مختارات من:

الهويات القاتلة

آمين معلوف

هل يعقل أن يُقتل الإنسان أو يَقتل باسم الهوية? وهل التمسك بالهوية أو التخلي عنها يفسرها ما يقع من حروب وتناحر وتقاتل وعداوة بين الشعوب والأجناس المختلفة? ما علاقة الهوية بالوطن والوطنية? وما علاقتها بالدين واللغة? وهل فعلا يمكننا تحديد الهوية ذاتها? وهل هناك ما يبرر التصرف باسمها?.... إلى غير ذلك من الأسئلة المحورية التي ظلت مثار جدل في الفكر العربي عبر امتداد التاريخ, وبرزت من جديد في هذا العصر لتكون من وراء مأساة الواقع اليومي لشعوب العالم الثالث بصفة عامة, والعرب منهم بالأخص.

كتاب الهويات القاتلة الذي ترجمه الدكتور نبيل محسن ونحن بصدد عرضه يتطرق لإشكال العصر: مكونات الهوية وتفسيراتها المتعددة, بل واستغلالاتها المتكررة في إشعال نار الفتن والحروب, وما كان منها في العشريات الأخيرة في هذا القرن بالخصوص, فسادت ثقافة الحقد والانشقاق والتناحر, وكانت المآسي والهجرة والصراعات. هذه الأسئلة ظلت من انشغالات المؤلف المقلقة, ولعلها خلاصة أفكاره التي طرحها في رواياته, وميزت أعماله الإبداعية من خلال برنامجه السردي واختيار الشخصيات بدءا من (الحروب الصليبية) كما رآها العرب ومرورا بـ(ليون الإفريقي) وصولا إلى (موانيء الشرق).

يشتمل الكتاب على أربعة فصول, فيها عناوين مثيرة اختارها المؤلف بدقة وعناية, وراعى من خلالها التدرج والترابط. ففي المقدمة يؤسس معلوف لموضوع الكتاب عند إجابته عن أسئلة الناس المتكررة عن بلده: أنا لبناني وفرنسي. أو لماذا أكون أحدهما دون الآخر بالضرورة? وما المانع في الجمع بين مكونات وجودي? إن المعاصرين كثيرا ما يبحثون (في أعماقهم عن ذلك الانتماء المزعوم, الذي غالبا ما يكون دينيا أو قوميا أو عرقيا أو اثنيا, ليرفعوه بفخر في وجه الآخرين).

اعرف نفسك

إنه لمن الغريب أن يصرّ البشر اليوم, وفي ظل هذه الظروف المغايرة على التساؤل عن الهوية المكتملة والمنغلقة بهذه الصورة البوليسية, ولماذا لا يكون الإنسان مركب الهوية عندما يستقر في بقعة جديدة مع قوم آخرين أو حيث يعيش في زمن آخر? وما الذي يمنع من امتزاج العادات والتقاليد والأذواق واللغات وتعايش العقائد والأفكار? وكيف للإنسان أن يتخلص من حمولة ماضيه أو يرفض حاضره في ظل أوضاع متجددة? وهل لا يزال ممكنا السير بمنطق القبائل في عصر التكنولوجيا والمعلومات والاستنساخ? وهل هذه المكاسب الحضارية تتعارض وتراث البشر? غير أن التساؤل عن الهوية أخذ منحى آخر, ذلك أنه لم يقتصر على العنصريين والمتعصبين والدائرين في فلكهم, بل أصبح الفرد في المجموعة الواحدة المتجانسة يتساءل عن هويته الحقيقية وحقيقة هويته.

ومن ثم فهو يبني مستقبله في ضوء ذلك التصور الخاطئ للأغلبية الذي يحمل مفاهيم ضيقة وخاطئة واختزالية للهوية.

ففي الفصل الأول (هويتي وانتماءاتي), ومن خلال تركيب العدد في العنوان ينطلق المؤلف في مناقشة محددات الهوية, والتي هي مصطلح فخ يعتقد العديد منا أنه موضوع بسيط على اعتبار أن المسألة قديمة منذ أن قال سقراط اعرف نفسك بنفسك, وكأن الأمر قد حسم, غير أنه وبإطلالة سريعة للوراء يتضح لنا استمرار وقوع الجرائم باسم الهوية الدينية أو العرقية أو القومية. فهل يمكن تبرير ذلك حقا بتلك الأسباب? وكيف ذلك?

