الكاتب الصحفي والمسرحي محمد سلماوي (رئيس اتحاد الكتاب في مصر) واحد من الكتاب الذين ارتبطت اسماؤهم - بين كتاب وأصدقاء آخرين - باسم أديب نوبل الراحل نجيب محفوظ. إذ جمعت بينهما صلات وثيقة تعود بداياتها إلى مطلع السبعينيات في مكتب الكاتب الراحل توفيق الحكيم بمبنى جريدة «الأهرام»، كما أن سلماوي اضطلع بصياغة المقال الأسبوعي لمحفوظ بالأهرام على مدى الاثني عشر عامًا الأخيرة منذ تعرض محفوظ لمحاولة الاغتيال عام 1944 التي أثرت على قدرته على الكتابة. بالإضافة إلى أن سلماوي هو الشخص الذي وقع عليه اختيار محفوظ ليمثله في الأكاديمية السويدية ويلقي كلمته في مراسم تسلم جائزة نوبل. في هذا الحوار يلقي محمد سلماوي الضوء على الكثير من جوانب علاقته الممتدة بأديب نوبل، وجوانب من شخصية محفوظ، وتأثيره البالغ في محبيه والمقربين منه، بالإضافة إلى بعض التفاصيل التي يعلنها لأول مرة حول كواليس اختيار محفوظ له لقراءة كلمته في السويد، وعلاقته بيوسف إدريس، وبعض ما أثير حول شخصية نجيب محفوظ ومواقفه السياسية وعلاقته بحرية التعبير وغيرها من القضايا المتعلقة بانتقادات وجهت لمحفوظ، مما يراه هو مغلوطاً لا علاقة له بالواقع، ويعلق على الكثير منها مصوباً، كونه كان شاهداً على وقائع تثبت ما يقول، وهي في أول الأمر وآخره تؤكد أن الرجل الذي حقق للأدب ولمشروعه الفني أرقاماً قياسية لم يسبقه إليها أحد مازال قادراً على ضخ الحيوية طالما ذكر اسمه وأينما طافت سيرته.
- كيف بدأت علاقتك بمحفوظ؟
- الحقيقة أن هذه العلاقة مرت بعدة مراحل، لكن إذا تحدثت عن بداية معرفتي به بشكل شخصي، فهي تعود إلى بداية السبعينيات عندما التحقت بالأهرام. كنت أصادف الأستاذ نجيب محفوظ في مكتب توفيق الحكيم، في وجود آخرين، وبمرور الوقت بدأت العلاقة تدريجيا. وبعد عدة سنوات، كنت بصدد نشر مجموعة قصصية، فجهزت نسخة «البروفة» التي كانت قيد الطبع وأهديته إياها، وكتبت له في الإهداء أنني أختصه بهذه النسخة الأولية من الكتاب التي لن يراها أحد غيره. فشكرني، وتصورت أن الأمر انتهى عند هذا الحد، إلى أن وجدته يتصل بي في مكتبي بالأهرام ليخبرني أنه انتهى من قراءة المخطوطة وأنها جيدة، لكن له بعض الملاحظات، وذهبت إلى مكتبه الذي كان يضم معه كلاً من لويس عوض وبنت الشاطئ. أعطاني نسخة «البروفة»، وكتب في صفحتها الأخيرة «أعطيت لنفسي الحق في إبداء بعض الملاحظات، لكني كتبتها بالقلم الرصاص فإذا لم تعجبك يمكنك أن تمحوها بالأستيكة». فشكرته، وأخذت بكل ملاحظاته.
