كانت الكويت, ومازالت, بمنزلة العش الوثير الذي احتضن كوكبة من العقول العربية اللامعة وصنع بها ومعهامشروعه الثقافي الخطير.
إذا كانت كل الحواضر مؤنثة مجازا, فإنها تختلف فيما بينها في قدرتها على التبني والاحتضان وتلقيم ثديها لغير الأبناء. ليست كلها بقادرة على منح الحب وبذل الحنان للجيرة والعشيرة وأبناء العمومة. بل إن هناك من الحواضر من يجففها العقم ويصيبها العجز عن الولادة الحضارية قرونا متطاولة. ومع أني لا أريد أن أغضب أصدقائي في بعض أقاليم الوطن العربي فأعدد تلك المناطق التي أدت دور (المهد الثقافي الدافئ) مقارنة بأوطان أخرى كانت غالبا لحدا طاردا للتلقيح الحضاري, فإن بوسعي أن أشير فحسب إلى خارطة الشمال الإفريقي العربي كنموذج لهذا التناوب في الأدوار,حيث نرى شكلا من الثنائية الغريبة تتوزع مناطقه, فبينما نجد المغرب مهادا خصبا حميما لتخمر الثقافة وفقس بيضها, تفاجئنا الجزائر منذ قرون بصحرائها الجديب, وتقوم تونس بدور الواحة الوارفة الدافئة إلى جانب ليبيا التي كادت تخلو في الماضي من الإخصاب الثقافي, ولا نلبث أن ندهش أمام الرحم المصري الذي يلتقط كل ذوي الأرحام العرب من الجزيرة إلى الأندلس ليهيئ لهم العش الدافئ الوثير. ولا أزعم أن هذه الرؤية الأولية لتفاوت قدرات العطاء الحضاري في ملمح مميز منه, هو المتصل بحس الأمومة وكفاءة الاحتضان, يمثل قانونا جغرافيا أو تاريخيا صارما, ولكن الاستعراض السريع لأسماء الكتّاب والشعراء والعلماء ومدى كثافتهم في بعض البقاع وندرتهم في غيرها قد يؤكد أو يعدل من هذه الرؤية, مع قابليتها للتغير الجذري في العصور الحديثة, لكن جدلية الجذب والطرد في البيئات الثقافية سيظل لها ديناميكيتها التي تدعونا إلى تأملها ومراقبة تحولاتها ومحاولة تفسيراتها.
ما يعنينا أن نلاحظه الآن - ونحن ندرس دور الكويت النشط في إنارة مشعل الثقافة العربية المعاصرة - أن نلاحظ طبيعتها الجذابة حتى من قبل النفط كما أشار إلى ذلك أمين الريحاني في تحليله العميق لمشكلتها وإشادته البارعة بأهمية الثقافة في نهضتها, ولايزال تشبيهه لها بفتاة بارعة الحسن يتغزل بها عاشقان في نجد والعراق يلقي بظلاله على واقعها اليوم, وإن كان يدعونا إلى أن نعلق على تلك الصورة بأن (من الحب ما قتل) وأن ندعو لها بالصون والكرامة إلى أبد الآبدين.
وإذا كانت الصور المجازية تثيرشجوننا وتلمس مواجعنا فإن علينا أن نطرحها جانبا لنتحدث بشكل مباشر عن هذه الظاهرة اللافتة في تفاوت المواطن العربية وقدرة بعضها على احتضان الإنتاج الثقافي دون البعض الآخر, مع اشتراكها جميعاً في أساسه الاستراتيجي وحاجتها إلى الإفادة القصوى من نتائجه العملية في مختلف التجليات.
اللغة والتوالد الثقافي
كان (جاكوبسون) - وهو أحد أقطاب الفكر اللغوي والنقدي في القرن العشرين - يقول إن اللغة هي النموذج الأمثل للملكية المشتركة, فهي أعدل الأشياء قسمة بين أبناء الثقافة الواحدة, وليس بوسع أحد أن يحتكرها ويحرم منها الآخرين, فهي لا تعيش إلا بالمشاركة في الملكية.
