إنه لولا الجرأة الفكرية لقادة الوحدة الأوربية, تلك التي نشأت منذ ما يقرب من نصف قرن بتوقيع اتفاقية روما المنشئة للسوق الأوربية المشتركة, لما شهدت أوربا والعالم هذا الكيان الفذ والمحرّك لكل ما تم من إنجازات أوربية كانت تبدو في وقتها حلما طوباويا أو هدفا مستحيلاً في وقت سادت فيه طويلا نظرية توازن القوى في أوربا القديمة صاحبة اتفاقية وستفاليا.
نصف قرن ساده السلام والاستقرار بعد قرون من الحروب والقلاقل, ورخاء بعد حرمان وتضحيات, ونظام مثالي من الرفاهة المادية والفكرية. وبتوقيع اتفاقية ماستريخت الأوربية عام 1991 نشأت لأول مرة مواطنة أوربية واحدة ووثيقة حقوق أساسية, وسوق أوربية واحدة وبنك مركزي أوربي واحد, ثم جاء اليورو كعملة أوربية واحدة في يناير 2002 رمزا للوحدة النقدية. وجاءت قمة كوبنهاجن لتضم عشر دول أوربية جديدة إلى الاتحاد القائم فتقضي نهائيا على التقسيم الذي استمر طويلا لأوربا إلى شرق وغرب, وتضع شعوب هذه الدول على مشارف فجر جديد, بعد أن أصبحت الوحدة الأوربية هي الحلم الوطني والمشروع القومي لكل الشعوب الأوربية بل والتي تنظر إلى نفسها - كتركيا - كواحدة منها.
وهكذا تصدق نبوءة فيكتور هوجو - صاحب البؤساء - عندما كتب عام 1853 يقول ببصيرة نافذة: (سيجيء اليوم الذي تتحول فيه القارة إلى شعب واحد حيث تبقى الجنسيات المختلفة, لكن داخل مجتمع واحد, تصبح فيه فرنسا جزءا من أوربا وأوربا جزءا من الإنسانية كلها, وستوجد عملة واحدة للقارة كلها أساسها كل رأسمال أوربا, بدلا من هذا التنوع المضحك لعملات أوربية بصور ملوكها رمز قرون من البؤس والفقر). فكان هوجو هو الأب الروحي للوحدة الأوربية والمواطن الأوربي الأول.
لكن التجمع الأوربي كأي كيان سياسي حي لابد وأن يمر بمراحل مختلفة لكل منها متغيراتها ومناخها العام. وقد بات واضحا منذ سنوات عدة أن العمل الأوربي يمر بمرحلة يحتاج فيها البناء الأوربي إلى ما لا يقل عن تغيرات هيكلية.
فرغم ثلاثة تعديلات مهمة جرت على العمل الأوربي في السنوات العشر الأخيرة, فإنه كانت هناك حاجة ماسة إلى مراجعة شاملة دقيقة لا لأسلوب العمل فقط, ولكن لمضمونه أيضا. فهي المرة الأولى لمثل هذه المراجعة منذ توقيع اتفاقية روما منذ 47 عاما. فيطرح وزير الخارجية الألماني (فيشر) مثلا في محاضرة بإحدى الجامعات الألمانية الحاجة الماسّة لرسم صورة مستقبلية جديدة للمشروع الأوربي مقترحا بالتحديد إعادة كتابة دستور العمل الأوربي كله. وفي فرنسا - القطب الآخر في محور باريس/برلين وموتور العمل الأوربي - يطالب جيسكارديستان الرئيس الفرنسي الأسبق بتشكيل (لجنة حكماء) على غرار اجتماع الآباء المؤسسين للدستور الأمريكي الذي جرى في فيلادلفيا عام 1987, لوضع إصلاحات هيكلية للاتحاد الأوربي تصلح للعمل لخمسين عاما قادمة.