- وكيف بدأت العلاقة تأخذ نوعا من الخصوصية؟
- أريد أن أؤكد أن علاقة محفوظ بكل من تقرب منه كانت علاقة خاصة، وعلاقته بكل الناس هي علاقة خاصة، لأنه إنسان معطاء، ممتلئ بالدفء الإنساني، ومهتم بالآخرين. وعلى سبيل المثال، فبعد وفاته أرسل لي شخص اسمه «حسن» رسالة أرفق بها خطابا كتبه له محفوظ، ردا على رسالة أرسلها له هذا الشخص، في أواخر السبعينيات إذ كان قد تعرض للاعتقال بعد أحداث يناير 1977، وخرج من السجن يائسا، والدنيا سوداء في عينيه، دعاه محفوظ إلى لقائه الأسبوعي في كازينو قصر النيل وأعجب بمعلوماته واهتماماته في السياسة والاقتصاد واقترح عليه أن يكتب، فقال له الرجل إنه لا يملك ثمن القلم ولا حتى نقودا لشراء الأوراق، فأهداه محفوظ قلمه الشخصي وكان من ماركة «شيفرز»، وأهداه تكلفة الأوراق وقال له اكتب فقط وسأتولى أنا نشر ما تكتبه. فهذه هي العلاقة الخاصة التي كان يصنعها محفوظ مع البشر والإنسانية.
- لكن بالتأكيد أن علاقتك به بعد نوبل أخذت منحى مختلفا؟
- هذا صحيح، فقد فوجئت بتشريفي باختياره لي للسفر بدلا منه لتسلم الجائزة، وإلقاء الكلمة التي كان المفترض أن يلقيها بهذه المناسبة، واستطعت إقناعه لاحقا، وبجهد السيدة عطية الله زوجته، أن تذهبا بنتاه لتسلم الجائزة.
والحقيقة أن اختيار محفوظ لمن سيمثله لتسلم الجائزة كان مطمعا لعدد كبير من الأشخاص، وهو ما عرضه للكثير من الضغوط.
ومع الأسف المسألة تطورت، فقد قرأت في إحدى الصحف خبرا يقول إن اختيار سلماوي لتمثيل محفوظ ليس نهائيا وأن رئاسة الجمهورية سوف تتدخل لاختيار ممثل محفوظ لتسلم الجائزة، وأن المرشحين لذلك هم ثروت أباظة ولويس عوض ود.ثروت عكاشة. واكتشفت لاحقا عبر الدكتور مصطفى الفقي الذي كان يشغل منصب سكرتير الرئيس للمعلومات أن الرئاسة لم يكن لها أدنى علاقة بالموضوع.
كما أن لجنة الجائزة حرصت على تأكيد الطابع الشخصي للجائزة فعندما حضر ممثل اللجنة «ستوري آلين» للقاء محفوظ في وجودي قال له أديب نوبل: أليس من الممكن أن ترسلوها لي؟ فأوضح له آلين أن تقاليد وشروط الجائزة تقتضي أن يتم تسلمها من يد ملك السويد شخصيا، ثم أضاف ضاحكا: وأعتقد أنه من الصعب على الملك أن يحضر إلى هنا لتسليمها! فقال له محفوظ: إذن يتسلمها السفير المصري في السويد، فرد ممثل اللجنة موضحا أن هذا لا يجوز أيضا لأن تقاليد الجائزة تتجنب إضفاء أي صفة رسمية أو حكومية على الجائزة لتأكيد طابعها الشخصي، وهنا اقترح محفوظ اسمي فأجاب ألين على الاقتراح: اختيار سلماوي لا يجوز لأنه يشغل منصب وكيل وزارة الثقافة، فرد محفوظ: أنا أختار سلماوي ليمثلني ككاتب وليس كوكيل وزارة، فرحب ألين بذلك، وطلب من محفوظ أن يقدم له نسخة من التفويض.
على أي حال، فبعد الضغوط التي تعرض لها محفوظ رأيت أن أعتذر عن السفر لتجنيبه الحرج، خاصة بعد ما نشر عن أن الرئاسة سوف تقوم بالاختيار، فكتبت رسالة بهذا المعنى قلت له فيها ما معناه أن اختياره لي أصبح شرفًا لا يستطيع أحد أن ينتزعه مني، أما تذكرة السفر التي يتنازعون عليها فأنا أرفقتها بهذه الرسالة لأي شخص يريد أن يسافر ويؤدي المهمة ويتسلم الجائزة ولأحتفظ أنا بشرف اختيارك لي، وذهبت للقائه في حضور فتحي العشري ويحيى تادرس من التلفزيون المصري، وسلمته الرسالة فأصر على أن يعرف مضمونها فقرأتها له فقال: أنا اخترتك، إذا أردت أن تتخلى عني فهذا موضوع آخر..فقلت له: يا أستاذ نجيب، أنت اخترتني وهذا مصدر اعتزاز كبير لي، لكن ما يسببه لك هذا الموضوع من ضغط أنت في غنى عنه، بالإضافة إلى أنهم يقولون إن الرئاسة ستتولى عملية الاختيار.فقال: «وماله..رئيس الجمهورية ده رئيس الجمهورية وله كل الاحترام، إذا أراد أن يختار فله ذلك، لكن أنا اخترت الشخص الذي أراه مناسبا لتمثيلي».
