لقد هزت صورة محمد الدرة وهو يموت ضمير العالم كله. فهل تهتز القناعات العربية القديمة وتدرك مدى أهمية الصورة في حربنا مع إسرائيل.
في الأعوام الثلاثة الأولى من القرن الواحد والعشرين, بدأت السينما العربية المهتمة بفلسطين تثبت حضورا جيدا في المحافل السينمائية الدولية. ذلك أن عددا لا بأس به من المخرجين الفلسطينيين والعرب, المقيمين في بلادهم أو المنفيين إلى المهاجر الغربية, وجد في السينما أداة صالحة لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي بشكل متلائم مع تطوّر العصر. لم تعد العمليات العسكرية والمواجهات السياسية كافية. هناك حاجة ماسة إلى (سلاح) جديد, استخدمته الدول الغربية, خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية, في تأكيد سيطرتها على المشهد الدولي. تمثّل السلاح الجديد بالإعلام المرئي, أولا وأساسا: التلفزيون (نشرات الأخبار, التقارير والتحقيقات) والسينما (أفلام وأشرطة فيديو). هناك أيضا (إنترنت), بقدراته المذهلة على اختراق الحواجز الجغرافية والثقافية والحضارية والاجتماعية والدينية, وعلى تقديم كمّ هائل من المعلومات بسرعة فائقة.
غير أن مشكلة الإعلام العربي, على الرغم من انتشار ظاهرة المحطات التلفزيونية الفضائية في عواصم عربية وأجنبية عدّة, كامنة في غياب سياسة متكاملة لإدارة الجانب الإعلامي من الصراع اليومي, أكان هذا الصراع موجّها ضد إسرائيل والضغوط الغربية, أم ضد الجهل والأمية والفساد والتخلّف والقمع في الداخل العربي. على المستوى السينمائي, (فشل) العرب في تحقيق معادلات عدّة, بعضها أساسي في صنع الفيلم: ثنائية الشكل والمضمون, الابتعاد عن الكليشيهات المستهلكة, ابتكار أشكال جديدة من التعبير, التحرر من سطوة الإنتاج الاستهلاكي, الخضوع لسلطة السوق (إنتاجا وتوزيعا). هناك أيضا المعادلة الأبرز: كيفية اختراق المشهد الدولي بأفلام ذات مستوى فني وتقني ودرامي سوي. أي, كيفية تحقيق أفلام لائقة بمعنى السينما (وليس مجرّد أعمال خطابية نافرة), تستوفي شروطها الأساسية, وتعالج مواضيع الساعة, إنسانيا وحياتيا.
تكاثر المحطات التلفزيونية الفضائية العربية لم ينعكس إيجابا على نمو الإنتاج السينمائي السوي. إذ إن هذه المحطات غرقت في البرمجة الاستهلاكية والسطحية, وأولت اهتماما أساسيا لبرامج المنوعات, أو للنشرات الإخبارية, التي لعب بعضها دورا حقيقيا في إعلاء شأن الصورة المتحركة, وتعميم (الخطاب) العربي (تجربة المحطة القطرية (الجزيرة), مثلا, على الرغم من الملاحظات النقدية الكثيرة التي يمكن سوقها إزاء أسلوب العمل التلفزيوني الخاص بها). في المقابل, لم تجد السينما العربية مصدرا تمويليا من هذه المحطات, على نقيض التجارب التلفزيونية الأوربية في الإنتاج السينمائي. أضف إلى ذلك أن المحطات التلفزيونية نفسها لم تشكل مفهوما عصريا لـ (السلاح) الجديد, المواكب للواقع والتحولات الحاصلة. إن الفيلم الوثائقي أقرب الأنواع السينمائية إلى المناخ التلفزيوني العام. مع هذا, لم تنتج المحطات التلفزيونية العربية أعمالا وثائقية قادرة على فرض حضورها في المشهد الفني الدولي, على نقيض ما نفّذه مخرجون وثائقيون من أعمال غلب عليها الاستسهال والنمطية.
فلسطين والسينما الباهتة
سينمائيا, بدت فلسطين منهكة من كثرة الأعمال (سينما وفيديو) الغارقة في السطحية والركاكة والادّعاءات البائسة. الواقع السينمائي الفلسطيني لا يختلف, أصلا, عن مثيله في دول عربية عدة, إذ إن أزمته متنوّعة المستويات, كما هي حال (السينمات) العربية الأخرى: غياب شكل فني سوي. غياب مخيّلة إبداعية. غياب لغة فنية متكاملة. ارتفاع النبرة النضالية الباهتة. استخدام الصورة السينمائية في غير موقعها الأصلي. استغلال المعاناة الإنسانية لإنجاز أفلام سيئة.
