إن الحرية الفكرية التي يتمتع بها علماء الغرب, دفع أسلافهم ثمنها باهظًا في عصر النهضة الأوربية, فقد خاضوا معركتين في آن واحد, الأولى ضد الطبيعة لاكتشاف أسرارها وقوانينها والثانية ضد السلطات اللاهوتية التي شهرت السيف في وجه العلم الحديث ورجاله.
يدرك الدارس للتاريخ الأوربي أن البابوية والمؤسسات الدينية المرتبطة بها كانت قد هيمنت على شئون الحياة في الغرب هيمنة كاملة طوال العصور الوسطى التي امتدت من القرن الخامس إلى الخامس عشر الميلاديين, ولم تقتصر هذه الهيمنة على الجوانب الدينية والاجتماعية فحسب وإنما شملت الشئون الثقافية أيضًا. فقد أعلنت وصايتها على العقل الأوربي وحددت له الإطار الذي يُسمح له بالتحرك فيه, بحيث جعلت المصادر الرئيسة للعلم والمعرفة هي الكتاب المقدس وسير القديسين وقرارات المجامع الكنسية وإرادة البابوات. وزرعت في العقل الأوربي (عقيدة) مفادها أن تفسير الكتاب المقدس هو حق للكنيسة ورجالها, وأن أي حقائق لا تستند إليه هي من صنع الشيطان, وبالتالي فإن نشر نظريات أو معلومات, في أي ميدان من الميادين, لا تقرها الكنيسة هو مغامرة يدفع صاحبها حياته ثمنًا لها. وقد استخدمت الكنيسة الرومانية أسلحتها, الروحية منها والمادية, لوضع (عقيدتها الثقافية) تلك, موضع التنفيذ, وكانت محاكم التفتيش من أكثر هذه الأسلحة فعالية.
كانت محاكم التفتيش قد أسست عام 1231 باسم (محاكم التفتيش البابوية), لملاحقة المتهمين بالزندقة والشعوذة والسحر, ونشرت الرعب على امتداد الغرب, وارتكبت الكثير من المجازر وأحرقت الكثير من الأبرياء. وفي بداية العصور الحديثة انتكست سلطة هذه المحاكم وساءت سمعتها وضعف نشاطها نتيجة المتغيرات التي اجتاحت أوربا في عصر النهضة. ولكن ظهور البروتستانتية وتحول الكثيرين من الكاثوليكية إلى البروتستانتية من ناحية وانتشار بعض النظريات والأفكار العلمية والفلسفية التي تتناقض مع الكتاب المقدس وآراء رجال الكنيسة من ناحية ثانية, دفع ذلك كله البابا بولس الثالث (1468 - 1549) إلى إصدار مرسوم بابوي يعلن فيه إحياء محاكم التفتيش تحت اسم جديد وهو (محاكم التفتيش الرومانية), حيث شكل هذا البابا لجنة دائمة تألفت من ستة من الكرادلة المحيطين به في روما, ثم ازداد عددها حتى بلغ في عهد البابا سيكستوس الخامس (1585 - 1590) ثلاثة عشر كردينالاً, وقد أطلق على هذه الهيئة اسم (الديوان المقدس) وهي بمنزلة محكمة تفتيش مركزية مقرها روما, ومشرفة على فروعها المنتشرة في مدن الغرب. وعلى الرغم من أن البابا هو الذي يرأس هذه اللجنة (الديوان) عادة إلا أنه كان يعهد إلى أحد الكرادلة برئاستها. أما فروع المحكمة في المدن فكان يرأسها أحد رجال الدين فيها وينفذ قرارات وتعليمات محكمة التفتيش المركزية. وكان لمحكمة التفتيش هذه هيئة استشارية دولية تضم بين عضويتها علماء ولاهوتيين وأساتذة جامعات وقانونيين.. وكانت تتم استشارتهم في بعض المواضيع المهمة.