وهذا هو نجيب محفوظ الذي فسر الكثيرون دماثة خلقه بوصفها مهادنة للسلطة بينما هو كان صاحب موقف، لا يتراجع عنه تحت أي ظرف، ولكن في هدوء ودون أن يجرح أحدا. ليتنا نتعلم منه كيف تكون المواقف.
أذكر أيضا أن الزميل الصحفي محمد الشاذلي كان قد سأله عن اختياري لنوبل في حوار بمجلة «المصور» وكان رد محفوظ:
أولا عيب ما يقال ويثار عن اختياري لسلماوي..هذا اختيار شخصي.. وأنا مدين بالشكر لمحمد سلماوي أنه قبل أن يقوم بهذه المهمة نيابة عني. ثم أضاف أن الاختيار كانت له عدة اعتبارات أولها «أنني أردت أن أقول للعالم إن الأدب في مصر ليس ممثلا في جيل نجيب محفوظ فقط، وأن هناك أجيالاً أخرى. ثم إنني أردت أن أمد يدي بالجائزة للجيل الجديد من خلال واحد من رموزه»، ثم ذكر بعض المؤهلات الشخصية لشخصي التي سيكون ذكرها هنا مما ينافي التواضع.
المقال الأسبوعي
- أعتقد أن كتابة مقاله الأسبوعي كان له أيضا دور كبير في توثق علاقتكما؟
- هذا صحيح، وأعتبر أن هذه هي المحطة الثالثة في مشوار علاقتي به، فبعد تعرضه لمحاولة الاعتداء في عام 1994 كنت في الحقيقة أول من وصل إليه في المستشفى وأول من دخل إليه، وبعد خروجه طلب مني أن يتحول مقاله الأسبوعي في الأهرام إلى حوار أجريه أنا معه. وهكذا، وعلى مدى الاثني عشر عاما الأخيرة من حياته، ظللت على موعد ثابت معه مساء السبت أجلس معه، خلال النصف ساعة الأولى يقترح الفكرة التي يريد أن يتحدث عنها ويقول لي وجهة نظره، وبعدها ينتقل الحديث إلى شئون الحياة، أو مناقشة القضايا التي تشغله، أو يحكي مواقف في حياته وهو ما أتاح لي أن أتعرف على الكثير من آرائه ومواقفه في الحياة والأدب والشأن العام.
- ولماذا اختارك لهذه المهمة؟
- سألته مرة عن ذلك فقال: لأن هناك الكثير من أوجه الاختلاف بيننا؛ فأنت تنتمي لجيل ثورة يوليو بينما أنتمي أنا لجيل ثورة 1919. أنا كاتب روائي، وأنت كاتب مسرحي. ثم إنني اشتهرت بالواقعية بينما يطلق النقاد على مسرحك وصف مسرح العبث، وهذا كله يمكن أن يصنع حوارا جيدا، لكن ما فائدة أن يجري معي الحوار شخص متفق معي في كل شيء، «وكل ما أقول له حاجة يقول لي آمين؟!».
