين. ولا يستقيم الحوار بين الحاكم والمحكوم في الوطن العربي إلا على قاعدة ضمان المصالح العليا للوطن والشعب، وتعزيز الليبرالية على مختلف الصعد الاقتصادية والاجتماعية والتربوية العربية، وفي مؤسسات المجتمع المدني، وضمان الحريات الأساسية المفضية إلى الحكم الصالح، وتوسيع خيارات الناس التي تشكل جوهر التنمية البشرية المستدامة.
إن تشجيع المشاركة الشعبية الفاعلة، وإطلاق المبادرات الإبداعية للقوى الحية في المجتمع الديمقراطي الحر، هي من الشروط الواجب توافرها لقيام حوار ثقافي مثمر مع الآخر. وذلك يتطلب، وبالدرجة الأولى، تشجيع العمل الجماعي وبناء المؤسسات العامة والخاصة على أسس سليمة في الوطن العربي. فلابد للعرب من تجاوز أطر العمل الفردي إلى تنظيم المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية بكفاءة وشفافية كاملتين، وإخضاعهما للمساءلة الفعالة من قبل المشاركين فيها، والتركيز بصورة دائمة ومستمرة على أهمية دور التربية المدنية، التي تنمّي في المواطن العربي روح المواطنة، والشعور بالمسئولية تجاه الوطن.
ومع بناء المواطن الحر المتفلت من قيود الانتماءات السابقة على ولادة الدولة الحديثة كالعائلية، والقبلية، والعشائرية، والطائفية، والتمييز العرقي، تبدأ مسيرة الإصلاح والتغيير، وتُشيَّد ركائز الحكم الصالح على امتداد الوطن العربي، ويتم تشجيع وتنشيط منظمات المجتمع المدني في مختلف المجالات، وفي مقدمها مقاومة الاحتلال الأجنبي للأراضي العربية، وصولاً إلى الدفاع عن حقوق الإنسان العربي، والمشاركة في عمليات الإغاثة، وتقديم المساعدات الإنسانية، والممارسة الديمقراطية لتنفيذ الإصلاحات المجتمعية الشاملة. والمطلوب إعداد خطط عقلانية، على المدى الزمني الطويل، لتنمية الطاقات البشرية العربية، وإطلاق المبادرات الإيجابية لخلق منظمات عصرية فاعلة، تتلاءم مع طبيعة عصر العولمة، وقادرة على إقامة حوار ثقافي فاعل مع مؤسساتها. وهنا تبرز أهمية المطالبة بتمكين المرأة العربية من ممارسة دورها الطبيعي في الإصلاح والتغيير، وإزالة كل المعوقات وأشكال التمييز القانونية والسياسية من أمامها، وتنفيذ القرارات، التي تؤكد مبدأ المساواة التامة بينها وبين الرجل، وعلى الصعد كافة. ولابد من تعزيز الإيمان الراسخ بقدرات الشباب العربي، وما يمتلك من طاقات إبداعية وفنية وعلمية وإدارية، وإعطاء الشباب دورًا مركزيًا وفاعلاً في مشاريع الإصلاح الجذرية، والتنمية البشرية المستدامة، والحوار المستقبلي مع مثقفي الشعوب الأخرى. وتكمن عملية الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في كيفية إدخال العلوم الحديثة والتكنولوجيا المتطورة إلى المجتمعات العربية، وتحويلها إلى عنصر فاعل في تطويرها. إن نشر المبادئ الليبرالية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي يساعد على بناء مجتمعات عربية منفتحة على الحوار الإيجابي مع ثقافة عصر العولمة. ولن يستطيع العرب تحقيق تلك المهمة إلا عبر مؤسسات عربية متطورة وممكنة، تتبنى نشر العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة بهدف توطينها والإبداع فيها، وتولي أهمية خاصة لدور الشباب العربي في مواجهة تحديات العولمة. ولا يجوز الانجرار وراء عولمة لا تقيم أي وزن للعرب، بل تعتبرهم كمّا بشريًا وطاقات وموارد طبيعية يجب توظيفها في خدمة غرب متفوق، ويسعى للسيطرة على العالم بكل الوسائل المتاحة. ولابد للعرب من تجاوز ذهنية مبادلة النفط بالتكنولوجيا المتطورة، دون الاهتمام الكافي بالحوار الثقافي البنّاء لإقامة علاقات طبيعية مع الخارج من موقع النديّة.
حوارنا مع ثقافات عصر العولمة
يعيش عرب اليوم مرحلة مصيرية من تاريخهم، تتميز بكثرة التحديات، ومدى قدرتهم على درء مخاطر العولمة، والانخراط الطبيعي فيها من موقع المستفيد من إيجابياتها الكثيرة، وليس المتلقي فقط لسلبياتها، التي لا حصر لها. فهم يواجهون ضغوطًا داخلية وخارجية للقيام بإصلاحات جذرية تؤسس لأنظمة ديمقراطية تتلاءم مع طبيعة عصر العولمة، لكن الأنظمة السياسية العربية السائدة تشكل عاملاً معوقًا لقيام ديمقراطية سليمة. وهنا تكمن أهمية العمل الجماعي الذي يمكن أن يمارسه المثقفون العرب في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ العرب المعاصر.