ويمكننا أن نقول في وضعنا العربي إن اللغة هي ثروتنا المشتركة فعلا, وهي الوطن الذي نسكنه, والرصيد الثقافي الذي نختزنه, والجسر الذي نتواصل عبره, مما يجعل أي إضافة إليها, ولو كانت من أقصى ركن في الوطن العربي ارتفاعا بمنسوب الفكر وارتقاء بمستوى الحياة في جميع أرجائه, كما يجعل أي شوائب أو سموم تلقى فيها تهديدا للروح الوطني وخطرا على أبنائه. ليست هذه الحقيقة رهنا بالوعي القومي ولا وقفا على الاستراتيجية السياسية, وإنما هي حقيقة ترتبط بوجود الإنسان العربي ذاته وفاعلية مقوماته. ليست اللغة مجرد أداة للفكر, بل هي صانعته, لا يمكن احتكارها, ولا منع تفاعلها وتواصلها مهما جنح أهلها للعزلة, فهي تتضمن في كيانها آليات تصويب وتطهير ذاتية بتفاعل ما يلقى فيها. أكتب بها مثلا خطابا بليغا في تمجيد العزلة وتجميل القطيعة وستخلق بذلك تيارا مضادا لدى قومك أنفسهم لفتح قنوات التواصل والدعوة للتكامل. وأهم من ذلك فإن كل قصيدة تكتب, وكل قصة تروى, وكل مسرحية تعرض, وكل كتاب يؤلف, فإنها جميعا تطوي المسافات المكانية, وتختزل المراحل الزمنية, وتقوم بدورها في صناعة الوعي بالذات الجماعية, وتحديد الموقف من الآخر.
فإذا تأملنا آليات الإنتاج الثقافي, وتجاوزنا ظاهرة تبادل المواقع وتعاقب الأدوار, وقعنا على معامل أساسي في عمليات التوالد الثقافي وهو ضرورة التهجين, فالبيئات الحاضنة الراعية هي التي تهيئ الفضاءات اللاقطة المشجعة, هي التي تسمح للمهاجر إليها أن يحقق وجوده, وهي التي تدعوه إلى أن يدمج مشروعه في إطارها الكلي دون أن يغترب أو ينضوي, فالمهاد اللغوي الجامع والأفق المستقبلي المنشود يكفلان لعمليات التهجين أن تتم على أوفق نسق, وأن تؤتي أنضج الثمار.
ولن أذهب بعيدا لأضرب الأمثلة على ذلك من التاريخ القديم أو مما حدث في الثقافات الأخرى وكلها تشهد بذلك, وإنما سأقصر ملاحظاتي عن أهمية التهجين على نموذجين مهمين كان لهما أثر بالغ في تشكيل معالم الثقافة العربية ونهضتها, أحدهما ما جرى في مصر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين, والثاني ما حدث في الكويت خلال النصف الثاني من القرن ذاته.
المجال الحيوي للثقافة
فيما يتصل بالنموذج الأول أود فقط أن أنعش ذاكرتكم كي نستحضر ما حدث لإشعال جذوة النهضة الثقافية في مجالات: الصحافة - النشر - المسرح - السينما - الموسيقى وغيرها.
فقد لعبت القاهرة - والإسكندرية أيضا - دور الحاضنة التي أحسنت استقبال الرواد الطليعيين من أبناء الشام خاصة, تبنت مشروعاتهم وهيأت لهم ما يسميه مؤرخو الحضارة (المجال الحيوي اللازم) للنمو والرعاية, بما تتسم به من أفق مدني وتسامح ضروري وحرية كافية كي تزدهر في رحابها هذه الفنون وتلتحم بنسيج مشروعها الوطني.
