مختارات من:

أصالة يوسف إدريس

جابر عصفور

إن الإنجاز الإبداعي للكاتب يوسف إدريس (1927-1991) يضعه في صف أدباء العالم البارزين. وعلى الرغم من أنه لم يحصل على جائزة نوبل, فإن إنجازه الأصيل يؤهله لهذه الجائزة, بل يضعه في مصاف أعلى بكثير من بعض الذين حصلوا عليها.

عندما أسترجع بعض الأسماء التي حصلت على جائزة نوبل على مدى 100 عام, وأضع إنجازاتها في علاقة مقارنة بإنجاز يوسف إدريس, على أساس من القيمة الإبداعية الخالصة من تدخلات السياسة أو عصبيات القوى, أجد أن القيمة الأدبية للإنجاز الإبداعي ليوسف إدريس تفوق القيمة الموازية لإنتاج الروائية السويدية سلمى لاجرلوف (1856-1940) التي حصلت على الجائزة سنة 1909, والقيمة الأدبية للروائي النرويجي كنوت هامسون (1859-1952) الذي حصل على الجائزة سنة 1920, والروائي الأمريكي سنكلير لويس (1855-1951) الذي حصل على الجائزة سنة 1930, شأنه في ذلك شأن الروائية الأمريكية بيرل يك (1882-1973) التي حصلت على الجائزة سنة 1938, أو الروائي الإسرائيلي يوسف عجنون (1888-1980) الذي حصل على الجائزة سنة 1966. وينطبق الحكم نفسه على أسماء أخرى حصلت على نوبل في السنوات الأخيرة, وإنتاجها يقل في أهميته وقيمته عن إنتاج يوسف إدريس الذي يظل أديبا عالمياً أرفع قدرا من قدر أمثال الأسماء التي ذكرتها.

والدليل على ذلك مبذول في مدى الاحتفاء بترجمة أعمال يوسف إدريس إلى لغات العالم الكبرى, وإلى الاحتفاء به في الدوائر النقدية العالمية التي تجمع الولايات المتحدة وأوربا, ولا تتوقف عندهما بل تمضي لتفرض الحضور الإبداعي لكتابات يوسف إدريس على دوائر الأدب العالمي المتسعة. ويمكن أن أذكر الترجمات الإنجليزية لبعض أعمال يوسف إدريس على سبيل المثال في الترجمة من اللغة العربية إلى غيرها من لغات العالم. فهناك ترجمة مجموعة (أرخص ليالي) التي صدرت في واشنطن 1978, والمختارات التي حررها روجر آلان بالإنجليزية وصدرت بعنوان (في عين الرائي) سنة 1978. وكذلك ترجمة مجموعة (البطل) سنة 1989, ومجموعة (حلقات النحاس الناعمة) التي ترجمتها كاثرين كوبهام ونشرتها سنة 1984, وكذلك مجموعة (الخطاة) من ترجمة ك.باترسون والمنشورة في واشنطن سنة 1984, وأخيرا ترجمة د.كوهين مور لمجموعة (هل يموت الزمار?) سنة 1992. وما ذكرته مثال على ما لم أذكره في اللغة الإنجليزية التي هي دليل على غيرها من اللغات التي ترجم إليها أدب يوسف إدريس, ونوقش في أوساطها النقدية, ولايزال محتفى به في الدوائر الجامعية التي يتزايد إيقاع اهتمامها بأعمال يوسف إدريس ترجمة ودرسا.

