مختارات من:

لعبة الصحو

أحمد الشيخ

كنت ألاعب الجهاز أول دور شطرنج وأشعر أنه يتباطأ بعد خسارة أي قطعة, يتباطأ حتى يشعرني بالملل, كنت في السابق قد لاعبت العشرات ممن يتباطأون في اللعب, لكنني كنت أملك الحق في استعجالهم أو الاستشهاد بمن يتفرجون كي يشجعوهم أو يحرضوهم على اللعب أو حتى يسخروا منهم, وكنت في كل الحالات أخرج من المأزق بفضل تلك اللغة المشتركة التي يتبادلها البشر ممن يتفرجون أو يلعبون أو سوف يلعبون, لكنه في حال الشطرنج لم تكن هناك لغة ولا خواطر ولا خجل ولا أحاسيس, كنت أواصل اللعب معه متحاملا على نفسي وقائلا لها في الوقت نفسه إنها مجرد لعبة من بين مئات اللعبات التي يمكن تشغيلها على الجهاز نفسه, سباقات سيارات ودراجات بخارية في طرق وجبال وعرة وغابات ومباريات مصارعة حرة ودورات كروية وعبور غابات فيها وحوش ضارية وحيّات وصعود جبال أو الغوص في محيطات ودخول متاهات وتخطي حواجز مستحيلة, عشرات ومئات من الألعاب انشغل بها عيالي بمثل ما انشغل بها أصحابهم وجيرانهم, كأنها منافسات رياضية حقيقية أو مغامرات بشرية أو مباريات فعلية, بينما كنت أراها محض ألاعيب لإزجاء الوقت ولم أكن متحمسا لمعرفة قوانينها بمثل ما كانوا يتحمسون, ربما لأنها كانت بحساباتي لا تحتاج إلى ذكاء بقدر ما تحتاج إلى ذاكرة تحفظ الشفرة الخاصة بكل لعبة وأصابع مدربة على الحركة فوق المفاتيح بخفة لا أملكها, ولابد أن العيال جاملوني بإضافة لعبة الشطرنج التي سمعوا مني في السابق كلاما كثيرا يؤكد عشقي لها وبراعتي في تحريك القطع لأحاصر ملك الخصوم أو أحسن الدفاع عن مليكي, كانوا يتأملونني ويتبادلون النظرات وكأنني كائن من كوكب آخر يضيع وقته الثمين, بحسب ما كانوا يقولون في لعبة وحيدة, بينما هناك في الدنيا مئات الألعاب المتاحة على الجهاز الذي امتلكوه, بعد إلحاح شديد لأشتريه لهم, مؤكدين أنه وسيلة معاصرة يلزم أن تدخل كل بيت لتخزين المعلومات وحفظ الوثائق المكتوبة, إضافة إلى إمكاناته غير المحدودة في الاتصالات وتبادل المعلومات مع كل الناس في أركان الكرة الأرضية, لم أكن أعترض على شيء مما يقولون, لأنني كنت قد قرأت عن الجهاز وسمعت من الأصدقاء الذين أدخلوه بيوتهم كثيرا من الحكايات التي تؤكد أهميته في زمن العولمة, وقد تحولت الكرة الأرضية بفضله إلى قرية صغيرة بحسب ما كانوا يؤكدون. لكنهم كانوا يضيفون أنه يتطلب بعض الحذر من أضراره ومخاطره ما لم يستخدم بوعي, كنت أجاريهم وأنتوي شراء الجهاز في أول فرصة أمتلك فيها ثمنه, وقد حدث أن حصلت على مكافأة لم أكن أتوقعها, فقلت لروحي (هو رزق العيال وقد بعثه الرزاق العليم من حيث لا تحتسب فاشتر الجهاز يا ولد).