متغيرات جديدة
عديدة ومتنوعة تلك الاعتبارات التي دعت لإعادة النظر في العمل الأوربي شكلاً ومضموناً, لكن يجمعها الحاجة إلى تحديد أكثر وضوحا لمفهوم أوربا المتطورة والقيم الأوربية المشتركة, والرغبة في إقامة المؤسسات الأوربية لا على أساس التوازن بينها وإنما لتكون أكثر كفاءة في التنفيذ, وهذه أمور يمكن تحديدها بالإجابة عن السؤال المحوري إن كان الهدف من العمل الأوربي في مرحلته القادمة هو الوصول إلى دولة أوربية كبرى أم التوصل إلى قوة أوربية عظمى.
من هذه الاعتبارات:
النظر أين يكون مركز الثقل في المؤسسات الأوربية, هل يكون من المفوضية الأوربية ووجوب تدعيمها إذن, وكيف يكون ذلك? وكيف يمكن اختيار رئيسها? من الحكومات أو من البرلمان الأوربي مثلا? أم يتركز النفوذ في المجلس الوزاري? وفي هذه الحال هل يجب أن يكون للمجلس رئيس بجانب رئيس المفوضية? وماذا تكون سلطاته في مواجهة الحكومات والمفوضية وعلى الساحة الدولية?
هناك نظرة بأن أوربا توحدت حتى الآن على مستوى القيادات والمؤسسات قبل الأفراد, أي توحدت من الأعلى دون الأدنى, ومن المهم أن ينظر إلى الدستور الأوربي كدستور للمواطنين الأوربيين بصفة خاصة, وذلك في وقت ينظر فيه إلى وثيقة حكومة الفرد الأوربي كجزء أساسي من أي دستور جديد.
إذا كانت مأساة أوربا في النصف الأول من القرن العشرين في الحروب, ومشكلتها في نصفه الثاني في اعتمادها أساسا على شخصيات كبيرة ذات مقدرة في إدارة المشروع الأوربي, فالتحدي في القرن الواحد والعشرين هو ألا يعتمد العمل الأوربي على عدد قليل من الشخصيات الكبيرة مثل الرئيس الفرنسي الأسبق ميتران والمستشار الألماني هلموت كول وتعاونهما معا.
إن أوربا اليوم التي طبعت الحياة اليومية للمواطن الأوربي بطابعها القائم على التعاون والتنسيق لاتزال بعيدة عن أن تكون (أوربا السياسية. فالشعور عميق بعدم وجود قيادة سياسية بالمعنى الصحيح للاتحاد الأوربي الذي يبدو دون أهداف دولية واضحة وسياسات محددة, على نحو ما كشفت عنه أحداث الأشهر الأخيرة من المشكلة العراقية - والخطر أن يفقد المواطن الأوربي حماسه, خصوصا مع ازدياد اتجاه العولمة, واتجاه الولايات المتحدة إلى الانفراد باتخاذ القرار في الشئون الدولية الذي ينظر إليه في أوربا على أنه خطر حقيقي. فالمواطن الأوربي ينتظر أن تنظم أوربا نفسها وتنمّي قدراتها الاقتصادية والعسكرية لتتعامل بكفاءة مع الولايات المتحدة وعلى الساحة الدولية بشكل عام.
وفي المجال الاقتصادي, فعلى الرغم من بدء العمل بالعملة الموحدة الذي يمثل جهدا كبيرا لأوربا في مواجهة هيمنة الدولار الأمريكي, فلايزال الاقتصاد الأوربي متلعثما يحتاج إلى دفعات قوية وتنسيق. ولا يقل تحديا عن ذلك أن يقدم الاتحاد الأوربي نظرة جديدة - أو مفهوما جديدا - عن العولمة من زاوية أوربية.
إن أسلوب العمل داخل المؤسسات الأوربية في ظل تجمع من خمس عشرة دولة غيره في تجمع من خمس وعشرين دولة. إذ كيف سيجري الحوار? وما الزمن اللازم لاستمرار اجتماع ما ليتخذ القرارات اللازمة? وفي المفوضية ماذا يستطيع أن يفعله خمسة وعشرون مفوضا بينما لا يوجد إلا عشرة أو اثنا عشر تخصصا? كذلك فالعمل في منظمة ديمقراطية لابد من أن يتبع قاعدة الأغلبية, لكن إذا جرى ذلك في ظل الاتحاد الموسع, فالدول الست الكبار تمثل في قوتها من عدد مواطنيها حوالي 85%. فكيف في هذه الحال يمكن حماية حقوق الدول الصغرى?