لا يتوانى المؤلف في ضرب الأمثلة الحية من خلال الأحداث التي عرفتها المعمورة في السنوات الأخيرة (يوغسلافيا مثلا). إن الهوية متغيرة بحسب العوامل التاريخية والجغرافية والفكرية, وليس هناك من أنظمة أو قوانين أو مذاهب تلزم الإنسان تقمص شكل ما للهوية. ذلك أن الهوية متجددة بحسب الأوضاع المستحدثة والظروف المتباينة التي يوجد فيها الفرد والجماعة. ثم هناك اختلاف بيّن في ضبط الهوية وتحديد مركزها وهو ما يزيد الأمر صعوبة. فهو الدين عند البعض والوطن بالنسبة للآخرين واللغة عند طرف ثالث... إلخ. ولا توجد أسبقية أو تراتبية ما بين هذه العناصر, إلا من خلال ما يتم التقاتل باسمه. إن الهوية بهذا الطرح هي قنبلة مخبأة في العديد من البلدان سواء من خلال الأقليات أو المقاطعات أو الجاليات أو الأجناس بصفة عامة. وهي إن لم تقتلك فإنها تصنّفك من خلال افتراضات وأحكام مسبقة تضعك في خانة مع البعض وضد آخرين.

إن تنوع عناصر الهوية هي واقع يعيشه الإنسان ولم يكن في يوم ما اختيارا, وهي حقيقة توجد حتى بين الأفراد في القرابة من الدرجة الأولى (الأب والابن مثلا) نتيجة عوامل تاريخية وتحولات اجتماعية وظروف معينة قاهرة في معظم الأحيان. فعن أي هوية نتكلم في هذه الحال?

ترتيب جينيولوجي

فالهوية إذن بطاقة شخصية أولا, ولا يمكنني أن أكون مكان ابني ولا مكان والدي, وما الهوية إلا ترتيب جينيولوجي للشعوب والأعراف وتنظيم للأصول والفروع وتأريخ للجماعات والأعياش, لا يتحمل في ذلك اللاحقون أخطاء السابقين كما لا تشفع لهم إنجازاتهم وانتصاراتهم. ومن الصعب اليوم أن نغير نظرتنا للهوية بسهولة, ولكن من المهم أن نشرع في تصحيح صورتها والوعي بالمخاطر الناجمة عنها. وليس هناك منا من هو بريء في رؤيته للآخرين.

إن الهوية لا تعطى دفعة واحدة, فمنها ما يولد مع الإنسان ومنها ما يكتسبه بالتدريج حسب الأوضاع الشخصية والمواقف العامة. والإنسان لا يختار عناصر وجوده, وإن كان يختار بشكل ما العناصر المكتسبة, أو هي التي تختاره بصورة أصح. وبالتالي هل يمكن أن يحاسب الإنسان على شيء لا يختاره? فالأوضاع التي نوجد فيها تدفع بنا لتصرّفات معينة وسلوكيات خاصة. فما موقف حمل السلاح في ظرف من الظروف إلا وضع قد يتعرض له كل إنسان من خلال جنون الاكتساح الجماعي, أو الدفاع عن النفس. وإن كان منا من لم يجد نفسه في مثل هذا الموقف, فغالبا ما يكون الحظ من وراء ذلك في الأخير, وليس شيئا آخر. إن الهوية بهذه الصورة مفهوم بالٍ موروث من مخلفات صراعات الماضي, غير أن الكثير منا يستمر في الاعتقاد بها (بفعل العادة وقلة المخيلة, أو بالانقياد, فنساهم هكذا لا إراديا بالمآسي التي ستثير اضطرابنا بشكل حقيقي).

لقد حان الوقت لأن نغير الأشياء من حولنا, ونشرع في بناء تصوّر جديد يلائم طبيعة العصر وما يفرضه علينا من معطيات جديدة بحيث لا تكون الهوية وسطا بين التمسك المفرط بها والمغالاة في صياغتها أو إهمالها والتنكّر لها, فلا نصير بذلك مجبرين على الاختيار بين التنكر للذات ونفي الآخرين.

