من المؤكد أن أي حديث عن الرواية, هو في الجوهر حديث عن مجتمع, ذلك أن الرواية تعكس حالات المجتمعات في تحولاتها سواء نحو الأرقى أو الأدنى في سلم القيم والمعايير.
جنس الرواية, إذا ما نظرنا إليها كجنس, يخضع لقوة التجريب باستمرار, الشيء الذي يجعل الرواية مفتوحة على التجدد الدائم.
إن هذه الصورة, هي ما يؤسس لقاعدة استجلاء المآزق التي تعانيها الرواية العربية اليوم.
يفترض الحديث عن الحداثة التفريق بينها وبين التحديث, فلئن كانت الحداثة هي المظهر العقلاني الكامل الذي يطبع مسار تحول المجتمعات, حيث إن كل شيء يخضع للنظر والعقلانية التي تقتضي الحرية والنظام والديمقراطية والتربية, إلى مجتمعات المدينة النموذجية, فإن التحديث بالأساس الصورة الراهنة لمجتمعات عربية قائمة على شيوع الاستهلاك بدل الإنتاج المؤسس, الشيء الذي يجعل منها مجتمعات تابعة تفتقد, بل وتفتقر لأساسيات المجتمعات الحقة.
من هذا المنطلق, أعتقد أن الذهاب في القول بحداثة الرواية العربية, يلزم ضرورة إعادة النظر في المفهوم, ومن ناحية ثانية تمظهراته داخل الرواية العربية, ولئن كنت - وللموضوعية - أتابع تجارب لروائيين عرب تخلصوا أصلا من عقدة الشكل, نحو التفاعل والكتابة عن قضايا راهنة كقضية الأسرة, والاختراق, والقطبية الواحدة, وسمات العولمة لا وفق ماهو معروف, وإنما حسب الصورة التي تلقيناها عنها, واللافت أن هذه القلة من التجارب أسهم في إنتاجها روائيون يوازون بين الإبداعي والنظر الفكري, بمعنى آخر, فإن السؤال لا يرتبط بالإبداع وحده, وإنما أساسه وجوهره التفكير شبه الفلسفي, ومن هنا على السواء لم يول النقد الأدبي هذه التجارب ما تستحقه من الدرس والتحليل والنقد.
إن الحداثة لا تفهم لدى الكتّاب العرب, إلا من حيث كونها التمرين الشكلي على - وفي -الكتابة, ومن هنا هيمنة ظاهرة التجريب المفرغ من محتواه, حيث الهدف التجريب لمجرد التجريب, وليس إنتاج معرفة بمجتمع يعرف استفحال تدهوره بشكل فظيع.
إن الرواية, ولكي تحقق حداثتها, يجدر تداولها والتعريف بها, إلى خصها بالحظوة اللازمة, هذا النوع من التلقي والإعداد, لا أرى في الظرفية الحالية, ما يحيل عليه - إلا في حالات لا تعد تقليدا - وإذا كان الحديث يتحقق عن دول عربية قطعت شوطا في الفكر والتفكير والنهضة, فإن تفحص مناهجها التربوية والتعليمية, يجسد الانتفاء الكلي للأسماء الروائية الفاعلة والمضيفة, وأخشى أن يأتي زمن على العرب لا يعرفون فيه من هو طه حسين, أو علال الفاسي, وقس على هذا.
الرواية العربية ومأزق الحرية
إن استجلاء مأزق الحرية يستدعي خلفية التاريخ. ذلك أن الرواية العربية انشغلت بموضوع الحرية منذ الخمسينيات, ولربما قبل ذلك بقليل, إذا ما ألمحنا إلى كون الهدف التأريخ لمرحلة في حياة المجتمعات العربية هي بالأساس مرحلة التحرر من القوى الاستعمارية, وبالتالي إعلان الاستقلال والطموح إلى نهضة قوية بتأسيس الدولة الوطنية القادرة على تدبير الشأن. من ثم قرأنا تجارب جرجي زيدان وعبدالرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ وغسان كنفاني وعبدالكريم غلاب. على أن التمثل التاريخي لم يتحقق في هذا المستوى الذي يعده البعض مستوى (تأسيس وصعود الرواية العربية), وإنما امتد إلى استلهام الموروث الأدبي والفكري, بحثا عن صيغة بديل لإنتاج القول الروائي...وهنا أوقفنا ما جاء به محمود المسعدي وإميل حبيبي وجمال الغيطاني, على أن الفارق بين المستويين كون الأول في أغلبه وليد كتابة روائية تقليدية نحن في أمس الحاجة إليها اليوم لتجاوز عقدة الشكل القاتلة, بالإضافة إلى أن هذا المستوى بالذات كان من بين أهدافه تسجيل وتأريخ مرحلة مثلما سلف, في حين أن المستوى الثاني رسخ تقليد الحديث عن الحاضر انطلاقا من الماضي, ومن هنا كانت الحرية حاضرة في المستويين معا.