وترتبط بذلك مسألة مهمة جدا, وهي أن استمرار استخدام حق الفيتو في ظل هذا العدد الكبير سيصيب التجمع الأوربي بالشلل إذا سعى كل رئيس دولة لاستخدام الفيتو عند كل مبادرة لاسترضاء شعبه. لذا من الأهمية بمكان استبدال الفيتو بأغلبية مقيدة في الأمور الحسّاسة أو ذات الأهمية الخاصة, إلى أن يلغى تماما.
وأخيرا, وليس آخرا, فقد أنتج الاتحاد الأوربي حتى الآن في المجال التشريعي ما يزيد على 80 ألف صفحة و600 قاعدة عمل ومئات من التصريحات والبيانات والتوجيهات.
لكن المواطن الأوربي حتى يتمكن من فهم واستيعاب العملية التشريعية يحتاج إلى أن تبذل جهود حقيقية لتقطير تلك القواعد وتقديمها في صورة مبسّطة واضحة بعيدة عن تلك التعبيرات القانونية والاقتصادية التي كثيرا ما تكون غامضة وغير مفهومة.
اللجنة التأسيسية
في مؤتمر القمة المعقود في بروكسل في 15 ديسمبر 2001 صدر ما سمي بـ(تصريح لاكين) Laken Reclaration ويقضي بتكوين لجنة تأسيسية أسندت رئاستها إلى الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان لوضع ما سمى (اتفاقية دستورية) تعيد النظر بالكامل في مضمون وأسلوب العمل الأوربي, وعلى سبيل الاسترشاد وضعت 65 سؤالا محددا طلبت الإجابة عنها, فكانت بمنزلة أجندة العمل, وتتناول ثلاثة أمور رئيسية:
الأول: تحديد مفهوم دقيق للقيم الأوربية المشتركة.
والثاني: كيفية التوفيق بين مفهوم الوحدة مع احترام الذاتية الخاصة للدول الأعضاء.
والثالث: يتعلق بالتوازن المطلوب بين المؤسسات الأوربية لرفع مستوى الأداء.
وقد تكونت هذه اللجنة من مائة وخمسة أعضاء, ومكونة بالإضافة إلى الرئيس من نائبين له وممثلين عن الحكومات الأعضاء (15 عضوا) وممثلين للبرلمان الأوربي (16) ومن البرلمانات الوطنية (30), واثنين من مفوّضي المفوضية الأوربية, وممثلين عن حكومات وبرلمانات الدول المرشحة للانضمام وعددها 13 دولة (39). وقد بدت أعمالها في الأول من مارس 2002 على أن تنتهي من أعمالها خلالها 15 شهرا, وبحيث يكتمل وضع الدستور الجديد في يونيو 2003, وبلغ من اهتمام الدول بعمل اللجنة ولجانها العشرة أن شارك فيها شخصيا في بعض المراحل وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا. كما قدمت باريس وبرلين مذكرة مشتركة لبعض المقترحات. كذلك كان الرئيس ديستان على حوار دائم مع كل وزارات خارجية الدول الأعضاء ليحصل على إجابات بديلة للأسئلة المطروحة للرجوع إليها عند النقاش النهائي.
وقد أكملت اللجنة مرحلة مهمة في 28 أكتوبر 2002 عندما أعلن رئيس اللجنة ما اعتبره هيكلا عاما للاتفاقية المرتقبة, وإن كان بصفة مؤقتة.
معالم الاتفاقية المرتقبة
يحتوي المشروع على 46 مادة موزعة على مقدمة وثلاثة أقسام رئيسية. والمقدمة من النوع الذي يثير إلهام الإنسان الأوربي فهي أشبه بإعلان الثورة الفرنسية أو إعلان استقلال الولايات المتحدة. والقسم الأول يتعلق بالحقوق الأساسية للمواطن الأوربي, وسلطات المجموعة الأوربية ومؤسساتها وماليتها وتمثيلها في الخارج, ويتعلق القسم الثاني بسياسات التجمع والثالث بالجوانب القانونية.
