مختارات من:

حـارســة الـخـيـال

سحر توفيق

لا أستطيع أن أحدد متى سحرتني الحواديت, لكنني فتحت عيني على جدتي تحكي لي حواديتها, وهو أقدم وقت أعيه, ولا أستطيع تحديد بدايته. أذكر فقط جلستها على الكنبة البحرية, تشرب قهوتها ثم نتحلق حولها, وهي تحكي لنا حدوتة.

جدتي التي حكت لي الحواديت كانت امرأة عجوزاً, نحيفة, شعرها الأبيض يتهدل حول رأسها,تربط فوقه أحياناً منديلاً أسود لتحمي رأسها من الصداع. عيناها غائرتان, تتفرسان فينا ونحن جالسون حولها, ابن من هذا? وبنت من هذه? ترانا من دون تفاصيل دقيقة, خطوطا شبحية تجلس بغير هدوء, نَحْرُك ونَفْرُك بنفاد صبر, في انتظار أن تبدأ الحدوتة.

كلنا من نسلها, تنقل إلينا خبرة أزمنة بعيدة, وتدخل إلى وعينا بصوتها الهادئ الناعم. كانت ترتدي السواد دائماً, منذ مات جدي وهي ترتدي السواد, وعي آخر تنقله إلينا بزيها وسلوكها.

لم أسأل نفسي قط في ذلك الحين لماذا جدتي هي التي تحكي لنا الحواديت, فلم أرَ جدي زوج هذه الجدة بالذات, أما جدي الآخر, فلم يكن يجلس معنا إلا قليلاً, لكنه في جلوسه معنا كان ينقل إلينا وعياً من نوع مختلف تماماً, وعياً مباشراً, تعاليم بخصوص السلوكيات, وربما أحياناً بعض المعلومات الخاصة بالدين, وربما اللغة أيضاً (فقد كان معلماً أزهرياً للغة العربية).

تلقيت الحواديت من جدتي, ومن امرأة أخرى كانت تأتي إلى بيتنا بشكل منتظم, كلتا المرأتين كانت مليئة بالحكايا القديمة. إلا أن المرأة الأخرى كانت تحكي حواديت غريبة, مختلفة, أحيانا تخترع أحداثاً وأشخاصاً في حكايتها, وأعرف ذلك عند ترداد الحكاية لأكثر من مرة, فأجد بها أشياء لم تكن موجودة من قبل. وعندما أسألها تقول لي: وإيه يعني? ما هي حدوتة!!

رأيت أيضاً النساء في المناسبات المختلفة, يرددن أغاني محفوظة موروثة. كما سمعت أكواماً من الأمثال من أمي وجدتي ونساء العائلة في طفولتي.

لطالما سألت نفسي: هل النساء هن حارسات التراث الأدبي الشعبي? أم هنّ اللاتي يختلقنه في الحقيقة? هل النساء هن اللاتي يبدعن هذه الحواديت والأمثال والأغاني? وماذا عن الأمثال والحواديت التي بها معاداة صريحة للمرأة? أحياناً يملؤني يقين أنها من صنع نساء أيضاً, كل ما في الأمر أنهن كن يرددن خلاصة تجارب مجتمع يرى المرأة هكذا, وكان على المرأة أن تحفظ هذا التراث حتى لو كان ضدها. وربما ليس من قبيل المصادفة أن راوية ألف ليلة وليلة هي شهرزاد, التي تعرضت لأقسى أنواع الاضطهاد ضد المرأة,ومع ذلك فالرواية تقول إنها أنقذت النساء مما فعله الملك كردٍ لفعل امرأة شريرة, أي تبرر قتل الملك للنساء وكأن هذا كان حقه.

كانت حكايات جدتي وحكايات (أم صبحية) في طفولتي هي الباب الذي فتح لي عالم الخيال. وربما كانت تلك الحواديت لاتزال تعمل في وعيي العميق حتى اليوم

سحر توفيق مجلة العربي اغسطس 2002

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016