- وهل كنت تشعر بأنك صديق لمحفوظ بالمعنى الحقيقي للكلمة؟
- هذا السؤال وجه لي كثيرا، ويردده الكثيرون، خاصة في الغرب، أنني صديق مقرب من محفوظ، لكني أرى أنها علاقة عميقة، يصعب توصيفها، فهناك فارق في العمر يزيد على ثلاثين عاما، وهي بقدر ما كانت علاقة صداقة، كان بها شيء من الأبوة أيضا، والأخوة في أحيان كثيرة، كما كان بها التبسط الذي يجعله ينطلق بقفشاته الساخرة ذات الحس الفكاهي، لكن أيضا كان بالعلاقة نوع من الأستاذية، إذ كنت أستفيد من كل ما يقوله أو يسلكه، ليس عن طريق الوعظ، فقد كان أبعد ما يكون عن هذا، فقد كان ألطف وأخف بكثير من أن يكون واعظا، لكنه كان يعطي الدروس دون أن يشعر، وهكذا كانت علاقته بكل الناس.
- هل تأثر مشروعك الأدبي به بشكل من الأشكال؟
- التأثيرات الأدبية - كما تعرف بالتأكيد - قد تأخذ شكلا مباشرا، ترى كتابة شخص وتعرف أنه متأثر بهذا الكاتب أو ذاك. وتأثير غير مباشر مثل تأثير الماء والهواء، أي أنه يؤثر في الجسم، لكنك لو قمت بتشريح الجسد الإنساني فلن تعرف موقع الأكسجين أو المياه فيه، وتأثير محفوظ من هذا النوع.أي أنك لا يمكن أن تكتب الأدب بعد نجيب محفوظ إلا وتكون تأثرت به، لأن فكرك عن الأدب يتشكل من قراءاتك لأشياء كثيرة جدا، في موضع القلب منها أدب نجيب محفوظ. لكني تأثرت بشكل مباشر مثلا بتوفيق الحكيم، فالحوار المنطقي الموجود في مسرحياته أستطيع أن أتبين أصداء له في أعمالي. كما تأثرت بفكرة بانوراما الشخصيات في مسرحيات سعد الدين وهبة، وأيضا في أعمال نعمان عاشور، وبمسرح العبث، وخاصة «يونسكو» أكثر من«بيكيت». أما تأثري بمحفوظ فلم يكن مباشرا، ولهذا كان تأثيره أعمق.
- كثيرا ما عقدت المقارنة بين مشروعه الأدبي الذي يرى البعض أنه يقوم على التنظيم والدأب، وليس على الموهبة الوحشية غير الخاضعة لأي نظام ونموذجها المثالي يوسف إدريس. كيف ترى أنت هذه المقارنة؟
- هذه المقارنة أساسها غير سليم، لأنها ليست مقارنة في الموهبة وإنما مقارنة في أسلوب التعامل مع هذه الموهبة. فالعمل الأدبي الكبير تصنعه الموهبة في كل الأحوال، الموهبة المصقولة بالممارسة والدراسة والخبرة. لكن كيف تتعامل معها؟ أنا أعتقد أن التنظيم مهم جدا في حياة الفنان، أما ما شاع لفترة خلال المرحلة الرومانسية من أن الفن والإبداع مرادفان للفوضى والانطلاق غير المحدود وعدم التنظيم والذي أدى لفنانين من المرحلة الرومانسية لاختبار أثر تعاطي المخدر على الإبداع ففي ظني أن كل هذا بلا معنى لأن الإبداع عملية واعية وتحتاج إلى أكبر قدر من التركيز، وليس إلى التغييب. أنا مثلا لا أستطيع أن أتناول حتى القهوة أو الشاي أثناء الكتابة، وحتى الموسيقى التي أعشقها بشدة لا أستطيع أن أستمع إليها لأنها تشتت تركيزي.
رد على الانتقادات
- من خلال اقترابك من محفوظ هل كانت تصل إليه بعض انتقادات الكتاب أو الصحفيين، وكيف كان موقفه منها؟
- أنت تعرف أن هناك قطاعا واسعا من المتبرعين بتوصيل الانتقادات إلى الشخص للتقرب منه، وإذا لم توجد انتقادات يختلقونها هم، ومع الأسف فهذا شائع في المثقفين أيضا. لكن محفوظ كانت لديه قاعدة أساسية لا يحيد عنها أبدا، أن لا يأخذ على محمل الجد إلا ما يقوله الشخص نفسه.