العالمية والأصالة

ولا أستبعد تجربتي الذاتية في هذا المجال, فقد قرأت مجموعة من إبداعات يوسف إدريس المترجمة إلى الإنجليزية مع طلاب دراسات عالية موزعين ما بين أوربا والولايات المتحدة, ولاأزال أذكر النقاش الحماسي الذي تخلل الساعات التي تداولت فيها مع طلابي في جامعة هارفارد حول البناء الفني والقيمة الأدبية لرواية (العسكري الأسود) التي ترجمها روجر آلان إلى الإنجليزية في أسلوب متميز, أضاف إلى الرواية ما أبرز أبعادها الرمزية. وكان العنصر المتكرر في كل المناقشات هو القيمة الاستثنائية لكتابة يوسف إدريس من زوايا أدبية متعددة, زوايا لم تبرزها الكتابات النقدية العربية إلى اليوم, ولاتزال في حاجة إلى مَن يتولى التركيز عليها بالبحث أو الكشف, بعيدا عن غبار التحزبات السياسية أو الصراعات الوقتية.

وأحسب أن المدخل الأقرب لاكتشاف هذه الزوايا هو البدء من السبب الذي دفعني إلى تأكيد عالمية أدب يوسف إدريس, وهو إدراكي الخاص لأصالة كتابته. هذا الإدراك ظل يتنامى داخلي نتيجة قراءة كتابة هذا الكاتب المتميز مع طلاب عرب وأجانب, والاشتراك في حوارات حوله مع كتاب ونقاد من جنسيات مختلفة, ومعاودة قراءة هذه الكتابة في سنوات متباينة, وتحت متغيرات ثقافية مختلفة. وكانت البداية ملاحظتي العلاقة التصويرية التي تعطف معنى (العالمية) على الدلالة (الإنسانية) التي يجاوز بها الأدب حدوده الإقليمية المحدودة بلغته, ويمضي معها إلى ما لا نهاية له من آفاق الآداب والثقافات واللغات المغايرة التي تجد في هذا الأدب القيمة نفسها, والمغزى الإنساني نفسه, كامنا, محايثا, ملازما لعلاقات الأحداث والشخصيات التي قد تبدو مغرقة في محليتها. هذه البداية وصلت بين معاني (العالمية) و(الإنسانية) و(المحلية) في ذهني, خصوصا من الزاوية التي تصل السبب بالنتيجة, وتكشف عن علاقات التبادل بين هذه المعاني, وذلك على المستوى الذي تتأكد به (الأصالة) بوصفها المبدأ الأول للكتابة التي تستغرق في محليتها بما يؤكد جذر إنسانيتها ويؤصّل لعالميتها.

والأصالة تعنى قوة الجذور الضاربة في الثقافة الوطنية, من حيث هي عناصر فاعلة لا تنفصل خصائصها عن التاريخ القومي الذي تتولد به وفي مواجهته, في اللحظة الزمنية التي تصوغ - بأكثر من معنى - ملامح الكتابة, وذلك بالقدر الذي تضع به الكتابة نفسها علاقات هذه اللحظة موضع المساءلة. وإذا كانت الأصالة, لغة, من العودة إلى الأصل, فإنها العودة التي لا تنغلق على جذور هذا الأصل, بل التي تنعش هذه الجذور, وتمنحها حياة مضافة, وامتدادا متجدد الإمكانات, مشحونا بالاحتمالات, مشبعة بالهواء الحي لزمن الكتابة, مهما كان هذا الزمن عاصفا أو متربا أو ملبدا بالغيوم, فالأصالة من التجذر الذي لا يعود إلى الماضي إلا لفهم الحاضر والتطلع إلى المستقبل. وكل كتابة تتسم بالأصالة هي كتابة ينسجها وعي يغوص في فهم تعيُّن علاقات الزمن النوعي الذي يعيشه هذا الوعي, مدركا أنه لا سبيل إلى استكمال الفهم العميق لعلاقات واقعه المخصوص إلا في علاقات اللحظة الزمنية المتعينة لهذا الواقع بغيرها من اللحظات السابقة أو الموازية أو اللاحقة, فلا لحظة زمنية قائمة في عزلة ذاتية في نظر هذا الواقع, ولا مكان مستقلا عن غيره من الأمكنة على مدى الزمن المتعاقب أو الآتي فيما يؤصّله وعي الأصالة.

