مختارات من:

عرب يبدعون بلغة انجليزية

شيرين أبو النجا

كيف يمكن تصنيف أعمال الكتاب العرب الذين اختاروا الإنجليزية وسيلة للتعبير?. وهل هذا الأدب هو نتاج للعولمة? أم مواجهة للهيمنة الفكرية للثقافة الغربية التي لا تسمع سوى صوتها?

(ماذا يمكنني القول عن حقيقة عدم استخدامي لغتي الأم وعدم وجود أهم إحساس بداخلي والذي يجب أن أملكه ككاتبة, وهو إحساس التحاور المباشر مع جمهوري الأصلي? إن ذلك مثل سؤال ماذا كنت سأصبح لو كنت إنساناً آخر?

ليست هناك إجابات لمثل هذه الأسئلة. فهي تساؤلات مثل محاولة الإمساك بالأشعة المنعكسة في يدي. هناك عدد متزايد من الكتّاب الذين يستخدمون لغة (عالمية), مثل الإنجليزية, فهم في الحقيقة يستخدمون لغة أخرى غير لغتهم الأصلية لأسباب مثل التاريخ, أو المنفى, أو طبقاً لذوقهم الشخصي).

إتيل عدنان.. (الكتابة بلغة أجنبية)

يتردد السؤال دائما: لماذا يلجأ الكاتب/ الكاتبة إلى استخدام لغة أجنبية في الكتابة الإبداعية? بالطبع هناك الكتاب الذين هاجروا إلى الخارج في سن مبكرة وهناك الذين تعلموا في مدارس أجنبية وهناك هؤلاء الذين قام الاستعمار بمحو لغتهم الأم. تتعدد الأسباب ولكن النتيجة ثابتة: النص الإبداعي المنتج هو نص مزدوج الهوية, بمعنى أن الرؤية التي ينطلق منها هي رؤية مرتبطة بالوطن الأم معبرة عن نفسها بلغة أجنبية مغايرة, بل إن الازدواج يظهر أيضاً في الأسلوب ذاته, بمعنى أن النص ينقل حرفياً الثقافة العربية إلى اللغة الأجنبية, أو كما يقال, يفكر الكاتب باللغة الأم ويكتب بلغة أجنبية, مما يؤدي حتما إلى خلخلة الخطاب الثقافي المهيمن حتى أن ذلك أدى إلى ظهور مصطلح (الإنجليزيات الجديدة). والأهم أن هذه الكتابات قد أثرت على الخطاب النقدي الذي يفترض سيادة نظرية نقدية أوربية, وهي سيادة تحدد المعايير التي ينبغي توافرها في النص الإبداعي.

لا يمكن أيضاً إغفال كتابات العرب الأمريكيين, وبعضهم مازال يحتفظ بلغته العربية والبعض الآخر (الجيل الثاني والثالث) لا يعرف سوى اللغة الإنجليزية. وهي كتابات أيضا تنبع من ثقافة العالم العربي وتعيد تشييد الوطن داخل النص, حتى أن الديوان الذي حررته جوانا قاضي والذي ضم قصائد شاعرات عربيات أمريكيات وكنديات قد قسم إلى ست أجزاء: الزيتون, الخبز, الزعتر, اللبنة, ورق العنب, النعناع, أما عنوان الديوان فهو (غذاء لجداتنا)Food for our grand dmothers. بهذا المعنى تكتسب هذه الكتابات صفة الازدواجية.

هل ينفصل النفسي عن العاطفي?

لم يغفل أصحاب اللغة الإنجليزية وجود هذه الكتابات, ففي عام 1998 عقد المجلس الثقافي البريطاني بالقاهرة مؤتمرا بعنوان (العرب وبريطانيا: تغيرات وتبادلات) ودُعي إلى المؤتمر عدد كبير من العرب الذين يكتبون باللغة الإنجليزية وقُدمت العديد من الشهادات, ومن المهم هنا أن أسوق رأي بيتر كلارك, أحد مستشاري المجلس, إذ يرى أن: (استخدام اللغة الإنجليزية في التعبير عن مشاعر عربية يؤكد البعد الفيزيقي والنفسي وليس العاطفي عن الموضوع العربي في النص).