أخذا في الاعتبار أن من الأمور المعروفة ما ترك ليتقرر بصفة نهائية آخر لحظة, ومنها أهم موضوع على الإطلاق: أين تكمن السلطة داخل المؤسسات الأوربية? يمكن أن نستخلص أهم الاتجاهات حتى الآن في ما يلي:
الصفة الغالبة على الاتحاد الأوربي أنه (اتحاد لدول أوربية, أي المحافظة على شخصية الدول وهويتها الوطنية دون أن تذوب في كيان واحد. لكنها في تعاون وتنسيق ومشاركة في السلطة أو السيادة على مستوى فيدرالي في مساحة عريضة, ومبدأ التوازن بين الأمرين ينهض على قاعدة هادية مؤداها:
(علينا أن نعمل معا على مستوى أوربي فقط في الأمور التي يحسن أن نعملها بشكل أكفأ وأفضل على هذا المستوى). فعلى الاتحاد الأوربي أن يتناول فقط الأهداف المتفق عليها من الكافة مع احترام الذاتية الخاصة في أداء كل دولة على حدة. ولوضع المواطن الأوربي موضع الصدارة يعني أن القرارات يجب أن تتخذ على المستوى الأقرب إليه. وبناء عليه فالاتحاد الأوربي ليس متجها ليكون دولة واحدة كبرى مركزها بروكسل وإنما غايته أن يكون قوة أوربية عظمى.
الرأي في إقامة التوازن بين المؤسسات الأوربية ]المفوضية - المجلس الوزاري - البرلمان الأوربي[ فالسؤال المهم يجب أن يكون كيف يمكن إيجاد مؤسسات قادرة على العمل بكفاءة وضمان المساواة بين كل الدول في المشاركة.
أما عن المفوضية فهناك رأي بأن تصبح ذات أعضاء أقل عددا لكن أكثر قوة في الاختصاص والسلطات. خاصة إذا رئي أن تكون صاحبة الحق الوحيد في التقدم بمقترحات. أما اقتراح ديستان أن يتم التعاون المباشر أيضا بين الدول دون أن يكون من خلال المفوضية, فقد قوبل ببرود من الدول الصغرى التي تجد حمايتها عادة داخل المفوضية لا المجلس الوزاري الذي يمثل الحكومات. والرأي أنه يختار رئيس المفوضين بمعرفة البرلمان الأوربي.
ويرتبط بذلك الاتجاه المتزايد لتقليل اللجوء إلى الفيتو والعمل بمقتضى أغلبية مقيدة في الأمور الدقيقة الحسّاسة أو ذات الأهمية الخاصة, ولاشك في أن ذلك سيساعد المفوضية لتكون أكثر فاعلية في السياسات الخارجية أو الاقتصادية.
بالنسبة للمجلس الوزاري, فالاتجاه هو إنشاء منصب جديد لرئيس المجلس بما يشبه رئيس دولة ويمثل الاتحاد الأوربي على مستوى دولي, وفي هذه الحال سيكون شخصية مهمة عالمية. وتكون مهمته ممتدة لما بين عامين ونصف إلى خمس سنوات, كما يتولى المهام التي يكلفه بها المجلس الوزاري أي الحكومات, وبذلك يكون للتجمع الأوربي رئيس للمفوضية ورئيس للمجلس الوزاري, ويختار الأخير من أغلبية زعماء الدول الأعضاء.
بجانب سلطة البرلمان الأوربي في اختيار رئيس المفوضية, فالاتجاه منحه سلطات تشريعية ومالية أوسع. وبهذه المناسبة فقد أقر للبرلمانات الوطنية بحقها في التدخل إذا وجدت أن السلطات الأوربية قد تعدت اختصاصاتها.
هناك اتجاه لاختيار وزير خارجية للاتحاد يجمع بين السلطات الممنوحة الآن لشخصين, ومنحه سلطات أكبر ويكون مسئولا أمام الحكومات وإن كان سيعمل من خلال المفوضية, وأن يكون للاتحاد سلكه الدبلوماسي وسفاراته في كل أنحاء العالم لتقوية الصورة الدولية للاتحاد الأوربي, وتتسع اختصاصاته لتمثيل كل دول الاتحاد مع التعاون الوثيق مع دبلوماسيي دول الاتحاد وأن يكونوا مسئولين أمام وزير خارجية الاتحاد.