كنت أراهم يتناوبون الجلوس أمام الجهاز, وقد حضروا دورات متكررة دفعت تكاليفها بحسب ما كانوا يرغبون دون أي تردد. لعلني لم أنشغل به في البداية, لكنهم دفعوني لأن أتأملهم وهم يتبادلون الخبرات ويتجادلون بخفة, وعندما أضافوا لعبتي المفضلة لجهازهم طالبوني بأن ألاعبه فلعلني أكسب وأثبت لنفسي ولهم أنني لم أنس خبراتي السابقة, قررت أن أدخل المغامرة, لكنني لاحظت أنه كلما خسر الجهاز قطعة تباطأ في اللعب, ولم يكن هناك بديل للصبر والتحامل على نفسي ومواصلة اللعب, وفي كل المرات التي أوشك على الفوز عليه لأبرهن لعيالي ولنفسي أنني مازلت كما كنت لاعب شطرنج عارفا بقوانين اللعبة وقادرا على الانتصار, كان الجهاز يكيد لي بالقطع لأنه بحساباتي كلما أوشكت على هزيمته أو كانت هناك نقلتان باقيتان لفوزي, فإذا بالصورة تتجمد تماما والقطع التي تخصني لا تطاوعني وتتأبى على الحركة, كان عيالي يحاولون بكل خبراتهم مع الجهاز تحريك الصورة لكنها كانت تظل ثابتة ثم يظهر مربع فوق قطعة الشطرنج مكتوب داخله رسالة اعتذار رقيقة لأن عطلا مفاجئا أصاب اللعبة وأنه من الممكن بداية دور جديد, أقول لروحي لأواسيها على الحرمان من نصر مؤكد بعد طول انقطاع عن اللعبة إنها ربما تكون مصادفة غير مدبرة, وأترك الجهاز لعيالي معتذرا عن طول الوقت الذي أجبرني لأضيعه عليهم وعلى نفسي دون نتيجة مؤكدة.