إن الرواية وفي التصور النظري المتداول, مرآة لحياة المجتمعات والأفراد في تبدلها وتحولها وتطورها كما تراجعها, إنما بمعنى آخر كتابة تاريخية, لولا أن المأزق يتحدد بالأساس في مدى قيمة وأهمية العودة في بعض التجارب الراهنة إلى استلهام التاريخ مجددا للوصول إلى التعريف بالحاضر, وإلا فما قيمة الحديث - وبشكل مكثف - عن الحرية والديمقراطية والمجتمع المدني, في زمن تصادر فيه الرواية وتمنع, ويتابع كتابها, بل إننا نجد في بعض الدول العربية إجراء ضرورة خضوع الرواية للرقابة قبل الإقدام على نشرها.
إن المطلوب اليوم وفي تصوري ما يلي:
1- إحقاق مكانة الرواية العربية, باعتبارها صوتا تنويريا نهضويا فاعلا, وهذا شرط لن يكتمل إلا بإرساء مبدأ الحرية في القول وعلى الإنتاج.
2- ترهين المعنى الروائي, وذلك بملامسة قضايا وإشكالات الحاضر, بدل غنائية التراث ودرس التاريخ الذي يفرض نخبوية التلقي والتداول.
3- الرهان على الإنسان بهدف خلق الكتابة المفتوحة على العالمي - وهو المطلوب اليوم - عوض الخصوصيات الضيقة, والمواضيع الفقيرة.
مأزق الدرس النقدي
ليس الهدف من رصد مأزق الدرس النقدي الوقوف على المحطات الأساسية في علاقة النقد الأدبي بالرواية العربية, وإنما التركيز على ما يرتبط بالحاضر, ولئن كنا نلاحظ أن نتائج الراهن وليدة نوعية من الممارسة النقدية السابقة...من هذا المنطلق يحق اختزال الممارسة النقدية العربية بخصوص الرواية العربية في شقين: شق إيديولوجي وآخر حديث. فالأول ركز في نوع من التوجيه على المضمون, حيث تمثل بالدرس والتحليل وحتى المحاكمة نصوصا روائية محددة بذاتها, معتمدا مرجعيات نقدية نحت ذات التوجه, وتجسّدت في طروحات لوكاش, وكولدمان, ويي زيما وغيرهم.
ويحق القول إن في هذا الشق حضر النقد الأدبي, كما المتابعة المتواترة, إلى المقروء متمثلا في الرواية أصلا.
وأما الشق الثاني, فنحى الارتهان إلى التقليعة الحاصلة على مستوى الدرس النقدي, حيث أسهمت الترجمة عن اللغتين الفرنسية والإنجليزية في نقل المستجدات المعرفية والعلمية المتداولة في حقول البنيوية واللسانيات والسيمائيات, في محاولة لقراءة النصوص الأدبية والعمل على تفكيكها وتشريحها.
ومثلما أسهمت الترجمة كان للجامعة أثرها على السواء, دون أن تفوتنا الإشارة إلى الجهود الشخصية والفردية المتوافرة, ويمكن القول إن الارتهان إلى هذه المناهج الحديثة أسهم في قراءة تشكل الرواية العربية صيغة وجمالا, ولنا عليه من الملاحظات ما يلي:
1- الإغراق في الجوانب الشكلية المحض, مما سيترتب عنه فقر الموضوع لاحقا.
2- الانتقائية: وتمثلت في رهان الاشتغال على نصوص بذاتها, حرصا على ما يلائم المنهج, ولو أنه لا يخدم الرواية.
3 - التكرار: وتمثل بالأساس في تكرار العودة إلى النصوص نفسها, على امتداد أكثر من بحث ودراسة, الشيء الذي جعل حصيلة الاستنتاجات النهائية واحدة.
4 - التركيز على النظر أكثر من التطبيق, مما أسهم في خلق قطيعة, سواء في هذه المناهج, أو عند قراءة الرواية العربية ككل.
5 - قاعدة التوجيه: وأرمي بها إلى الكتابة الروائية المتحققة على المقاسات النقدية, وكأني بالروائي الذي يتغيا فعل قراءة روايته, مسايرة هذه التقليعات والمستجدات التي ينتفي معها مكون التلقائية في الكتابة الروائية.
مأزق الموضوع
إن المقصود بالموضوع المادة المصاغة ضمن الرواية, والتي يراد الإخبار بها وعنها وبالتالي وضع القارئ في سياقها, بحثا عن هوية سردية تحدد وضعين: وضع الرواية بما هي التخليق المبدع, ووضع القارئ باعتباره الشخصية المخلقة المراد التواصل معها. على أن تجريد الرواية من موضوعاتها, وإلى حدود نهاية التسعينيات, يكشف كون التاريخي, الوطني, الاجتماعي, الشرق والغرب, التيمات الأساسية التي تتحرك في دائرتها الكتابة الروائية العربية. لكن وفي هذه الحدود, أين يكمن مأزق الموضوع?