إلا أنني أخالف هذا الرأي قليلا, فليس هناك انفصال بين النفسي والعاطفي في هذه النصوص ذات الهوية المزدوجة التي تقف على الحافة بين ثقافتين, فالرؤية التي تطرحها هذه النصوص تنطلق من رؤية خطاب ثقافي عربي في الأصل ولكنها تتخذ من البعد الجغرافي واللغوي طريقا لإرساء رؤية شاملة للعلاقة بين الذات والآخر, فبالإضافة إلى وجود فكرة الرحلة التي يقوم بها البطل من هنا إلى هناك, هناك أيضاً البعد المجازي الذي يجعل من اتخاذ اللغة الأجنبية كوسيلة للتعبير بمنزلة الطريق الذي يفضي في النهاية إلى الجذور.

ما أردت أن أخلص إليه في النهاية هو أن الكاتب العربي الذي يكتب بلغة أجنبية - والتركيز هنا على اللغة الإنجليزية - لم يعد ظاهرة استثنائية أو فردية, بالطبع يعتبر عدد هؤلاء الكتاب قليلا إذا قورن بإنتاج الأدب العربي, ولكنه في النهاية يشكل تياراً ورافداً لا يمكن تجاهله, مما حدا بمجلة (ألف) التي تصدر عن قسم الأدب الإنجليزي والمقارن بالجامعة الأمريكية بالقاهرة أن تخصص العدد رقم عشرين لهؤلاء الكتاب وكان عنوانه (النص الإبداعي ذو الهوية المزدوجة: مبدعون عرب يكتبون بلغات أجنبية). وقد ظهر في هذا العدد ثراء هذه الكتابات والوعي الذي تعبر عنه تجاه الثقافة الأصلية وتجاه آلية استخدام لغة أجنبية للتعبير عنها.

وقد جاء في مقدمة العدد أنه (في عالم يتباهى بالعالمية والعولمة لا يقتصر دور هذا الأدب على تشكيل رافد في التيارات الثقافية السائدة, لكن دوره الأهم يكمن في مواجهة مراكز الهيمنة الثقافية بخطابها المونولوجي الذي يفتقر إلى مبدأ الحوارية واحترام الآخر, على الرغم من كل ادعاءاتها). هذا بالضبط ما قصدته بخلخلة المركز, وهي خلخلة تكشف عما هو كامن في الهوامش وما هو معتم عليه بسبب سيادة معايير مطلقة ورؤى ثابتة.

وقد سبقت (ألف) في الاعتراف بهؤلاء الكتاب والكاتبات سلمى خضرا الجيوسي الناقدة والشاعرة الفلسطينية. في عملها الضخم (موسوعة الأدب الفلسطيني) المكونة من جزأين, النثر والشعر, أفردت فصلا خاصا للشعراء والكتاب الفلسطينيين الذين يكتبون باللغة الإنجليزية وهم: فواز تركي, لينا الجيوسي, نتالي حنضل, حنان ميخائيل عشراوي, أمينة قزق, ليزا سهير مجج, شريف الموسى, نيومي شهاب ناي. ولصدور هذه الموسوعة بالعربية والإنجليزية فإنه يسهل على القارئ العربي التعرف على بعض أعمال هؤلاء الشعراء.