أذكر مثلا أنني كنت موجودا في مكتبه وتلقى اتصالا هاتفيا من الدكتور يوسف إدريس، ويبدو أنه كان قد بلغ الدكتور إدريس أن أحد الأشخاص نقل لنجيب محفوظ أقوالا لم يقلها. صحيح أن إدريس كانت له مواقف من محفوظ، ولم يكن سعيدا بحصوله على نوبل، لكن البعض كان يتعمد المبالغة. قال له إدريس: يا أستاذ نجيب، الكلام اللى إنت سمعته على لساني أنا ماقلتوش، فكان رد محفوظ ببساطة: أنا ما سمعتش حاجة. وهذا لا يعني أنه تناسى أو أن شيئا لم يحدث، لا، لكنه تعبير محفوظ عن القاعدة التي يؤمن بها. كان هذا موقفه قبل أن يتصل به يوسف إدريس، تماما كما كان بعده.
أثار موقف محفوظ من منع «أولاد حارتنا» لغطا كثيرا، والبعض اتهمه بأنه أعطى الحق للسلطة الدينية في الوصاية على الفن والأدب. كيف كانت رؤيته هو لهذا الموضوع؟
- هذه أيضا قضية مغلوطة، فهو لم يعط للسلطة الدينية أي مبرر، ولم يخضع لرأي هذه السلطة، لكنه احترم الأزهر لتاريخه، ولما يمثله في ضمير الأمة المصرية، ولديه هو شخصيا.
وقد شاءت الظروف - وهذا أقوله لأول مرة- أن أكون شاهدا على موقف حضر فيه أحد الأشخاص أخيرا من الأزهر وقال له: الأزهر يبلغك رسميا أنه مستعد لإعادة النظر في قضية «أولاد حارتنا»، وما عليك إلا أن ترسل لنا طلبا بهذا المعنى وسيتم تشكيل لجنة وتنتهي المسألة، فرفض محفوظ وقال إنه إذا فعل ذلك فستكون سابقة للأدباء من بعده أن يستأذنوا الأزهر في نشر أعمال أدبية، لكنه في الوقت نفسه لم يكن يريد أن يغضب الأزهر ولم يصر على نشر الرواية. فالمواقف، عادة فيها نوع من التعقيد، وليست ببساطة الأبيض والأسود كما يتصور البعض،. فموقفه من الأزهر، في الحقيقة، كان موقفا أخلاقيا.
منتهى الدقة
- في أحد كتبك عن محفوظ أشرت إلى واقعة ذهابك إليه يوما لم يكن فيه أحد من العائلة معه في البيت، وكان من الصعب أن يسمع الباب بسبب ضعف سمعه ومع ذلك وجدته يفتح لك الباب قبل أن تدق الجرس..هل هذا دليل على الدقة وتقديره المثالي لقيمة الوقت، أم أنها البصيرة التي كان يتحلى بها كما يحلو للبعض أن يقولوا عنه؟
- نحن لدينا نزعة لإضفاء قوى غير طبيعية وصفات خاصة على الأشخاص وتحويلهم إلى أولياء، وشخصية محفوظ لا تحتاج إلى هذا لأنها شخصية بالغة الثراء، والموقف أبسط من هذا بكثير، فهو كان شديد الدقة وفي الموعد المحدد ذهب ليفتح الباب لأنني أيضا كنت ملتزما بالموعد بالدقة نفسها.