مع ذلك، وبالرغم من العلل الكبيرة، التي تفقد الثقافة العربية الراهنة الكثير من طاقاتها الكامنة لمواجهة تحديات العولمة، تبدي المجتمعات العربية الكثير من الممانعة، وترفض الحلول المفروضة من الخارج. والمثقفون العرب على قناعة راسخة بأن ممارسة الديموقراطية السليمة وتحقيق تنمية بشرية مستدامة يفضيان معًا إلى مرحلة أرقى من الحوار الثقافي مع الآخر. وذلك يتطلب إطلاق خطة نهوض ثقافي طويلة الأمد تساعد العرب على تعزيز الحوار الداخلي أولاً، والارتقاء بحوار مثقفيهم مع مثقفي العالم إلى موقع الندية، وذلك يتطلب تشجيع المثقفين العرب على الحوار فيما بينهم من أجل تقديم رؤى بديلة لما هو سائد الآن على الساحة العربية. فالعمل المثمر من أجل تجاوز الحاضر المتردي إلى مستقبل مشرق، يفترض بالضرورة أن ينظم هؤلاء صفوفهم ضمن مؤسسات ثقافية ومراكز أبحاث عربية فاعلة، وذات استقلال واضح في صياغة مقولات علمية سليمة، ورسم خطط عملية لتنفيذها. ومن موقعها المستقل هذا، تستطيع تلك المؤسسات دعوة جميع المتنورين العرب، في الداخل والخارج، للاستفادة العقلانية من الموارد البشرية والاقتصادية المتوافرة لديهم، وتحفيز الثقافة العربية لكي تلعب دورًا فاعلاً في عصر العولمة.
نخلص إلى القول، إنه لابد من فتح حوار مكثف بين المتنورين العرب، في جميع مناطق وجودهم، مع قوى التغيير الديمقراطي داخل المجتمعات العربية لمجابهة تحديات العولمة، ومشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تلعب فيه إسرائيل دور الموجه لشعوب هذه المنطقة بأكملها. فالخطاب الثقافي النظري العربي عن الإصلاح ليس كافيًا ولا قادرًا على نشر الحرية، وبناء الحكم الصالح، فالمقولات الثقافية، التي لا تتحول إلى فعل إصلاح على مختلف الصعد السياسية والإدارية والتربوية، تبقى بمنزلة أحلام طوباوية لنخب سياسية عربية مهمّشة. وبناء نهضة شاملة في المنطقة العربية يحتاج إلى تكاتف جميع القوى الفاعلة فيها.
أخيرًا، يعيش مثقفو العرب اليوم هاجس التأثيرات السلبية المتوقعة لثقافة العولمة، التي تنشر مقولات أيديولوجية خطيرة واستفزازية حول صراع الحضارات والثقافات. وليس المطلوب «تجسير الفجوة بين المثقف والسلطة» لأن تطبيق هذا الشعار يقود إلى إلحاق المثقف بالسلطة دون التأثير في صنع قراراتها. ولعل بناء المؤسسات الثقافية ذات التمويل غير المشروط يشكل الصيغة الأمثل لقيام حوار فاعل وإيجابي بين المثقف والسلطة لإحداث التغيير المطلوب في المجتمعات العربية. ونجاح الحوار العربي - العربي شرط أساسي لإنجاح حوار العرب مع ثقافات عصر العولمة ومثقفيها. وبإمكان المثقفين العرب فتح باب الحوار على مصراعيه مع ثقافات عصر العولمة لمواجهة التبدلات المتسارعة على المستوى الكوني. وبإمكانهم أيضًا الاستفادة من تجارب التحديث وبناء الدولة العصرية في أوربا، وأمريكا، واليابان، وروسيا، والصين، ودول النمور الآسيوية وغيرها.
ختامًا، بعد أن نجح مثقفو أوربا في إطلاق مقولات عصر الأنوار، التي حولت إلى شعارات عالمية للدفاع عن الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، وبعد أن نجح مثقفو دول جنوب وشرق آسيا في إطلاق مقولات ثقافية جديدة دعت إلى حداثة أصيلة تحمي التراث والمعاصرة، وقادت إلى ولادة ظاهرة «النمور الآسيوية»، فإن من أول واجبات المثقفين العرب إبداع مقولات ثقافية جديدة تنظر بموضوعية إلى التراث العربي والإسلامي، وتقيم حوارًا معمّقا ومتواصلاً بين المثقفين العرب أنفسهم، على قاعدة الاحترام المتبادل والتفاعل الثقافي المثمر.
عندئذ تصبح الأبواب مشرعة فعلاً أمام المثقفين العرب لتعميق الحوار الثقافي مع الثقافات الغربية والآسيوية وغيرها من الثقافات الفاعلة في القرن الحادي والعشرين، مع التذكير بمخاطر التأخير في هذا المجال، بعد أن أصبحت الفجوة كبيرة بين الثقافتين العربية والإسلامية، وبين الثقافات العالمية الأخرى. لكن الحوار الثقافي الإيجابي - ومن موقع الندية - كفيل بمد الجسور بين الشعوب العربية وشعوب العالم، لتغليب قيم الصداقة والتعاون والسلام بين الشعوب والثقافات والحضارات.