رقابة صارمة
وكان من أول الأعمال التي قامت بها (محاكم التفتيش) الجديدة هذه وضع ما عُرف بـ (فهرست) الكتب المحرمة على المسيحيين Forbidden books. فقد اعتقدت البابوية أن الرقابة على المطبوعات تعد من أهم واجبات الكنيسة وذلك حرصًا على ألا يتأثر المسيحيون بالأفكار الفلسفية والنظريات العلمية التي أخذت تنتشر في بطون الكثير من الكتب والمطبوعات آنذاك. وفي عهد البابا اسكندر السادس (1431 - 1503) اتخذت إجراءات صارمة في هذا الشأن منها تحريم طبع أي كتاب دون موافقة الكنيسة, كما عهد البابا بولس الرابع (1476 - 1559) مسألة الرقابة على الكتب إلى محكمة التفتيش. ولهذا أحدثت هذه المحكمة سجلاًّ دونت فيه أسماء الكتب التي تحرم الكنيسة على المسيحيين قراءتها أو حيازتها, وعرف باسم (الفهرست), والذي صدر عام 1557, وكانت تعاد طباعته بين فترة وأخرى ليضم كتبًا جديدة ترى المحكمة ضرورة إدراجها فيه. وعلى الرغم من احتجاجات طلاب العلم والناشرين في الغرب آنذاك على هذا الفهرست, فإن الكتب أخذت تُحرق بالآلاف هنا وهناك في مدن الغرب, ففي البندقية مثلا أحرق نحو عشرة آلاف كتاب في يوم واحد. ولا شك في أن هذه السياسة ألحقت أبلغ الأضرار بالحركة العلمية التي كانت تتلمس طريقها بالدراسات اليونانية والرومانية التي كانت قد انتعشت فترة من الزمن.
كانت أولى مراحل الصراع بين السلطات اللاهوتية وعلماء عصر النهضة قد دارت في ميدان علم الفلك, لأن ما توصل إليه علماء الفلك الحديث من نظريات يتناقض مع تلك التي كانت تؤمن بها الكنيسة. وبعبارة أخرى كانت هناك نظريتان متناقضتان حول علم الفلك, الأولى تقول بمركزية الأرض, أي أن الأرض هي مركز الكون وأن جميع الكواكب والنجوم, بما فيها الشمس, تدور حولها. والنظرية الثانية تقول بمركزية الشمس, أي أن الشمس هي مركز الكون وأن الأرض وغيرها من الكواكب تدور حولها. إن النظرية الأولى تعود في أصولها إلى العالم اليوناني أرسطو (ت322ق.م) والتي أيدها بقوة فيما بعد الجغرافي اليوناني بطليموس (ت170م), أما النظرية الثانية فإنها تعود في أصولها أيضًا إلى العالم اليوناني أريستارخوس (ت230ق.م) ولكن الذي أحياها في بداية العصر الحديث ونادى بها هو العالم البولندي كوبرنيق (1473 - 1543). ولقد تبنت الكنيسة النظرية الأولى لأنها تتفق مع ما ورد في الكتاب المقدس من إشارات حول مركزية الأرض في حين أخذ بعض علماء عصر النهضة بالنظرية الثانية, وبطبيعة الحال أخذت الكنيسة الرومانية تنظر إلى علم الفلك الحديث على أنه علم باطل, وشنت حربًا لا هوادة فيها على نظرياته ورجاله.
كان كوبرنيق قد أعلن نظريته هذه حوالي عام 1500م, وكانت الأدلة التي استخدمها على صحتها هي في معظمها أدلة فلسفية, فهو يقول, بعد أن وصف الأفلاك واحدًا بعد واحد: (وفي الوسط تجلس الشمس على عرشها, ومن معبدها المنير تشع نورها على الكون كله, ومن الحكمة أن نسميها بالمصباح المنير أو العقل المدبر. وتتمركز الشمس في وسط الكون وتجلس على العرش الملكي ترعى أطفالها والكواكب التي تدور حولها..). ولكن كوبرنيق لم يجرؤ على التصريح بنظريته علنًا إلا عام 1530م أي بعد أن ظل صامتًا نحو ثلاثين عامًا. حيث ألف في العام الأخير كتابه المشهور (حركات الأجرام السماوية), وأهداه إلى البابا بولس الثالث. ولكن لم ينشر الكتاب إلا عام 1543, أي بعد ثلاثة عشر عامًا من تأليفه, وبعد أن كتب الناشر مقدمة له بيّن فيها أن نظرية كوبرنيق هي مجرد فرضية خيالية وليست حقيقة علمية. وقد وصلت أول نسخة من الكتاب إلى كوبرنيق في الرابع والعشرين من شهر مايو عام 1543, وهو على فراش المرض. وشاء القدر أن يموت كوبرنيق بعد ساعات من تسلمه نسخة من كتابه هذا. وربما أنقذه الموت مما كان ينتظره من أيام سوداء على أيدي رجال محكمة التفتيش.