ولأنني لست مشتغلا بالتاريخ, بقدر اهتمامي بنقد الفكر والثقافة والأدب, فلن أثقل عليكم بتفاصيل تأسيس الدور الصحفية والعاملة في مجال النشر من الأهرام إلى الهلال والمعارف التي لاتزال تحمل أسماء الرواد الشوام. ولا الفرق المسرحية والموسيقية ولا مجموعات العمل السينمائية والفنية فهذا متاح لكل الباحثين في تاريخ النهضة ممن لا يعمدون إلى التعمية ولا تصيبهم آفة التعصب, ولكنني أطرح سؤالين فقط في هذا الصدد:
أولهما: هل ينتقص هذا الإسهام العربي في تشكيل نهضة الثقافة العربية في مصر في مجالاتها الحيوية الجديدة من أهمية البيئة الحاضنة اللاقطة أو يطعن في كفاءة أهلها وإمكان قيامهم وحدهم بهذا الدور, أم أنه على العكس من ذلك قد كفل لهذه النهضة طابعها العربي وأتاح لها فرصة استثمار الإمكانات التاريخية المتعددة بقدر من التكامل والتوافق في خلق فضاءات جديدة من التفاعل الحر والإنتاج الكاسر لقشرة التقاليد المقاومة لخروج الوليد الجديد?
أما السؤال الثاني فهو يمضي إلى أبعد من ذلك في استكناه آليات الإنتاج الثقافي وفهمه في طابعه اللغوي الغالب وهو:
- ترى هل كان بوسع الرواد المصريين أن يقوموا بدورهم التاريخي في مجالات الفكر والأدب والفن والإعلام لو حرصوا على طابعهم الإقليمي المحدود ورفضوا التهجين المطروح واعتصموا بالعزلة الوطنية وغرقوا في مشكلاتهم المحلية, دون أن يستوعبوا المشروع القومي الشامل للأمة ويدمجوا في خلاياه ما تساقط في حجرهم من مشروعات عربية لم تنم في بيئتها الأولى? ترى هل كان بوسع شوقي أن يكون أميرا لشعراء العرب دون أن يبايعه بذلك خليل مطران وبقية الشعراء? وهل كان طه حسين سيصبح عميداً للأدب العربي ما لم يحتضن في كنفه أساتذة الغد الذين سينتشرون في كل الجامعات العربية? وهل كان توفيق الحكيم سيصبح مؤسس المسرح العربي من دون أن يعرض في كل الأقطار? أو أم كلثوم دون أن تعبر عن وجدان الجميع? أو نجيب محفوظ دون أن يسجل حيوات الجميع? هؤلاء جميعا هل كان بوسعهم أولا أن يتخذوا لغة غير العربية ويظلوا أوفياء للشخصية المصرية, هل كانوا يملكون رفض تراثهم العربي الإسلامي أو القطيعة مع إخوتهم في العروبة? هل كانوا يصنعون نهضة ثقافية لأمتهم دون هذا المد العربي الذي انداح إلى وجدانهم وشكل تاريخـــهم ورسم أفق مستقبلهم القومي بالرغم من كل التحفظات?
لا أحسب أن أحدا يحسن قراءة التاريخ الفكري يجازف بتوهم إمكان تصور هذه الفروض دون أن يتعسف في فهم آليات الإنتاج الثقافي التي كان من المحتم عليها أن تتوالد بالتهجين وتنمو بالتواصل وتزدهر بالتفاعل العميق.
العش الكويتي الوثير
ونأتي إلى بيت القصيد في هذه الكلمة وهو (العش الكويتي الوثير) الذي احتضن كوكبة من العقول العربية اللامعة وصنع بها ومعها مشروعه الثقافي الخطير, وأتاح لها من فرص الإبداع ما سيظل يقترن بتاريخها ويلتحم بمشروعها. ولن أتعرض بالطبع لكل الأسماء والشخصيات والمواقع والمجالات, بل سأختار منها نماذج دالة من تلك التي فاضت بعطائها وأنارت بشعلتها الخارطة العربية كلها.