***


في الصحو كنت أستعيد خبراتي القديمة في الفوز على الأصدقاء والمعارف أو مَن يطلبون ملاعبتي دون سابق تعارف, أيامها كانت لعبة الشطرنج هوايتي الوحيدة, وبمثل ما كنت أصعد كل صباح درجات الطوابق الخمسة الأولى لمبنى المجمع الكائن في ميدان التحرير دون انتظار للمصعد لأوقع في خانة الحضور كنت أهبط الدرجات نفسها متعجلا على حريتي دون انتظار للمصعد, وأتمشى على مهل حتى أصل إلى مقهى الحرية, وغالبا ما كنت أسمع عبارات التهليل ترحب بوصولي أو تتوعدني بالهزيمة أو تعاود التحدي أو حتى تعلن الاستسلام قبل ملاعبتي, كنت أشعر بالنشوة وأمتلئ بالثقة في قدرتي على الفوز عليهم بكل مودة في نهاية الأمر, صحيح أن الأمور كانت تتأزم في الدور الأول وأخسره أو أخسر دورين متتابعين فأمضغ مرارة الهزيمة وأحس ببعض الانكسار وأتأسى لأنني لم أحسن الدفاع عن القطع التي خسرتها فانهزمت, لكن عنادي كان يركب رأسي ويدفعني دفعا لمواصلة اللعب حتى لو اعتذر من يلاعبني بشتى الأعذار, حتى لو تطوع زميل أو صديق بأن يلاعبني بديلا عنه, كنت أرفض وأواصل ركوب رأسي , وأصر على إجباره ليعاود اللعب دورا جديدا إن كنت قد خسرت دورا واحدا, أو دورين إن كنت خسرت دورين, كان الأمر يبدأ دائما بالرجاء المهذب الذي يدعوه لمواصلة اللعب أو بالترغيب لأنه سوف يكسبني مرة أخرى أو مرتين بحسب الحال, فيحصل على لقب ملك الشطرنج في مقهى الحرية, وكان الأمر يصل أحيانا إلى مشاحنات بأصوات مرتفعة ومجادلات حول حقي في التعويض بعد الخسارة أو حق الآخر في الاكتفاء والانصراف لشأنه بحسب ظروفه, يتوسط العقلاء من كبار السن من رواد المقهى القدامى ومنهم من فاز بلقب ملك شطرنج مقهى الحرية في الزمن القديم ويعرفون تفاصيل اللعبة, ويستشعرون مواجع المهزوم ويرغبون في أن أعوّض خسارتي, كأنهم بوقوفهم في صفي ودعم موقفي يعوّضون خساراتهم القديمة للقب, يتطوع أحدهم برص القطع على الرقعة ويبرع آخر في إجلاس من كان يبتغي الرحيل سالبا نصره مني سلبا وراغبا في الفرار بحساباتي وحساباتهم, يستسلم خجلا أو إشفاقا أو رغبة في الخلاص من الموقف أو إظهاراً للروح الرياضية السمحة, أشعر بالنشوة وأحزم أمري عازما على تعويض خسارتي, نبدأ الدور الجديد وقد تزايد عدد المشاهدين, فأشعر بأنني صرت مسئولا أمامهم وأنه يلزم أن أنتصر, أستجمع قدراتي وتواريخ انتصاراتي وأنتوي الفوز عليه على نحو مباغت يستفزه ويدعوه لمطالبتي بملاعبته دورا جديدا واهما أنه سوف يحسم الأمر لمصلحته, لكنه في أغلب الحالات كان يخسر وأستعيد أنا ثقتي بنفسي بعد أن اهتزت بعض الشيء, يتأكد للجميع أنني قادر على التعويض والنصر في نهاية الأمر, وأنني ألعب الشطرنج بروح مقاتل له ثأر يلزم ألا يفرط فيه مهما كانت المصاعب, ساعتها أشعر بجوع حقيقي رغم شبع الروح بالفوز في النهاية, ووسط تهليل الاستحسان ممن كانوا يشهدون أنسحب من المكان وأتوجه إلى المطعم المجاور لأتناول وجبة الغداء صحنا من الفول المدمس أو العدس وربما أقراص (الفلافل), وأحيانا كنت أعبر الميدان وأدخل المطعم الفسيح المتخصص في تقديم وجبات من المخ والكبدة المقلية, ومازالت ساخنة ومعها سلطات ومخللات فاتحة للشهية المفتوحة, أشعر بالامتلاء وأتمشى على مهل حتى أصل إلى مسكني الكائن في شارع خيرت قريبا من مقام السيدة زينب, يبدو أن المدينة أيامها كانت أكثر براحا برغم امتداداتها المؤكدة في كل الاتجاهات وما انضاف إليها من أحياء يسكنها بشر كثر, كنت أستمتع بالسير في أمان, أتأمل, البنايات والناس ولافتات الدكاكين والمؤسسات وكلها يشع عبقا إنسانيا ومودة بلا مقابل, كنت في تلك المشاوير أتخيل حركة الناس على الأرض وكأنها بيادق أو عساكر, أفيال وأحصنة وقلاع أو وزراء وملوك, ولابد أن كثرة اهتمامي وممارسة لعبة الشطرنج سيطرتا على خيالي وجعلتاني أفكر على هذا النحو الغامض, وكان الأمر يبدو لي أحيانا وكأنه مقدمات جنون, جنون تقسيم حركات البشر على النحو الذي يحدث فوق رقعة الشطرنج, لكن الأمر كان على نحو ما داعيا للتأمل, فالعسكري الشجاع يموت في الحرب غدرا أو عجزا عن الدفاع عن نفسه, لكنه يتقدم للأمام بجسارة وينتصر وربما يترقى إذا أحسن المسئول تدريبه وتسليحه وإفهامه أنه يدافع عن وطن, والوزير الذي يتحرك على قطعة الشطرنج مطلق الحرية لأي مسافات وفي كل الاتجاهات رغم أنه دمية يتشابه على نحو متعسف مع بعض الوزراء في كل أنحاء العالم, تكتب سيرهم بحسب ما يقدمون لشعوبهم وملوكهم بالسلب أو بالإيجاب, أما ملوك الشطرنج فيتميزون بالوقار في خطواتهم وغالبا ما يحكمون ولا يتحكمون كما يجب أن يكون, ومثلما يتقافز بعض البشر على أكتاف الخصوم تفعل الخيل الجامحة التي تركل بسنابكها كل ما يعترضها, كنت أرى أيضا بعض البشر الفانين يبرعون في الدوس والدهس والفرم بغلظة فوق الأبدان كأنهم أفيال ملك الحبشة المتوجهة لهدم الكعبة في الزمن القديم فتوقفها الطيور الأبابيل وترميها بحجارة من سجيل, لكن أفيال هذا الزمان تفلت وتدوس وتدمر وتترك خلفها الخراب والأشلاء دون أن يحاسبها أو يوقفها أحد, أما القلاع والطوابي فهي إما هزيلة سهل تدميرها على رءوس حراسها أو شامخة تتأبى على جحافل الأعداء, تصدّها وترسل في أعقاب فلولها المنكسرة فرسانا يلقنونهم آخر درس كي يكفّوا عن معاودة الحصار.