بحثا عن الجذور

ويترتب على هذا الفهم للأصالة ثلاثة أمور متلازمة. أولها اقتران معنى الأصالة بالغوص عميقا في جذور اللحظة المتعينة لمكان الكتابة وعلاقات أفراده وجماعاته وطبقاته, وذلك إلى الدرجة التي تؤدي إلى تعرية المستور, وإنطاق المسكوت عنه من الخطاب الاجتماعي والسياسي والثقافي, وعدم التردد في وضع كل شيء في واقع هذه اللحظة المتعينة موضع المساءلة الكاشفة, حتى لو انتهت الكتابة إلى الصدام المباشر بنقائضها, سواء في أعراف الكتابة السائدة التي لا تتردد في حماية تقاليدها الجامدة, أو مجموعات السلطة المهيمنة المتربصة بالمختلف. والمسارعة إلى الاستئصال المعنوي والمادي لكل من يخرج على نواهيها أو ينقض أسسها وتعاليمها.

وللكاتب الأصيل حريته الكاملة في أن يختار نقطة الغوص التي ينطلق منها في علاقته بما حوله, تحقيقا لأصالته, ومن ثم تفضيل هذه الزاوية أو تلك على غيرها, أو جعل الشريحة الاجتماعية التي يعرفها أكثر من غيرها مجاله المختار. وينطبق الأمر نفسه على علاقات المكان. وسواء كان الكاتب يؤثر المدينة على القرية, حيث شرائح الطبقة الوسطى الصغيرة التي تعلق بها نجيب محفوظ مثلا, كما تعلق بأماكن عوالمها وأسماء أحيائها القديمة, أو كان الكاتب يتنقل ما بين القرية والمدينة, كما يفعل يوسف إدريس, حيث (الحرام) في القرية يوازي (العيب) في المدينة, فالمهم هو جذرية الرؤية التي تنطوي عليها كتابة الأصالة, وسعي هذه الرؤية إلى تعرية الواقع من نقطة انطلاق بعينها, وفي المدى الزماني والمكاني, وبواسطة أنواع العلاقات التي تتبنى بها الشرائح الاجتماعية التي يعرفها الكاتب أكثر من غيرها. ولا يتعارض شمول الرؤية - في كتابة الأصالة - مع زاوية الاختيار, فصفة الشمول لا تنفي الاختيار لأنها تشير إلى اتساع مدى زاوية الرؤية التي تتحدد بفعل الاختيار ابتداء.

والأمر الثاني قرين الأمر الأول, أو وجهه الثاني, فلا اكتمال لمعرفة اللحظة المتعينة التي تسعى الكتابة إلى تجسيدها أو موازاتها إلا بمعرفة علاقاتها باللحظات المحيطة زماناً ومكانا, والأنا لا تعي نفسها إلا في علاقتها بغيرها, فمبدأ الغيرية هو المبدأ الإكمالي لوعي الهوية. ولذلك فلا أصالة للكتابة إلا بتضافر مبدأي الذاتية والغيرية, خصوصا من حيث هما مبدآن متضافران في وعي الكتابة المؤرَّقة بهويتها الخاصة, أو المؤصِّلة لهويتها النوعية. ويلزم عن ذلك أن الكتابة الأصيلة لا تولي ظهرها لأي كتابة مغايرة في الشرق أو الغرب, في الماضي أو الحاضر, وإنما تتفاعل مع كل ما يقع في المدى الكتابي للخبرة الإنسانية, بل إن حضورها نفسه مرهون بهذا التفاعل لأنها نتيجة له بمعنى من المعاني.