طرحت آراء بشأن استحداث عدد من الأمور المهمة منها:
- تقنين التزام الاتحاد الأوربي بالدفاع المشترك بما يشبه المادة الخامسة في حلف الناتو, وإنشاء وكالة لتجميع الجهود في البحوث المتعلقة بتصنيع السلاح, وضمان قدر كاف من التسليح سنويا.
- إقامة مؤتمرات شعبية أوربية سنويا تشارك فيها البرلمانات الوطنية والبرلمان الأوربي.
- تعيين نائب عام أوربي وإقامة (يروبول) مقابل (إنتربول).
- إنشاء حرس حدود مشترك.
- النص على جواز الانسحاب الإرادي من التجمع الأوربي, وإمكان طرد عضو لعدم الالتزام بالقيم الأوربية.
وسوف تتضح هذه الأمور وأخرى غيرها عندما تنتهي اللجنة التأسيسية من نقاشها وعرض نتيجة النقاش على (المجلس الأوربي) في قمة سالونيك في 21 من هذا الشهر (يونيو2003), ثم يقرها بشكل نهائي مؤتمر حكومي يجمع الدول الأعضاء والدول العشر التي قبلت عضويتها أخيرا, وذلك في وقت يتراوح بين أكتوبر وديسمبر 2003. أما التوقيع النهائي على الاتفاقية الدستورية بشكلها النهائي, فسيتم في 12 ديسمبر 2003 في روما, روما التي شهدت ميلاد السوق الأوربية المشتركة منذ 46 عاما.
وبوضع هذه الاتفاقية الدستورية تنتهي حقبة تاريخية عاشت فيها أوربا تحت أشكال دستورية مختلفة. وأهمية الماجنا كارتا الأوربية في كونها حجر الأساس الذي ستحاول كل الدول الأعضاء الاقتراب منه في كل دساتيرها الخاصة, وهو إنجاز قانوني ضخم بكل المعايير.
ملامح متغيرة
في نهاية هذه السطور, لعله يجدد الإشارة إلى المناخ العام الذي يجري فيه إعداد هذه الاتفاقية الجديدة كعنصر له تأثيره المهم. فهناك اتجاه حالي داخل الحوار السياسي في أوربا نحو اليمين, بل ونحو التقليل من سياسات الوحدة الأوربية إلى حد ما, فأغلب أنصار الوحدة يوجدون حاليا داخل اليسار الأوربي وإن كان ذلك بشكل غير مطلق. ومَن يتذكر الفترة الأولى من السوق الأوربية يعرف أن القوى التي دفعت العمل الأوربي في الخمسينيات والستينيات كانت العكس تماما. فأوربا المشتركة أنشأتها القوى اليمينية أو اتجاه الديمقراطية المسيحية, في حين أن الاشتراكية الديمقراطية كانت لاتزال ترى في الجماعة الأوربية نوعا من تآمر رأسمالي ضد المكاسب الاجتماعية التي كافحت من أجلها. أما في الوقت الحالي فأوربا تمثل لشريحة كبيرة من اليساريين الأمل في المحافظة على النموذج الاجتماعي, خاصة في مواجهة ما يسمى بـ(أصولية السوق).
من ناحية أخرى تتعلق بالتوازن الجديد في أوربا تجاه الولايات المتحدة, فالتجمع الأوربي ومن زاوية ما كان جريئا في كونه تنظيما أوربيا تحدد شكله في مواجهة الخطر من الشرق - الشيوعية. أما الآن وقد اختفى هذا الخطر فقد أصبح الأوربيون ينظرون إلى الاتحاد الأوربي بشكل متزايد ككيان في مواجهة الولايات المتحدة والقوة الأمريكية. إن الدفاع عن الشكل الأوربي للتنظيمات الاجتماعية ودرجة واضحة من معاداة الولايات المتحدة من أهم ما يميز اليسار الأوربي. كما لوحظ أن معاداة زيادة الوحدة الأوربية وتعميقها ينطوي على اعتقاد في سياسة اقتصادية ليبرالية وتأييد للولايات المتحدة. في هذه المرآة يمكن متابعة الملامح المتغيرة للوحدة الأوربية.