دعونا من قوانين اللعبة شبه الشائعة والتي كنت أجيدها في الزمن القديم على طريقتي الخاصة, انكسار يعقبه صحو وانتصار, وكل من يتعايشون معي في المقهى نفسه في ذلك الزمان البعيد يعرفون أنه من النادر أن أكسب أول دور رغم براعتي المشهود بها, ربما كنت في داخلي شخصا لا يميل إلى حصار الآخرين أو الاعتداء عليهم أولا, كان البعض منهم يقول في حضوري أو غيابي إنني برغم براعتي التي تتبدى لهم في نقلي للقطع وبرغم أنني أكسبهم جميعا فإنهم كانوا يدركون ويعلنون أنني لو دخلت أي مسابقة رسمية لخرجت من التصفيات الأولى, ومن ناحيتي لم أكن أهتم, كنت أرغب في أن أكون لاعبا له نفس طويل, يدركون أنني مسالم, ولكن بغير استسلام, أرد العدوان وأهزم مَن يعترضون مساري, لكن الشطرنج الآلي حيّرني في أمره وأمر نفسي, كان في كل الأدوار التي أخسرها حريصا على تسجيل انتصاره, ومن ناحيتي كنت أجاهد لاستعادة براعتي القديمة بعد الهزيمة الأولى أو الثانية, أباغته بحركات غير متوقعة وأحاصره بحيث لا يكون له مهرب بعد نقلة أو نقلتين, ساعتها كان يتباطأ إلى حد الإملال ثم تتوقف حركة الجهاز تماما, لا يطاوعني أو يطاوع عيالي ليتيح لي فرصة الفوز عليه, يظهر المربع نفسه فوق رقعة الشطرنج مكتوب بداخله اعتذار رقيق عن عطل مباغت ويطلب مني أن أبدأ دورا جديدا, كنت في البداية أطاوعه قائلا لنفسي إنه جهاز عجيب ومراوغ ولابد أن أكف عن ملاعبته, أتصور أن يكون مبرمجا على عدم الاعتراف بأي هزيمة في لعبتي المفضلة على وجه التحديد رغم أن الأمر في أوله وآخره لعبة, ويوما في إثر يوم كان يستفزني ويجعلني أرفض تفسيري القديم بأن الأمر مجرد مصادفات غير مدبرة, أسأل نفسي كيف أن هذه هي اللعبة الوحيدة التي تهدف إلى إفقاد ذي خبرة مسبقة مثلي كل ثقة في قدراته على مشهد من زوجته وعياله? هل كنت خصما يلزم القضاء على طموحه بالحسرة على وعيه القديم بعد الهزائم المتكررة دون أمل في نصر وحيد? كنت أسرح بخيالي وأقول إنه جهاز غريب ومبرمج يترصد الخصوم ويتوعدهم بالقضاء على أحلامهم رغم أنه في نهاية الأمر آلة, وأتساءل إن كانت لعبة بريئة في نهاية الأمر يمكن أن تتعامل مع مواطن مسالم باعتباره عدوا أو خصما يلزم تصفيته? وهل كتب لاعب محترف هزمتُه ونسيتُه تقريرا ملفقا عن نشاطي في السابق أو مشاركتي في أحداث شغب خطيرة مضادة لتوحيد العالم في تواريخ بعينها برغم وجودي وبشكل مؤكد في نفس مقر عملي بمبنى مجمع التحرير ما أزال? وإذا كان هذا الجهاز نفسه هو الذي يلجأ إليه عيالي لمعرفة ما يدور في كل أنحاء العالم في اللحظات نفسها وبكل دقة, فكيف يكون كاذبا وهو الذي ينقل لنا صور الدبابات تفرم أبدانا في شوارع ساكنة وخالية يكتم الأطفال فيها أنفاسهم رعبا ويتأكد تقسيم الكرة الأرضية إلى أقوياء بشكل مطلق وضعفاء بشكل مطلق, رغم أنها قرية صغيرة تختلف فيها العادات واللغات والعقائد منذ البداية?

كانت كل هذه الأفكار تراودني في أعقاب كل دور ألعبه وأوشك فيه على الفوز فتتجمد الصورة ويقهرني المربع الآسف نفسه بأدب جمّ عن العطل المباغت فوق رقعة الشطرنج, يدعوني إلى بداية جديدة فأفعل, أقول لنفسي إنني صرت له صيدا حلالا يستحق الهزيمة الأبدية والانكسار, لكنني من داخلي كنت أثق أنه سوف ينهزم في القريب وأنني بالقطع سوف أفك شفرة اللعبة في الزمن الآتي أو يفكها عيالي.

أحمد الشيخ مجلة العربي مايو 2004

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016