والتفاعل يعني الدخول في علاقة حوارية متكافئة, لا من منظور النقص أو الإحساس بالدونية, ولا على أساس ولع المغلوب بتقليد الغالب, وإنما على سبيل استكمال وعي الذات بوعي الغير, وفي أفق الدائرة التي لا يتحقق فيها الحوار إلا بالتفاعل الذي ينطوي على قدرة الذات المحاورة على أن تضع نفسها وغيرها موضع المساءلة, بعيدا عن أي نزعات عرقية أو وطنية منغلقة أو جامدة, وخارج أي فعل من أفعال التقليد لما يقع في دائرة الأنا أو دائرة الغير - الآخر الأجنبي, في أي نقطة من نقاط الزمان أو المكان.

أما الأمر الثالث فيرتبط ارتباطا وثيقا بفعل الإبداع الذاتي ومداه, وهو الفعل الذي يضفره الغوص عميقا في علاقات الواقع ومساءلته والمعرفة الواعية الناقدة لكل ما يحدث في الدنيا المحيطة بذلك الواقع. وهو الفعل الذي يحركه مبدأ الرغبة الذي ينقض مبدأ الواقع, والوعي الذي يؤرقه واقع الضرورة الذي يريد أن يحيله إلى واقع للحرية, ولذلك فهو الفعل المنسوج من أسئلة الوعي المشحون بهمومه النوعية, والمغموس في قضاياه المحلية, والعارف بكل ما يحدث في العالم حوله, الفعل الذي يسعى إلى تثوير الواقع بقدر ما يسعى إلى تثوير تقنياته الفنية. أو - بعبارة أدق - يسعى إلى تثوير الواقع من خلال تثوير التقنيات الفنية التي يستخدمها. ولا دائرة محدودة للأدوات المستخدمة في صياغة تقنيات الكتابة الأصيلة, فمداها التراث الإنساني كله, حتى لو كان هواها متعلقا بتراثها القومي, فالمهم هو إعادة صياغة الأدوات وإرهافها بما يجعل منها وسائل فاعلة في تغيير وعي القرّاء وحثّهم على الفعل النقضي للواقع الجامد.

تثوير الواقع

ويحدث ذلك حين يمتلئ الوعي المحرّك لفعل الإبداع الذاتي برؤيته الضدية التي تسعى إلى تثوير الواقع وتغييره جذريا إلى الأفضل, وحين تتجسد الرؤية الضدية بتقنيات فاعلة, أشبه بدرع برسيوس الذي قضى به على الميدوزا, في مواجهته لها. وكان ذلك حين جعل الميدوزا ترى صورتها الرهيبة في درعه, فتسقط صريعة رؤياها, منكسرة بفعل حضور صورتها البشعة التي أصبحت مكشوفة غير مستورة, قابلة للرؤية, ومن ثم المواجهة المظفرة. ولا معنى لاكتمال فاعلية التقنيات - بهذا الفهم - إلا من خلال التجريب المستمر والاختبار المتصل لأدوات الكتابة وتقنياتها بما يبقي على حرارة الكتابة وتأثيرها الحاسم وقوتها الدافعة.

والمعاصرة هي الوجه الآخر من الأصالة في هذا السياق, بل هي اللازمة الأولى من لوازمها. فلا معنى للأصالة بعيدا عن التفاعل الخلاّق مع الواقع الذي تبدأ منه, وفي مواجهته, كي تسهم في تحويله إلى واقع أنضر وأجمل. والغوص العميق لفعل الكتابة في علاقات اللحظة التي تتعين بها الحدود الزمنية للواقع الذي تواجهه هو نقطة البدء والعودة في العملية الإبداعية, فالكتابة تبدأ من زمنها النوعي ومكانها المخصوص ولا تغادرهما إلى الماضي أو إلى المستقبل, إلا لتعود إليهما بما يزيدهما كشفا, وبما يعين على رؤيتهما في ضوء جديد يعين على تغيير علاقات الضرورة التي تحتويهما. وحرية الحركة من نقطة البداية مباحة تماما للكتابة الأصيلة, سواء في تنقلها بين الأزمنة التي تشير بها إلى زمن البداية, أو الأزمنة التي ترى فيها زمن البداية, والإباحة واقعة بالقدر نفسه على المراوحة بين المعقول واللامعقول, أو الواقعي وما فوق الواقعي أو ما بعده, فالمهم هو ارتباط مدى الحركة بنقطة البداية التي هي نقطة النهاية, لكن بعد الغوص فيها أو البعد عنها بما يضيئها بنقطة النهاية التي تغدو نقطة الكشف عن بدايتها.