ومن اللافت للنظر أن الكتّاب العرب الذين يكتبون باللغة الإنجليزية قد برزوا بشكل واضح على الساحة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين (هل يتزامن هذا مع ظهور النظام العالمي الجديد وكل المتغيرات الدولية?) وفيما عدا ذلك لم يكن هناك سوى أعمال جبران خليل جبران ورواية (بيرة في نادي البلياردو) (1964) للكاتب المصري وجيه غالي والسيرة الذاتية لإدوارد عطية (1946) والتي أعلن فيها إيمانه بالصداقة العربية الإنجليزية, وهوما فعله جبران بشكل أكثر شمولية. بعد انقطاع الأسماء العربية التي تكتب بالإنجليزية - كان التركيز على الهنود الذين يكتبون بالإنجليزية والمغرب العربي الذي كتب ومازال يكتب الكثير بالفرنسية - ظهرت رواية (في عين الشمس) (1992) للكاتبة المصرية أهداف سويف, وهي الرواية التي استقبلت بحفاوة من البعض وبهجوم من البعض الآخر وكانت المشكلة (الاعتيادية) أن كل من هاجم الرواية لم يقرأها! ومفاد ذلك الاتهام (التقليدي أيضا) أن الرواية مكتوبة للغرب. ورغم التباس هذا الاتهام فإنني لا أرى غضاضة في هذا. رؤيتي بالطبع تنطلق من أرضية مغايرة لنبرة الاتهام. فلا يمكن مثلا أن ننسى تلك المقاطع البديعة التي ترجمت فيه آسيا - البطلة - أغنية الشيخ إمام (شرفت يا نيكسون بابا..) لضيوفها, ولم تكن الترجمة حرفية بقدر ما كانت ثقافية, ترجمة تميط اللثام عن رؤية مختلفة وتوالت بعد (في عين الشمس) العديد من الروايات الأخرى. منها (خارطة الحب) (1999) للكاتبة نفسها وهي الرواية التي رُشحت لجائزة البوكر ثم استبعدتها اللجنة لأنها (تعبر عن مشاعر ضد السامية)!

ظاهرة واحدة وأقطار متعددة

أما السودان فقد قدم جمال محجوب الذي كتب عدة روايات منها (أجنحة من غبار) (1994), كما حصل على جائزة الجارديان للقصة الإفريقية القصيرة. أما ليلى أبو العلا فقد نشرت رائعتها (المترجمة) عام 1999, وهي الرواية التي أعتبرها رداً نسوياً على رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح. كما حصلت إحدى قصصها القصيرة على جائزة كين الإفريقية عام2000 وهي الآن مسئولة عن سلسلة الأدب الإفريقي المكتوب باللغة الإنجليزية في دار نشر فيبروفيبر.

ومن تونس (الفرانكوفونية في الأغلب) ظهرت رواية صبيحة خمير (الانتظار في المستقبل لكي يأتي الماضي) (1999) وهي تدور أيضا حول تيمة الرحلة: تونس - لندن - تونس, مما يسمح بإعادة تقييم الماضي والتنقيب في متاهات الذات.

أما فلسطين فبالإضافة إلى ما ذكر آنفاً, فهناك أيضا ثريا أنطونيوس التي كتبت (عندما يتشاور الجن) (1987) و(السيد) (1988). والروايتان تدوران حول وقوع فلسطين تحت حكم الانتداب البريطاني. أما ياسمين زهران فرغم أنها كتبت روايتها الأولى (اللحن الأول من أيام فلسطين) بالعربية, فإنها كتبت روايتها الثانية (متسولة عند باب العمود) (1995) بالإنجليزية وقد أنجزت الباحثة تحية عبدالناصر بحثاً عن هذه الرواية نشر في عدد (ألف) المخصص لهؤلاء الكتاب.

لا يمكننا أن نغفل السيرة الذاتية أو المذكرات كجنس أدبي, فهناك (شذرات بيروت: سيرة حرب) للكاتبة جين سعيد مقديسي وهي شقيقة الكاتب المعروف إدوارد سعيد. وهناك أيضا (مذكرات القدس) لسيرين حسين شهيد وقد قامت جين مقديسي بتحرير هذا الكتاب.

ومن لبنان هناك العديد من الأسماء منهم توني حنانيا وله ثلاث روايات (الحنين إلى الوطن) (1998), (مدينة زائفة) (1999), و(جزيرة إيروس) (2000). ويبدو أن الحرب الأهلية اللبنانية والتي شكلت جزءاً رئيسياً من رؤية الأدب اللبناني العربي قد أثرت أيضا على الكتابات اللبنانية - الإنجليزية. فقد نشرت مي غصوب كتاباً بعنوان (مغادرة بيروت: النساء والحروب في الداخل) (1998) وهو يجمع قصص الحياة اليومية للنساء اللواتي عشن الحرب. أما نبيل صالح فله عدة روايات أشهرها (البيت المفتوح) (2000) كناية عن بيروت في الأربعينيات والخمسينيات وما عانته من ويلات الاستعمار. وأخيراً, من لبنان, هناك زينة غندور والتي نشرت رواية (العسل) عام 1999, وقد عنونت فصول الرواية الخمسة بمواقيت فروض الصلاة.