يتمثل المأزق أساسا, ومن خلال المتابعة الدقيقة لتجارب روائية عربية أنهت عقد التسعينيات, في الاستعادة شبه الأمينة لحصيلة الموضوعات والقضايا السالفة في نوع من التكرار القاتل, وفي أحيان وفق صيغ فنية جمالية لا ترقى لما دلت عليه روايات عربية وفت القصد والهدف, وكأن الرواية في هذه بالذات تنتج - فقط - من خلال الرواية. على أن من عوامل هذا الاختيار, فقر ثقافة الروائي, ذلك أن جنس الرواية في العصر العولمي الكاسح, يقر ضرورة تحول الرواية من كتابة من أجل الكتابة, إلى كتابة ترسخ البحث وتقدم ثقافة هي أساسا مفتاح الحوار لفهم العالم والتجاوب معه والانسجام كذلك. واللافت أن من الباحثين من يعيد وضع الركود والاجترار إلى الصورة التي يوجد عليها المجتمع العربي, كما إلى التحولات الداخلية المعاقة, حيث ليس على الروائي في مجتمع كهذا, إلا أن يعيد إنتاج المعطيات ذاتها والصورة نفسها.
والأصل أن خلق الموضوع وابتكار صناعته, يتطلبان الإلمام الموسع بعوامل الإعاقة وصعوبات ذلك, وأمام الروائي أكثر من طريقة لتبليغ ذلك والعمل عليه, بحثا عن رواية تمتلك هوية سردية بقدر ما تمثلها فإنها ترسخ قاعدة الحوار سواء مع العالم, أو الذات, أو الآخر في وضعه الخاص. ولقد علمتنا المتابعة, كما التجربة, أن الرواية الإضافة هي تلك التي تخلل الجاهز, وتعمل بالحفز من وراء لامعقولات الحياة, والتي قد تبدو لنا أشياء عادية ومألوفة.
انغلاق الدائرة
إن جملة المآزق السالفة هي في الجوهر جزء من كل, وذلك تأسيا من كونها العائق الأساس الذي حال دون التحول إلى ترسيخ تقليد الكتابة الروائية من ناحية, وبالتالي إشاعة تداولها, ولنا أن نقارن بين زمنين: زمن صعود الرواية إبداعا نقديا واستهلاكا جماهيريا, وزمن تراجع هذا الصعود, حيث تدني القيمة والإضافة, والاسم العلم المبدع والمنتج. ذلك أن قلة من الأسماء الواعدة هي من عملت على فرض قوة حضورها سواء هنا أو هنالك. ويلفت بعض الدارسين الانتباه إلى مظاهر المحيط كما تجسده هيمنة الإعلام على التوجيه, لولا أن هذه الهيمنة لا يتفرد بها العالم العربي فقط, وأقول إنها في الغرب أشد سطوة, حيث فاعلية التوجيه والتنظيم, فيمكن للحدث الروائي أن يكون المفتاح الأساس للنشرة الإخبارية, في حين أن الروائي العربي لا يذكر إلا في مناسبتين: مناسبة تقديم المساعدة له في حالة العلاج, ومناسبة وفاته.
إن جنس الرواية يؤسس لإنتاج معرفة بالواقع, وبالتالي تعرية الحقيقة, وفي هذا السياق تتم خلخلة المألوف والمتداول من (طقوس القراءة), وهي خلخلة تجد صداها في الثقافي دون حظوة السياسي والديني على السواء, ليجابه التحول بإعاقة الترسيخ, ولكأن ما يهتك المحرم وينتقد السائد كاشفا مزالقه غير مرغوب فيه أصلا, وعلى امتداد الرواية العربية قديما وحديثا تستوقفنا محاكمات ومصادرات ورقابات لا حدود لها.
وإذا كان هذا المظهر يرتبط بما هو خارج أدبي, فإن الأدبي يتحدد في الرواية ذاتها, ذلك أن رهان التجريب جعل الرواية العربية متقدمة عن مجتمع تحديثي استهلاكي غير قادر على مسايرة المستجدات, ولكأن الرواية لم تمتلك مقدرة خلق مؤسسة القارئ المواكب لهذه المستجدات, مثلما يواكب التحديث السائد, وهذا دفع بالقارئ إلى التخلف عن التواصل.
على أن ترسيخ التحول - كما سلف - يتطلب من الروائي امتلاك معرفة وثقافة مواكبة تقتضي ابتكار السؤال والإحاطة بتفاصيل المشهد العالمي وتحولاته, حيث لم تعد الرواية - كما ذكرت - الحدث الذي تتابع توسيعاته إلى الذروة, وإنما الرواية هي البحث والمعرفة والثقافة الهادفة إلى تقديم شمولية المعرفة.
إن استعادة الرواية العربية دورها الطليعي والتنويري يتطلب:
1 - إعادة الاعتبار للثقافي في البنية السياسية والتوجه الاقتصادي, مادام مفتاحا من مفاتيح التنمية.
2 - التفكير الجدي في المفهوم المغاير للكتابة الروائية, من اجترار الحدث, إلى تشكل الرواية البحث.
3 - اعتبار الروائي مثقفا مواكبا, مادامت قضايا الرواية هي نفسها قضايا الواقع الإنساني ككل.