ومرة أخرى لا أملك عقلية المؤرخ ولا وثائقه, فغيري أجدر بذلك وأقدر, سأشير فحسب إلى كبار مهندسي الضوء الذين أسهموا في إنارة الشعلة, وهي شعلة استمدت زيتها من أرض الكويت وذكاء بنيها وحماسهم وقدرتهم على الاختيار والاستثمار ورعاية الشمعة الموقدة حتى لا تنطفئ.
وربما كان عام 1958 - كما يقول مؤرخ الثقافة الكويتية الرصين, الدكتور محمد حسن عبدالله - هو البداية الحقيقية لهذا المشروع, إذ شهد حدثين متزامنين على قدر كبير من الأهمية, يقدمان إشارة الانطلاق الجسور:
- أحدهما: انعقاد الدورة الرابعة لمؤتمر الأدباء العرب في الكويت, بعد بيروت ودمشق والقاهرة, وتولي الراحل المؤسس الكبير عبدالعزيز حسين مهام السكرتير العام له, واتخاذه لمحور (البطولة في الأدب العربي) موضوعا محوريا ورئيسيا له, مما كان بمنزلة الإعلان الرسمي عن دخول الكويت المؤثر مجال احتقان العمل الثقافي العربي المشترك.
ثانيهما: إصدار مجلة العربي - باعتبارها من أكثر المجلات عروبة وانتشارا واستمرارا - بتصميم وإدارة واحد من أكبر علماء العروبة وأدبائها هو الدكتور أحمد زكي.
هنا نلتقط بداية الخيط في هذه السلسلة الذهبية من الرجالات العرب الذين أقاموا بأرض الكويت وأبدعوا فيها متجاوزين قائمة عريضة من أسماء الزوار العابرين أمثال الأدباء الشوام أمين نخلة وأمين الريحاني, والزعيم النهضوي التونسي عبدالعزيز الثعالبي, والمفكر الإسلامي العظيم تلميذ محمد عبده الأستاذ رشيد رضا صاحب المنار. كان أحمد زكي إذن أول مقيم عربي كبير في الكويت, وفد إليها وهو في الرابعة والستين من عمره, بعد أن كان قد أسس وهو في مصر مصلحة الكيمياء ومصلحة الصناعة والمركز القومي للبحوث, وتولي وزارة الشئون الاجتماعية لفترة وجيزة قبيل ثورة 1952, وأهم من ذلك بالنسبة لمشروعه الكويتي كان قد تولى رئاسة تحرير مجلة الهلال القاهرية لمدة ثلاثة أعوام قبل أن يصــبح مــديــرا لجــامــعة القاهرة إبـان عـامي 1953 و1954, وكان أحمد أمين قد سبق إلى توصيفه بدقة خلال خطاب استقباله عضوا بمجمع اللغة العربية في مصر في الأربعينيات قائلاً: (إنه كيميائي عظيم وأديب كبير مزج بين العلم والأدب, كما يمزج بين السكر والماء, فبينما تراه في معمله بين الأنابيب والمحاليل, تراه في مكتبه يحلل الكلمات ويستخرج المعاني ويصوغ الأفكار), لكن الخلطة التي ابتكرها لمجلة العربي لم تعتمد على نموذج مجلة الهلال المطورة فحسب, بل ارتكزت في الدرجة الأولى - كما يخبرنا أحمد زكي نفسه في أحد مقالاته - على نموذج (المجلة الجغرافية الأمريكية) بعد تعديله وإضافة كثير من الأبواب الملائمة لطبيعة الثقافة العربية والفكر الحديث إليه. استمر أحمد زكي في إصدار العربي سبعة عشر عاما حتى توفي سنة 1975 بعد أن رأس تحرير مائتين وأربعة أعداد شكلت مكتبة صحفية زودت قرّاء العربية كلها بالمعرفة والثقافة والفن والعلم والأدب.