أستعيد هنا ما سبق أن كتبته في الصحيفة اللبنانية اليومية (السفير) (17 أكتوبر 2002): (المواضيع الفلسطينية كثيرة: هذا مجتمع حيّ, يواجه قدرا إسرائيليا من دون أن ينسى أوجاعه الإنسانية الأخرى. ناسه بشر من لحم ودم. يعانون مشاكل وتناقضات. لهم أحلام وطموحات. يلقون حجرا على عدو, ويمارسون حياتهم كالآخرين. يحبّون ويحقدون. يفرحون ويحزنون. يبكون ويضحكون. يمارسون الجنس ويختبرون السجن. لديهم سلطة قامعة وجمعيات مدنية. فيهم الصالح والطالح. مجتمع ذكوري ومحاولات تحرّر (...)). أعتقد أن أمورا كهذه حاضرة في المجتمع العربي أيضا, وفي بقية المجتمعات البشرية.
غير أن الواقع شيء والمعالجات السينمائية شيء آخر. هناك هوّة عميقة بين التفاصيل الإنسانية اليومية, القادرة على أن تكون مادة درامية غنية بالعناوين والحكايات, وبين الترجمة السينمائية لها, الغارقة في السطحية والشعارات والادّعاءات الفنية.في مقابل كمّ هائل من الأعمال السينمائية (الفلسطينية, والعربية الخاصة بفلسطين) الساذجة والسطحية والركيكة, برزت أعمال جادة وطموح, استقت مواضيعها من هذا الواقع الإنساني نفسه, وصياغته سينمائيا بأشكال وازنت بين المتطلّبات الفنية والتقنية والدرامية والجمالية, والمضامين الجريئة المقتسبة من يوميات الفلسطينيين وتحديات الاحتلال. لم يكن (يد إلهية) لإيليا سليمان, الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في الدورة الأخيرة (مايو 2002) لمهرجان (كان) السينمائي الدولي, العمل السينمائي الفلسطيني الأول الذي غرف مادته من الوجع الإنساني الفلسطيني, بعيدا عن المكرّر والمألوف, والمتوغل في الذات الفردية وفي علاقاتها بنفسها وبالآخر. هذا فيلم بديع لأسباب عدّة, أبرزها وأهمها تشريحه الدرامي للمجتمع الفلسطيني, وتأكيده على أن المشاكل اليومية الناشئة بين الفلسطينين مردّها طبيعة العلاقات الإنسانية اليومية, وإن زاد الاحتلال شيئا من حدّتها. قبل (يد إلهية), حقّق سليمان عددا من الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة, التي أسّست له مسارا سينمائيا مختلفا عن السائد: (سجل اختفاء) و(سايبر فلسطين), مثلا. بدا (يد إلهية) استكمالا لـ (سجل اختفاء), مع إضافة واضحة في جعل المناخ الدرامي نفسه أكثر بهاء وتأثيرا. روى الفيلمان مقتطفات من الحياة اليومية في الناصرة والقدس, استندت إلى ذاكرة المخرج وتجاربه الفردية وعلاقاته بالمجتمع الذي عرفه واختبر متاهاته وقصصه. لا يوجد في الفيلمين سرد درامي حكائي مألوف. الصمت طاغ, والشخصيات غارقة في إيقاع هادئ أخفى في طياته, غضبا وقلقا وآلاما, معظمها ناتج من صلب العلاقات اليومية بين الفلسطينيين أنفسهم, سخرية مريرة, ونقد مبطّن للواقع الفلسطيني. الأهم من ذلك كله: أعاد هذان الفيلمان للفرد الفلسطيني إنسانيته. منحاه حضورا لائقا به ككائن حيّ. قدّما المادة الدرامية في صوغ سينمائي احترم المعنى الحقيقي للسينما, باستيفائهما الشروط الفنية والتقنية والجمالية المطلوبة في أي صنيع سينمائي.
هذا نمط من الصناعة السينمائية مطلوب بإلحاح: ضرورة تقديم الفرد الفلسطيني كإنسان, وفلسطين كبلد ومجتمع, والفيلم كسينما حقيقية وصادقة وفنية.