وكل استعادة للماضي هي استعادة للحاضر من هذا المنظور, أو - على نحو أدق - بحث من مرايا موازية ينعكس على صفحاتها واقع اللحظة الزمنية المتعينة لحاضر الكتابة, فالأصالة ليست انعزالا في الماضي, أو التعامل معه بوصفه الإطار المرجعي لحركة الحاضر, ولا تؤدي إلى تعارض بين الماضي والحاضر, وتفضيل الأول على الثاني, وإنما تصل بين الماضي والحاضر من منظور الأخير الذي تعيد قراءته في ضوء ماضيه, لا لكي تفر من الحاضر وإنما لتزداد معرفة به, سواء في اكتشاف آثار الماضي في الحاضر, أو نقض تقليد الحاضر للماضي, والكشف عن إمكانات التفاعل الخلاّق الذي يحيل الماضي إلى قوة دافعة للحاضر في علاقته بمستقبله, فيغدو دافع الحركة في كل الأحوال إمكانات المستقبل الواعد الذي يبدأ من التجذر في الحاضر, لاكتشاف أصوله الضاربة في الماضي, ودفعه إلى الأمام, صوب المستقبل, تحررا من الأصول التي تغدو قيدا, أو تفاعلا مع العناصر الموجبة التي يمكن أن تزيد من قوة الدفع إلى الأمام, وصفة الأصالة واقعة على حركة الفعل الإبداعي للكتابة التي تبدأ من زمنها المتعين لتعود إليه من هذا المنظور, ساعية إلى تغييره لصالح القيم التي تنطوي عليها, الحق والخير والجمال, في تعينها الذي يرتبط بتعين زمن الكتابة ومكانها, والذي يرتبط بغايتها, ويحقق مبدأ رغبتها في أن تكون كتابة أصيلة, متفرّدة التفرّد الذي لا تشبه به غيرها, فالأصالة تفرد بقدر ما هي تجذر, ووعي مستقل بلحظتها ينقض باستقلاله الوعي الزائف للتبعية أو الاتّباع, وهي وجود فاعل في الحاضر وبالحاضر مهما تباعدت عنه ظاهريا, فهي الحضور الخلاّق لمبدأ الرغبة الكتابية الذي يكون أو لا يكون.

هذا التأصيل لمفهوم الأصالة يصدق على كتابة يوسف إدريس كما يصدق على كل كاتب كبير يدخله النقد إلى دائرة العالمية بوصفها قيمة إنسانية جمالية لا قيمة سياسية أو أيديولوجية, وبديهي أن تكتسب أصالة كل كاتب كبير ملامحها النوعية الخاصة, أقصد إلى تلك الملامح التي تمايز بين القمم الإبداعية, مؤكدة خصوصية كل كتابة وتفرّدها. ولكن في إطار المفهوم العام الذي ينطوي على مبادئ الأصالة, صانعا وحدة التنوع على مستويات التنظير والتطبيق. ولذلك تختلف أصالة كتابة يوسف إدريس عن أصالة كتابة نجيب محفوظ المصري, أو أصالة هذا الكاتب العالمي أو ذاك على امتداد الكرة الأرضية.