إن معلوف يذكر بعد ذلك بحالة الهجرة على أنها فعل اضطراري ومستمر عبر التاريخ من كل جهات المعمورة. فما أصعب أن يجد المرء نفسه في وضع حرج يفرضه عليه أسوأ الاختيارين: إما أن يتنكر لوطنه الأصلي ويخونه وإما ألا يندمج مع المجتمع المستقبل. كما يسترجع المؤلف بعض القضايا الحساسة المثارة في الآونة الأخيرة منها مثلا قضية الحجاب الإسلامي في بعض البلدان الغربية.

وفي الفصل الثاني (عندما تأتي الحداثة من الآخر) يتابع المؤلف من نقطة توقفه في الفصل الأول, فيبرئ الأديان من أي دعوة للتقاتل والجهاد المزعوم. فالنصوص الدينية لم تتغير, وظلت نظرتنا هي المتغيرة بحسب ما تمليه علينا الأوضاع المستحدثة. كما أنه لم يكن التحديث يوما تبريرا لما يحدث من عنف وصراع في المجتمعات, ولكن الإشكال فيما تحمله هذه الحداثة من بصمات الآخر, من أفكار وسلوكيات وتصوّرات يحاول تمريرها بأي طريقة من الطرق, وذلك هو إشكال العنف. فالغرب الذي ظل ينظر إلى بعض الديانات على أنها تحمل من العوائق العديدة ما يمنعها من تطوير مجتمعاتها ونمط حياتها إنما كان يفكر انطلاقا من خلفيات مبيتة وينظر من زاويا ضيقة. ذلك أن تاريخ الإسلام على سبيل التمثيل (يحمل إمكانات رحبة من التعايش والتفاعل الخصب مع الثقافات الأخرى). وبالتالي فإن ما حدث من توترات وانحرافات سببها الأفراد والجماعات في عصر ما نتيجة لأسباب معينة. وفي المقابل توجد علاقة وطيدة في كثير من الأحيان بين تاريخ أمة وما يحدث فيها من خيبات وقلاقل. إن الحضارة الغربية المركزية والتي أصبحت مرجعا عالميا ماديا وفكريا همشت كل الحضارات الأخرى, وقلّصتها إلى مجرد ظواهر ثقافية آيلة إلى الزوال, ولم تحاول يوما إيجاد أساليب التعامل الصحيحة معها, ولم تعترف إلا بقانون التصدير. وكان على الإنسان, إذا أراد أن يكون حداثيا, أن يتنكّر دوما لأصله ويتخلى عن ذاته, ولهذا و(عندما تحمل الحداثة علامة الآخر, لا يكون مفاجئا أن بعض الأشخاص يرفعون شعارات السلفية, من أجل تأكيد اختلافهم). والتاريخ يحفظ لنا الدرس العربي كيف أن محمد علي قد نجح, وفي فترة قصيرة, في أن يجعل من مصر دولة حديثة وقوية. وهي الفرصة الحقيقية التي كانت للعرب في العصر الحديث لأن يصبحوا قوة عالمية. غير أنه وبمجرد أن أصبح يشكل خطرا على الغرب تحالفت في وجهه القوى الأوربية وسقط وسقطت معه للأبد إمكانية التقدم وبلورة مشروع عربي عالمي حديث. وظل الإشكال الجوهري منذ ذاك هو كيف نصير غربيين علميا مع المحافظة على ثقافتنا? وهل كان الغرب فعلا يقبل أن نأخذ جزءا من الحداثة ونستغني عن الجانب الشكلي فيها? وهل هناك إمكان للاختيار أصلا في هذه الحال? وبالتالي هل العنف بالنسبة لنا هو اختيار فعلا?

