مختارات من:

سر بين اثنين

كينتين رينولدز

كان الجواد الذي يستخدمه بيير لجر عربة الحليب خلال السنوات الخمس عشرة الماضية, جوادا كبيرا يدعى جوزيف. حين ألحق بالعمل لأول مرة في معمل منتجات الألبان في منطقة مونتريال, لم يكن يملك اسما. لحظة التعارف مع بيير, غرس هذا أصابعه الطويلة الخشنة في شعر الرقبة وبدأ يمشط ويمسد على عنقه وينظر في عينيه بود (هذا جواد لطيف, مهذب ومخلص, سأدعوه جوزيف على اسم القديس جوزيف), منذئذ انعقدت أواصر صداقة دامت كل هذه السنين بين الشغيلين الكادحين. خلال سنة واحدة من العمل مع بيير في مشوار توزيع الحليب, عرف جوزيف المشوار بكل تفاصيله: اتجاه الطريق, نقاط التوقف لغرض وضع زجاجات الحليب أمام بيوت الزبائن, عرف كل التفاصيل بغاية الدقة وهذا ما جعل بيير يؤكد دوما بكل فخر أنه لم يستعمل السوط مطلقا مع جوزيف. كل صباح باكر سواء من صباحات الصيف الدافئة الصافية الجميلة أو الشتائية الباردة المعتمة الكئيبة, كان بيير يصل إلى الإسطبلات في تمام الخامسة, يتوجه إلى عربته التي سلف تحميلها من قبل الكادر الليلي المناوب, حالما يأخذ مكانه في مقعد القيادة ومن دون أن ينبس بكلمة, يبدأ الجواد بالتحرك, تتدحرج العربة بلطف نزولا عبر شارع القديسة كاترين,ثم يمينا على طول شارع أفينيو الذي تمتد على جانبيه الأشجار السامقة, ثم تنعطف يسارا, حيث شارع الأمير إدوارد. يتوقف الجواد عند أول بيت مانحا صاحبه فسحة زمنية لا تتجاوز ثلاثين ثانية لوضع زجاجة الحليب عند العتبة, ثم يستمر بالمسير من جديد, يتجاوز بيتين, ثم يقف عند الثالث. ثم تتدحرج العربة بلطف على طول الشارع, وهكذا حتى يتم توزيع كامل حمولة العربة والعودة إلى مقر العمل. (إني لم ألمس السوط منذ التحق بي هذا الجواد الطيب, إنه يعرف بدقة أين يقف, إن أي أعمى يستطيع أداء العمل في مشواري هذا من اليوم الأول بفضل جوزيف) كان بيير يؤكد دوما.

ومرت السنون تليها السنون, وبدأت علائم الشيخوخة تظهر على الاثنين معا.لحية بيير الكثة الطويلة غدت بيضاء بالكامل, أما جوزيف فلم يعد قادرا على أن يرفع قائمتيه عن الأرض إلا بالكاد.. أما رأسه فكان متهالكا لا يكاد يعامد الأفق.

ذات صباح ضبابي بارد من صباحات أكتوبر, جاء مدير المعمل في زيارة لموقع العمل لغرض مراقبة مجريات التسليم الصباحي يرافقه مسئول الاسطبلات مارتن توفيير, بينما هما يتجولان أشار مارتن إلى بيير: انظر كيف يتحدث إلى الحصان. انظر كيف يصغي هذا الآخر له, كيف يتوجه برأسه له, لاحظ تلك النظرة في عين الجواد, أعتقد أن هذين الاثنين يشتركان في سر ما! لقد لاحظت ذلك دائما. إنه كما لو أنهما يضحكان علينا أحيانا حينما يخرجان معا في مشوارهما اليومي. على أي حال بيير رجل طيب, لكنه غدا عجوزا, ربما من القسوة أن اقترح أن يتقاعد وتمنحوه راتبا تقاعديا بسيطا!!

- بلا شك (علق المدير ضاحكا) إني مطلع على أرشيفه, لقد اشتغل الرجل لدينا قرابة ثلاثين عاما, ولم تأت أي شكوى ضده من الزبائن. أخبره أن من المستحسن له أن يستريح وسينال الراتب نفسه الذي يتقاضاه الآن.

ولكن بيير رفض بقوة, لقد أرعبته فكرة ألا يخرج مع جوزيف كل صباح كما اعتادا منذ خمسة عشر عاما.

- كلانا رجلان عجوزان (هتف بأسى لمارتن) - دعونا نستهلك معا وعندما يتقاعد جوزيف سأتقاعد أنا أيضا.

تفهم مارتن الموقف بتعاطف, فلم يعلق.

ذات صباح كان مارتن يحمل أخبارا محزنة لبيير حين وصل إلى المعمل, كان الصباح كئيبا معتما, الهواء ثلجي والثلج الذي هطل ليلا استحال إلى ملايين من حبات اللؤلؤ اللامعة.

- حصانك لم يستيقظ هذا الصباح. إنه عجوز جدا, بيير, إن عمره خمسة وعشرون عاما وهذا ما يعادل خمسة وسبعين عاما لدى البشر.

- نعم.. (همس بيير بأسى) إن عمري خمسة وسبعون.

ربت مارتن على كتفه بإشفاق.

- سنجد لك حصانا آخر, سيكون جيدا مثل جوزيف, ستعلمه خلال شهر واحد أن يتقن الطريق وتفاصيل العمل تماما مثل جوزيف.

ومنذ سنين وبيير يرتدي طاقية ذات حافة عريضة ينزلها إلى ما فوق عينيه, كانت النظرة في عين بيير قد أدهشت مارتن واستوقفته مليا, لقد لفت نظره تلك النظرة التي لا حياة فيها. كانت عيناه تعكسان الحزن الذي يمتلئ به قلب بيير وروحه, لقد بدا وكأن قلبه وروحه قد ماتا للتو.

- خذ اليوم استراحة يا صديقي (قال مارتن لبيير).

لكن بيير كان قد انسحب أصلا قبل أن يكمل مارتن كلامه, توجه في طريق العودة المعتاد والدموع تجري على خديه, في اللحظة ذاتها كانت هناك شاحنة مسرعة آتية من الجهة الأخرى, تعالى صراخ السائق منبها مع ضجيج صوت البوق, لكن بيير لم يسمع شيئا, ضغط السائق على الدواسة بمنتهى القوة.

- إنه ميت, قال سائق سيارة الإسعاف التي قدمت بعد خمس دقائق من الحادث.

- لم يكن بمقدوري أن أفعل شيئا, قال سائق الشاحنة, وأضاف:

- لقد كان يسير باتجاه شاحنتي, بدا وكأنه لم يرها, كان يتقدم نحو الموت وكأنه أعمى.

انحنى طبيب الإسعاف نحو الجثة:

- أعمى? طبعا الرجل أعمى, أما ترى تلك العتمة في عدسات العينين? هذا الرجل أعمى منذ سنين عديدة والتفت نحو مارتن, أنت تقول إنه كان يعمل لديك, ألم تكن تعرف أنه أعمى?

- كلا, كلا, لا أحد منا كان يعرف, واحد فقط, صديق له اسمه جوزيف, لقد كان سرا بينهما, بينهما فقط!

كينتين رينولدز مجلة العربي فبراير 2003

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016