التحرر من المباشرة
هذا ما نجده أيضا في الأفلام الوثائقية لنزار حسن, الذي حقّق, مطلع العام 2001, شريطا قصيرا مزج فيه النوع الوثائقي بالبعد الروائي: كيف يمكن تحقيق فيلم عن محمد الدرّة, من دون محمد الدرة? قدّم حسن عملا بديعا, بروايته استحالة العيش في ظلّ الاحتلال, في مقابل قوة الحياة الفلسطينية القادرة على ابتكار أشكال أخرى لهذا العيش. التشرذم الذي فرضه الاحتلال على الفلسطينيين, يمكن أن يتحول إلى أداة مواجهة وتمسك بالحق الطبيعي للبقاء في فلسطين. الهويات الممنوحة للفلسطينيين الذين بقوا في فلسطين إثر نكبة العام 1948, لم تلغ الحسّ الوطني الصادق والشفّاف من النفوس الفلسطينية. (تحدّي) نزار حسن عكس الرغبة في الحياة والسعي إليها بشتى الوسائل الممكنة. في حين أن أفلامه الوثائقية ((ياسمين) و(أسطورة), مثلا) غاصت في تشعّبات المتاهة الفلسطينية, من دون ندب أو عويل, بل بكثير من الدهاء الفني والخبث الجميل في تصوير المعاناة وآثارها. أما آخر أعماله المنجزة, (إقطع), فسرد جميل لمعاناة من نوع آخر: يهود عراقيون نُقلوا إلى فلسطين, فإذا بهم في قلق دائم وغربة متجدّدة يوميا.
هناك أيضا تجارب أخرى, إذ إن عددا من المخرجين الفلسطينيين أنجز أعمالا مهمة, فنيا وتقنيا ودراميا, تحرّرت إلى حدّ بعيد من سطوة الخطاب والمألوف والمكرّر: ميشال خليفي (عرس الجليل, الزواج المختلط في الأرض المقدّسة, حكايات الجواهر الثلاث), رشيد مشهراوي في بعض أفلامه الروائية الأولى, كـ (حتى إشعار آخر) و(حيفا), إذ إن أعماله اللاحقة سقطت في الاستسهال الفني والمباشرة الدرامية (مقلوبة, خلف الجدران, بثّ مباشر من فلسطين, تذكرة إلى القدس). إليهما, برز سائد أنضوني (جمال, قصة شجاعة) وصبحي الزبيدي (علي وأصدقاؤه, الضوء في آخر النفق, حَوَل) وعزّة الحسن (المكان, زمن الأخبار) وعبدالسلام شحادة (قرب الموت) ومي المصري (خصوصا في رائعتها الأولى كمخرجة منفردة عن العمل الثنائي مع زوجها جان شمعون, (أطفال جبل النار), من دون تناسي فيلميها الأخيرين العاديين, (أطفال شاتيلا) و(أحلام المنفى)).
هذه أمثلة لا تختصر النتاج السينمائي الفلسطيني كلّه, الذي أنجز من خلال الأعوام القليلة الفائتة, إذ إنه مليء بالأعمال الفنية العادية. العناوين السينمائية المذكورة ضمّت أفلاما محتاجة إلى إعادة صوغ سينمائي, على الرغم من أهمية المواضيع المختارة. اللافت للنظر, أن الغالبية الساحقة من الأفلام الفلسطينية اعتمدت, بشكل مطلق أحيانا, على كليشيهات معروفة ومملّة: رمي الحجارة, البكاء والنحيب, صورة محمد الدرّة, أطفال في مواجهة الدبابات الإسرائيلية, مصوّرون صحفيون عرب وأجانب يلتقطون مشاهد من النزاع اليومي, تظاهرة لدفن شهيد, مستوطنات وحواجز إسرائيلية, إذلال وقمع ضد الفلسطينيين, إلخ. هذه كلّها أدوات استغلّها مخرجون بادّعاء فني فاضح, وبحجة (دعم الفلسطينيين في حربهم ضد الصهاينة). انتفى الجانب الإنساني, بعد تغييب الأبعاد الفنية والجمالية والدرامية.
تحوّل الفلسطيني إلى مقاتل فقط, ونُزعت عنه مشاعره وانفعالاته, وبات نموذجا للنضال من أجل الحق والحرية والاستقلال. لم يعد إنسانا, بل آلة تحارب. كأن البحث في الذات الداخلية, تطبيع مع العدو. أو كأن قراءة الوجع النفسي والاجتماعي, من دون المرور في يوميات المواجهة, إلغاء لقدسية المعركة المصيرية, أو انتصار لهذا العدو. أو كأن التعامل مع الفيلم كصنيع فني إبداعي, جريمة بحقّ فلسطين.