وقد سهّل هذا النموذج الفائق في نجاحه وفعاليته مهمة خلفه في رئاسة تحرير العربي (أحمد بهاء الدين) الذي لم يكن بدوره رجلا عاديا, بل كان من أهم رجالات الصحافة العربية في القرن العشرين, حيث أسس مجلة صباح الخير في مصر عام 1956, وعمل رئيساً لتحرير جريدة الأخبار اليومية عام 1959, ورئيساً لمجلس إدارة الهلال ونقيبا للصحفيين حتى تولى رئاسة تحرير الأهرام في عهد الرئيس السادات عام 1974 وضاق صدره بالسياسة حينئذ, لأنه كان مفكرا عروبيا تقدميا واعيا فقبل الخروج إلى الكويت وأداء رسالته العربية في منبرها الرفيع لمدة سبع سنوات أصدر فيها ثمانين عددا من المجلة حتى عام 1982, فأضفى عليها من حيوية مدرسته الصحفية وخبرته العميقة بالإعلام الثقافي ما جدد شبابها ووصل بمقروئيتها إلى ذروة لم تشهدها أي مجلة عربية من قبل, واستمر أداء المجلة في صعوده بتولي مفكرين عربيين من الكويت لها بعد ذلك هما الأستاذ الدكتور محمد الرميحي والأستاذ الدكتور سليمان العسكري, وقبل أن نترك مجلة العربي لابد من الإشادة بالجهد السخيّ الموصول الذي قام به طاقم التحرير فيها وخاصة المبدع الكبير الأستاذ أبو المعاطي أبو النجا الذي يعد نموذجاً للعطاء الصامت الدءوب من الثمانينيات حتى اليوم.
أهم السلاسل الفكرية
وما دمنا بصدد الأعلام العرب من العاملين في مجال النشر الثقافي بالكويت, فلابد أن نعود إلى مجموعة السلاسل العربية الكبرى التي أنشأها ورعاها الشاعر الكويتي المثقف الكبير الراحل أحمــــد العـــدواني وإسناد رئاسة تحـــريرها لعدد من قــــادة الفكر والثـــــقافة في اــــلوطن العــــربي ومن أهـمها بالتـــرتيب التـــــاريخي:
- سلسلة (من المسرح العالمي) الشهرية التي صدرت ابتداء من عام 1969 وتناوب على رئاستها منذ البداية الدكتور محمد إسماعيل موافي الذي كان مشرفاً على صدور نظيرتها في مصر قبل ذلك, ثم الدكتور طه محمود طه الذي رحل عن عالمنا أخيراً.
- مجلة (عالم الفكر) الفصلية الأكاديمية الرصينة التي صدرت منذ عام 1970 وأشرف عليها كبير علماء الأنثروبولوجيا العرب المفكر الدكتور أحمد أبو زيد وتعاقب عليها من بعده عدد من كبار الأساتذة المثقفين في الكويت.
- سلسلة (عالم المعرفة) الشهرية التي ملأت المكتبات العربية بنماذج فائقة من الكتب المؤلفة والمترجمة, والتي يشرف عليها منذ بداية صدورها عام 1978حتى الآن المفكر العربي الكبير الدكتور فؤاد زكريا, وجعل منها نواة لمكتبة عربية معرفية مشتركة يتاح اقتناؤها لجميع القرّاء عبر قرابة ربع قرن من الزمان. وفؤاد زكريا واحد من أهم مهندسي الثقافة العربية ومشكّلي وعي القرّاء العرب بتفكيره العلمي ونزوعه النقدي ورؤيته المتوازنة لاستراتيجيات المعرفة بجوانبها العديدة, وقد حضر للكويت عام 1977 وهو في الخمسين من عمره بعد أن كان قد تولى في مصر رئاسة تحرير مجلة الفكر المعاصر ورئاسة تحرير سلسلة تراث الإنسانية منذ عام 1968 ورئاسة قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة عين شمس, وعمل خبيراً في منظمة اليونسكو وأصدر قرابة ثلاثين كتابا أثرى بها المكتبة العربية تأليفاً وترجمة.