- ربما أن أكثر الانتقادات التي تعرض لها محفوظ تعلقت بمواقفه السياسية، البعض وصفه بأنه مثّل نموذج الموظف المهادن للسلطة، والبعض انتقد موقفه من قضية السلام وهؤلاء ربطوا بين هذا الموقف وحصوله على نوبل. كيف ترى أنت هذه المسألة؟
- ليس هذا صحيحا على الإطلاق ؛ لأن نجيب محفوظ تعرض للسلطة السياسية، وانتقد أوضاعا معينة لم يكن أحد يجرؤ على انتقادها ومنها ما كتبه في رواية «ثرثرة فوق النيل» التي كتبت عام 1966 وانتقدت الأجواء البوليسية ودولة المخابرات التي أسماها عبد الناصر نفسه فيما بعد «دولة داخل الدولة» عندما عزل صلاح نصر من منصبه، ولو كنا استمعنا لما حذر منه محفوظ آنذاك لربما أمكن أن نتلافى ما حدث في 1967، وقد كانت هذه الرواية سببا في إصدار المشير عبد الحكيم عامر أمرا باعتقال نجيب محفوظ، وعندما عرف عبد الناصر ألغى الأمر، وهو ما عرفته من سامي شرف الذي كان سكرتيرا لعبد الناصر آنذاك، وقيل إن القوة التي ذهبت لاعتقال محفوظ كانت قد خرجت بالفعل.
أما بالنسبة لـ«أولاد حارتنا» التي قيل إنه خضع بسببها للسلطة الدينية، فأنا أعرف أن حسن صبري الخولي ( مدير المطبوعات آنذاك، والذي أصبح الممثل الشخصي لرئيس الجمهورية لاحقا) التقى نجيب محفوظ في ذروة الأزمة وأخبره بموقف رجال الأزهر واقترح أن يلتقيهم محفوظ للحوار وتبادل وجهات النظر، ووافق محفوظ دون تردد، وفي الموعد المحدد كان محفوظ في انتظارهم في مكتب حسن صبري الخولي، لكنهم تخلفوا عن الموعد. وفي فترة حكم أنور السادات كان أحد من وقعوا على العريضة الشهيرة التي وقعنا عليها مع توفيق الحكيم والتي رفض فيها المثقفون موقف اللاسلم واللاحرب، وبسبب ذلك الموقف منعت كتابات محفوظ وأفلامه. فهل يمكن أن يقال عنه إنه كان يهادن السلطة؟ إن الناس تخلط بسذاجة بين أن يكون الإنسان دمث الخلق وأن يكون بلا موقف، وبراعة نجيب محفوظ هي أنه استطاع أن يكون له موقف سياسي واضح دون أن يفقد دماثة خلقه.
أما قضية السلام فقد كان موقفه هو الموقف المبدئي، لأنه كان يؤمن بالسلام، لكن هناك خلط بين موقفه من السلام وبين موافقته على بنود اتفاقية «كامب ديفيد» التي لم يتحدث عنها أبدا، ولا أعرف إذا كان قد قرأها أو درسها. أما موقفه المبدئي فكان أننا إذا لم يكن لدينا القدرة على الحرب فلا بد من التفاوض، حتى لا تظل أرضنا محتلة. وأذكر أن الأستاذ هيكل دعا للقاء المثقفين مع الرئيس الليبي معمر القذافي في عام 1971، وفي هذا اللقاء سأل محفوظ القذافي: لماذا لا نحارب لكي نستعيد أرضنا؟ فأجاب القذافي: لا نستطيع الحرب الآن، فقال محفوظ: فلنتفاوض إذن.
إن مبدأ التفاوض في حد ذاته ليس خطيئة، أو خيانة، إنما الخيانة هي أن تتنازل عن حقك، وليست الوسيلة التي تختارها من أجل استعادة الحق، والتفاوض وسيلة سياسية مشروعة.
وهذا ينفي ما قيل عن ربط حصوله على نوبل بموقفه من السلام لأن هذا الموقف يعود لبداية السبعينيات فلماذا تنتظر نوبل 17 عاما من موقفه، وتسع سنوات بعد كامب ديفيد لتمنحه الجائزة. والبعض ربط نوبل برواية «أولاد حارتنا» على الرغم من أنها تمنح على مجمل أعمال الكاتب، وهي كانت واحدة من أهم أعماله مع الثلاثية التي ذكرت في الحيثيات أيضا، ثم إنها كتبت عام 1959 فلماذا يكافأ عليها بعد 30 عاما؟! فهذه كلها أقاويل لا بد أن تخضع للفحص والدراسة والتدقيق حتى لا نظلم الرجل ميتا، كما ظلمناه حيا.