الخاص... الطريق للعام

وتبدأ خصوصية كتابة يوسف إدريس من المعنى المؤسّس لعالميتها, المعنى الذي نستهل معرفتنا به بإدراك أن أدب يوسف إدريس أدب عالمي, يؤثر في قرائه, خارج لغته, لأنه أدب غاص في علاقات واقعه المحلي, وأدرك أن الخاص هو أقصر الطرق للوصول إلى العام, وأن التعمّق في المشكلات النوعية لمجتمع الكتابة هو أنجح السبل للإسهام في مواجهتها من ناحية, والتغلغل إلى قرارة قرارها, حيث الجذر الإنساني الذي يصل هذه المشكلات بغيرها من مشكلات الكائن البشري في كل مكان من ناحية مقابلة, وأدب يوسف إدريس في ذلك هو الوجه الآخر من أدب نجيب محفوظ في إدراك الحل الأمثل للصيغة الإبداعية التي يغدو فيها الخاص سبيلا إلى العام, أو يتجسد فيها الإنساني بخيوط قومية أو وطنية متأصلة الجذور, فيحدث التفاعل الخلاّق الذي يمتد بتأثير الكتابة خارج زمنها الكتابي المتعين, ولكن بفعل غوصها في هذا الزمن وتجسيده على نحو فريد أصيل.

وقد فعل يوسف إدريس ذلك عندما استطاع أن يحقق إنجازاً قومياً متميزاً في مجال القصة القصيرة, إنجازا لايزال بمنزلة قمة لم يستطع أن يصل إليها أحد على امتداد الوطن العربي كله إلى اليوم فيما أعلم, سواء من حيث التفرد التقني والجسارة التجريبية, أو من حيث الوعي بتقاليد القص العالمي ممزوجة بأخص الملامح الدالة على الهوية والخصوصية. ولكن يوسف إدريس ليس كاتبا استثنائيا للقصة القصيرة فحسب, فهو - إلى جانب ذلك - كاتب مسرحي, استطاع أن يقتحم أفقاً جديداً من الإبداع الذي جعل له بصمة لا يختلف حول أصالتها أحد, وحضوراً دائماً في تاريخ المسرح الحديث. وهو كاتب رواية موهوب, يتميز بدرجة عالية من الجرأة التي دفعته إلى اقتحام المناطق المسكوت عنها, وإنطاقها بما يخلع عن النفاق الاجتماعي والقمع السياسي الأقنعة الزائفة التي سرعان ما تعريها جسارة الروايات, فتتبدى الحقائق المراد إبقاؤها على ما هي عليه في طيات الكتمان أو أروقة الصمت. وأضيف إلى ذلك صفة كاتب المقالات الذي تميز بالجرأة على تعرية العيوب الاجتماعية والكشف عن النقائص الفكرية ومناوشة براثن القمع السياسية. وكانت مقالاته الفكرية توازي أعماله الإبداعية في مدى الهموم التي كانت تؤرق الكاتب, وتدفعه إلى أن يبحث بالكتابة عن آفاق واعدة بدل الآفاق المسدودة, وأن ينبش بالكتابة عن جوهر مبدأ الرغبة الكامن في كل نفس لا تستكين إلى مبدأ الواقع وحده.

ورغم السنوات العديدة التي مرّت على وفاة يوسف إدريس سنة 1991, ورغم ضعف الذاكرة الإبداعية العربية, فإن مكانة يوسف إدريس الأدبية لم تتناقص عربيا, بل أخذت تتصاعد في ميزان القيم, خصوصا بعد أن تخلصت هذه الكتابة من التباسات الواقع السياسي, وطرحت عنها خبث المصالح الزائلة, واستبقت الجوهر الأصيل الذي لايزال يضيء بالقيمة الإبداعية المتجددة, القيمة التي تجذب إليها أنظار الباحثين عن كل ما تغتني به الحياة ويزداد به الوجدان والعقل ثراء, هذه القيمة المتزايدة تبدأ من مفهوم (الأصالة) وتنتهي إليه, فتسهم في إضاءة الخصوصية الإبداعية لإنجاز يوسف إدريس

جابر عصفور مجلة العربي فبراير 2003

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016