أما الأردن فقد قدم فادية فقير ولها روايتان (نيسا نيت) (1987) و(أعمدة الملح) (1996) والتي تغزل فيها الحكي بموازاة ما تغزله البطلة. من العراق كتبت نهى الراضي (يوميات بغداد) (1998) بالإنجليزية وهي صاحبة الرواية الشهيرة (عام الفيل). كما كتبت ليلى أحمد الباحثة المصرية مذكراتها - والتي تدور بالأساس حول تكوينها المعرفي - بعنوان (عبور الحدود: من القاهرة إلى أمريكا - رحلة امرأة) (1999). وفي النهاية لا يمكن أن ننسى مذكرات إدوارد سعيد (خارج المكان) (1999) والتي ترجمت إلى العربية وقامت بنشرها دار الآداب.

أما بالنسبة للكتّاب العرب الأمريكيين فإنه من الصعب حصر الأسماء وذلك لكثرتهم, مما أدى إلى صدور موسوعة (ما بعد جبران) عام 1999 من جامعة سيراكوز بالولايات المتحدة, وقد شارك الشاعر الليبي خالد مطاوع (الذي يكتب أيضاً باللغة الإنجليزية) في تحرير هذه الموسوعة, وهي تعد الآن مرجعاً مهماً لمن يريد أن يبحث في هؤلاء الكتّاب.

الذاكرة تقنية أساسية

بعد استعراض كل هذه الأسماء والأعمال أود أن أؤكد أن كل هذه الكتابات تنهل من الثقافة العربية لتعبّر عن نفسها بلغة إنجليزية, فهي كتابات ليست منفصلة عن السياق الساسي في العالم العربي مما يجعل الصراع العربي - الإسرائيلي هو أحد الموتيفات الثابتة فيها, فالكاتب العربي, أيّا كان موقعه الجغرافي وموقفه المعرفي لا يمكنه أن ينسلخ من سياق مفعم بكل التغيرات والاضطرابات السياسية والاجتماعية والفكرية. وهذا الالتحام بالوطن الأم هو ما يبرر توظيف الذاكرة كأحد التقنيات في هذه الكتابات, فالذاكرة تبيح للكاتب التنقل بين الماضي والحاضر, أي بين (هنا) و(هناك), بين ثقافتين, وبالتالي تتشكّل في هذه الحركة العلاقة بين الذات والآخر, سواء كان علاقة صراع أم تصالح أم توليفة من الاثنين معاً.

إذا كان هؤلاء الكتّاب قد احتفظوا بالروح العربية ليضعوها في وعاء اللغة الإنجليزية, فإنه لابد من التأكيد أنهم قد قاموا بتطويع اللغة الإنجليزية لصالح تلك الروح العربية. ففي كل نص تقريبا هناك قاموس (معجم) مصغر للمفردات العربية التي وردت في النص وهي مفردات تتراوح ما بين أسماء الأماكن والعادات والتقاليد والطقوس والتاريخ والتراث وحتى أسماء الأكلات العربية. النص عربي الجوهر والروح, إنجليزي اللغة, ولم لا? لماذا لا ننقل ثقافتنا دون وساطة الترجمة? ولماذا لا نتخذ مواقع مختلفة تساعدنا على بلورة رؤية أكثر شمولية, رؤية تزيد من ثراء خطابنا, رؤية (هجين) تفتح مناطق جديدة للاحتكاك الثقافي والتفاعل عبر الإبداع, مما يجعلني أختم المقال بكلمات أهداف سويف: ومهما يكن فقد قنعت بكوني نوعا من الهجين: مصرية إلى الصميم لكني أجد أدواتي الابداعية في اللغة الإنجليزية.

شيرين أبو النجا مجلة العربي مايو 2003

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016