ولن يتسع مجال هذه الورقة الوجيزة لتناول أعلام التعليم والجامعة من الروّاد العرب أمثال الرؤساء الأول لجامعة الكويت الدكتور عبدالفتاح إسماعيل والدكتور عبدالوهاب البرلّسي وهما من وزراء التعليم العالي في مصر - وقادة الفكر الديني والأكاديمي أمثال الدكاترة: عبدالعزيز كامل وعبدالمنعم النمر وأحمد كمال أبو المجد, وكبار الأساتذة والمفكرين من قامة عبدالسلام هارون وشوقي ضيف وزكي نجيب محمود وشاكر مصطفى وحسين مؤنس ومؤرخ الحركة الأدبية في الكويت الدكتور محمد حسن عبدالله وغيرهم ممن يطول الحديث عنهم لو تطرقنا إلى تفاصيل إنجازاتهم المأثورة.
ويكفي في نهاية هذا العرض المنقوص لجهد المبدعين العرب في الكويت نتيجة لما توافر لدي من معلومات قليلة أن أشير إلى مجال أخير تميّزت به الثقافة العربية في الكويت عن بقية البلدان المناظرة لها وهو المتمثل في النشاط المسرحي, حيث ازدهر في العقود الأربعة الماضية بفضل حيوية أبناء الكويت أولا, وطموحهم لخلق نهضة ثقافية عربية, وقدرتهم على اختيار واحتضان كوكبة من أهم رجال المسرح العربي ومخرجيه, وفي مقدمتهم الأستاذ زكي طليمات الذي حضر إلى الكويت عام 1958 لمدة ثلاثة شهور ألقى فيها عددا من المحاضرات قبل أن يقوم بإخراج (مهرجان العروبة) الذي اشتركت فيه المرأة لأول مرة في المسرح الكويتي, وزكي طليمات هو رائد التأسيس العلمي للمسرح المصري والعربي, حضر إلى الكويت للإقامة بها وهو في الخامسة والستين من عمره سنة 1961 حيث عهدت إليه الدولة بتأسيس مسرحها القومي, وعيّن مشرفا عاما على مؤسسة المسرح والفنون, وأنشأ فرقة المسرح العربي عام 1961, ومسرح الخليج العربي عام 1963, ودعا إلى إقامة مركز الدراسات المسرحية عام 1964, وقام بوضع مناهجه ومواده الدراسية, وأخرج للفرق الكويتية عدة مسرحيات من التراثين العربي والغربي والمسرح الحديث واستمر لمدة عشرة أعوام في أداء هذه الرسالة قبل أن يعود إلى مصر.
وتعاقب من بعده على رعاية الحركة المسرحية والعمل في معهد الفنون المسرحية بالكويت عدد من أهم رجال المسرح العربي أمثال كرم مطاوع الذي ظل ست سنوات من 1976 إلى 82 وسعد أردش الذي ظل خمس سنوات وسعيد خطاب وأحمد عبدالحليم, وكانوا جميعا يقومون بالتدريس والتمثيل والإخراج وإغراق المسارح العربية في الكويت بالنور والحركة والفاعلية, وامتد نشاطهم الفني إلى الإذاعة والتلفزيون بالتمثيل والإخراج واشتركوا بالتأليف والترجمة لعيون المسرح العربي والعالمي. وصاحب ذلك حركة نقدية نشطة تولى إحياءها الناقد العربي الكبير الدكتور علي الراعي الذي كان قد أسهم بقسط وافر في خلق تيار مسرح الستينيات في مصر, وعندما ذهب معاراً إلى جامعة الكويت مارس نشاطه النقدي والفكري وأتم مشروعه الكبير في التأريخ للحركة المسرحية في الوطن العربي بأكمله.