أفلام روائية.. ولكن
لا بدّ, هنا, من أمثلة حديثة: ثلاثة أفلام فلسطينية روائية طويلة, أنجزت في العام الفائت: (موسم الزيتون) لحنا الياس, (زواج رنا, أو القدس في يوم آخر) لهاني أبو أسعد و(تذكرة إلى القدس) لرشيد مشهراوي. تميّزت كلّها بانعدام المخيلة الإبداعية, وغياب حدّ أدنى من الخلق الفني, والغرق في الكليشيهات المملّة, والإسراف في الرداءة الفنية والتقنية. مزج الأول بين الحب والترويج للسلطة الفلسطينية والصراع ضد إسرائيل. الحب, أيضا, مدار درامي للفيلم الثاني, كسياق لتصوير آثار الاحتلال الإسرائيلي في جسد فلسطين وروحها. السينما مدخل للحبكة الدرامية في الفيلم الثالث, ومنها أطلّ المخرج على المجتمع المسحوق تحت قسوة المحتلّ. هناك ادّعاء وتكرار وسطحية فاقعة في المعالجة. صور ياسر عرفات وخطاب الترويج للسلطة في مقابل انعدام العلاقة الدرامية بالحبكة الأساسية (موسم الزيتون أباده الاحتلال, والنزاع بين شقيقين على قلب الحبيبة), أفضت كلّها إلى جعل الفيلم الروائي الطويل الأول لحنا الياس (مواليد القدس, 1957) مجرّد شريط باهت لم يستوف حدّا أدنى من شروطه التقنية والفنية. في المقابل, بدا فيلما هاني أبو أسعد (مواليد الناصرة, 1961) ورشيد مشهراوي (مواليد مخيم الشاطئ في غزّة, 1962) متشابهين إلى حد ما: قيل إنهما مشروعان مقدّمان إلى وزارة الثقافة الفلسطينية لتمويل إنتاج سينمائي خاص بالقدس. قيل إن القرعة وقعت على (زواج رنا), إذ إن الروائية (السابقة) ليانا بدر كتبت سيناريو هذا المشروع, وحصلت على التمويل اللازم. اللافت للنظر, أن الفيلمين معدوما المخيّلة الفنية والإبداعية: (زواج رنا) رحلة (سياحية) في طرقات فلسطين المحتلّة, لم تقدم إلا الصور التلفزيونية المعروفة عن صعوبة العيش الفلسطيني في ظلّ الاحتلال. المشاهد كلّها حفظها المشاهدون العرب والأجانب, بسبب كثرة عرضها المرئي: حواجز ومستوطنون وتظاهرات ورمي حجارة وتعايش مسيحي إسلامي ومادة درامية باهتة عن فتاة تبحث عن خطيبها قبل أن يفرض والدها عليها حلا من اثنين: إما الزواج من رجل مرضي عنه من قبل الأب, وإما السفر إلى القاهرة. قصة ساذجة, ومعالجة سطحية, وغباء فني قاتل. لا يختلف (تذكرة إلى القدس) كثيرا: جبر مولع بالسينما. يحمل آلة العرض وبعض أفلام الصغار لعرضها في المخيمات. يعاني الأمرّين للوصول إلى مبتغاه. السبب: الاستيطان الإسرائيلي.
هناك حاجة ماسة إلى احترام الإنسان الفلسطيني, والتعاطي معه كبشري له أحاسيس وانفعالات وأحلام وهواجس. إنه كائن حيّ. مواطن يعاني احتلالا, ويواجه تخلّفا اجتماعيا وثقافيا وسياسيا عربيا رهيبا. قلّة من الأفلام المنجزة في الأعوام الثلاثة الفائتة حقّقت المعادلة المطلوبة بين الشكل والمضمون, وأولت الجانب الإنساني البحت اهتماما واضحا. ما سبق ذكره (إيليا سليمان ونزار حسن, تحديدا) مجرّد أمثلة على حيوية العمل السينمائي الفلسطيني, في مقابل الرداءة المطلقة لأعمال فلسطينية أخرى, كتلك التي حققها حنا إلياس وهاني أبو أسعد ورشيد مشهراوي. هناك أعمال كثيرة ألغت المقوّمات الفنية والدرامية والجمالية, وتحوّلت إلى بوق للسلطة, وغيّبت المواضيع الإنسانية, التي لا تقلّ أهمية عن (تحرير) فلسطين, أو عن إنشاء الدولة الفلسطينية: الحب والجنس, الجسد والروح, الحلم والوهم, العلاقات الاجتماعية والإنسانية, أهمية الوعي والمعرفة والعلم, معنى الهوية والذات والانتماء إلى بيئة ومجتمع, العائلة والتقاليد المتخلّفة, المرأة وحكايتها مع ذاتها ومجتمعها والآخر, الرجل وموقعه وثقافته ونظرته إلى نفسه والآخر أيضا.