هوية التاريخ والعصر

وحول (زمن القبائل الكونية) يدور الفصل الثالث الذي يبدؤه المؤلف بالإشارة إلى أن ظاهرة المد الإسلامي الأخيرة, هي من النتائج الطبيعية لما حدث من تشويه في هوية المسلمين (ذلك أن القلق الوجودي الذي يرافق التغييرات المفاجئة على هذا النحو يعزز الحاجة إلى الروحانية), وتبقى ردود الأفعال على تنوعها في مثل هذه الحالات لا تعبر عن الانزعاج فقط, بل وتبحث عن هذه العالمية التي أصبحت أساسية في هذا العصر. وبالتالي فنحن مطالبون بتعديل مناسب في هويتنا خصوصا مع قدوم رياح العولمة, وهو تعديل يؤكد اختلافنا, ولكنه وفي الوقت نفسه يصنع مصيرنا المشترك سكانا لهذا الكوكب, هوية تجمع بين إرث التاريخ ومتطلبات العصر. فالإنسان يحمل دوما ماضيه ولا يستطيع إلا أن يفعل ذلك, ولكنه يعيش حاضره, وأفكارنا وأذواقنا وتصرفاتنا, وبالتالي رؤيتنا للعالم تتعرض للتعديل يوميا عبر سلطة الإعلام أولا, ومن خلال هذا النموذج الكوكبي الجديد (وإذا صدقنا بعضهم فإن ظاهرة العولمة بمجملها لن تكون إلا تنكرا وتورية, حصان طروادة الذي يخفي خلفه مشروع سيطرة).

وفي الفصل الأخير (ترويض الفهد) على اعتبار أنها الطريقة المثلى لمواجهة أخطار العالمية تبدأ بالاستفادة من التطور التكنولوجي والمعلوماتي لتنمية الهوية ونشر الخصوصية وإخراجها للآخرين. فلماذا لا يكون الإنترنت - مثلا - وسيلة للتعارف والاتصال مع الآخرين والخروج إلى العالمية فيتحول إلى مكسب للتبادل الحضاري, فيصير - بلا شك - عاملا فعالا في الحفاظ على الهوية, وإثراء مقوماتها عبر مثاقفة الآخر. ويذهب المؤلف إلى اعتبار اللغة مركز الهوية بحيث إنه لا يمكن فصلها عنها. فالهوية تتأسس على البعد الثقافي لكل نظام لغوي, وبالتالي فإن التنوع اللغوي هو محور كل تنوع. كما أن اللغة تتصدر العوامل الأخرى وهي من وراء كل شعور بالانتماء وهناك حتما حبل سري يربط الإنسان بلغته يذهب المؤلف إلى أنه أقوى وأسبق من أي عامل آخر حتى وإن كان الدين بدليل ما فعلته فرنسا في الجزائريين. إن الفهد قابل للترويض, وكذلك الرغبة الجامحة للهوية يجب أن تعالج دون اضطهاد, وعلى الديمقراطيات العريقة أن تراجع معاملاتها وتتراجع عن مكائدها, ولعل ذلك يكون في مصلحتها, ويخدم الموازين اللازمة للقوة بصورة صحيحة ويضع الثوابت الأساسية لحضارة عالمية لا أحادية وقوية بتنوعاتها ودائمة بكل الأجناس المنضوية تحتها. وأخيرا فإن الكاتب يحلم - ونحن معه - بيوم تختفي فيه القبائل الكوكبية, وتولّي الحروب المقدسة وزمن الهويات القاتلة من أجل البناء المشترك مع المحافظة على الاختلاف.

لقداتخذت من القراءة هدفا لعرض أفكار الكتاب, وتقديمها متجاوزا نقدها سواء من الناحية المنهجية, حيث - وعلى سبيل التمثيل - لا يضع المؤلف فرقا بين الهوية عند المهاجرين والهوية بصفة عامة أو من الناحية الموضوعاتية مثلما يفعل مع القضية الجزائرية من زاوية واحدة (تشويه الهوية عبر التاريخ بممارسة كل أشكال العنف, بدءا بالعنف اللغوي وعنف التحديث), والحال أن الأزمة معقدة ومركبة, إضافة إلى غيرها من القضايا الأخرى. فالكتاب من الأهمية بمكان بحيث يستوجب قراءته والوعي بطروحاته وحسب المثقف ذلك في يومنا هذا على الأقل

آمين معلوف مجلة العربي يناير 2003

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016