ولاشك في أن نظرية كوبرنيق جعلت منه قائد أضخم ثورة في تاريخ علم الفلك الحديث, وأعظم مبشر بالثورة العلمية, حيث لم يكن بإمكان خلفائه أمثال جاليليو وكبلر ونيوتن تحقيق إنجازاتهم لولا اعتناقهم نظريته. ويهمنا أن نؤكد أن نظرية كوبرنيق تتناقض تناقضًا كليًا مع ما ورد في الكتاب المقدس.
وتساءلت البابوية ماذا سيصيب العقيدة إذا ما ثبت صحة نظرية كوبرنيق بدوران الأرض? وما موقف الكنيسة من عامة المسيحيين إذا ثبت بطلان نظريات أرسطو وبطليموس التي باركتها واعتمدت عليها في تفسير بعض نصوص الكتاب المقدس?
وفي ضوء ذلك أدركت محكمة التفتيش أن نظرية كوبرنيق تزعزع العقيدة المسيحية وتشكل خطرًا على الكنيسة ومستقبلها, وبالتالي لم يكن أمامها خيار سوى التصدي لها ومحاربة أتباعها. ولهذا كلفت رجالها المنتشرين في أرجاء الغرب بتصيد كل من يعلن تأييده لهذه النظرية. وكان في مقدمة الذين وقعوا في المصيدة العالم الإيطالي جوردانو برونو (1548 - 1600) الذي لم يتردد بالتصريح علنًا بصحة نظرية كوبرنيق, وقال إنها حقيقة علمية لا يرقى إليها الشك. وقام رجال محكمة التفتيش بمطاردته في كل مكان, حتى نجحوا, عام (1592), في القبض عليه في مدينة البندقية, ثم نقل إلى روما ومثل أمام محكمة التفتيش فيها. وبعد نحو سبع سنوات (1593 - 1600) قضاها برونو في السجن البابوي في روما, وعانى شتى أنواع التعذيب, حكمت عليه المحكمة بالإعدام بتهمة الزندقة, وأحرق حيًا في روما عام (1600). وذهب برونو في التاريخ شهيدًا للعلم والفكر الحر.
ولكنها تدور . .
ووصل الصراع بين السلطات اللاهوتية وعلماء الفلك الحديث إلى ذروته في محاكمة العالم الفلكي الإيطالي جاليليو. وكان الأخير قد ولد في مدينة بيزا الإيطالية عام 1564م, ولكنه عاش مع أسرته في فلورنسا. درس الطب والرياضيات في جامعة بيزا. ومع أنه لم يحصل على شهادة جامعية فإن عبقريته في الرياضيات ذاع صيتها في أرجاء الغرب, حتى أنه عين أستاذا لتدريسها في جامعة بيزا نفسها. وأقبل عليه الطلاب من أرجاء الغرب كافة, وكان منهم فيرديناند الذي أصبح فيما بعد إمبراطورا على ألمانيا.
وعلى الرغم من أن أساتذة الجامعات في ذلك العصر كانوا يخضعون لنظريات أرسطو ويدرسونها دون مناقشة, فإن جاليليو لم يتردد, في تفنيد بعضها ونقدها نقدًا علميًا, بل كان منهجه يقوم على الشك في كل مسألة حتى تثبت التجربة والمشاهدة صحتها.ثم انتقل جاليليو لتدريس الرياضيات في جامعة بادوا التي كانت تتبع جمهورية البندقية, واستمر في عمله هذا ثمانية عشر عاما (1592 - 1610). وكانت هذه الفترة من أغنى أيام حياته العلمية لما توافر له فيها من حرية علمية. وفي عام 1610 أنهى عقده مع الجامعة المذكورة وتفرع للبحث العلمي في ظل رعاية الأمير كوسيمو الثاني مديتشي أمير فلورنسا الذي كان واحدا من طلابه في جامعة بادوا وأحد رعاة العلم البارزين في إيطاليا آنذاك. ولقد حقق جاليليو, أثناء عمله في جامعة بادوا, اكتشافات علمية مذهلة, في ميدان علوم الفلك والرياضيات والفيزياء.
ولكن ما يهمنا منها هو ما يتعلق بعلم الفلك الذي أدى إلى نقمة الكنيسة عليه. ففي عام 1597 أعلن جاليليو لأول مرة اعتناقه لنظرية كوبرنيق في الفلك, حيث بعث برسالة إلى صديقه كبلر (أستاذ الفلك والرياضيات في جامعة توبنجن بألمانيا), يبلغه فيها بذلك. وفي عام 1609 طور جاليليو المنظار المقرب (التلسكوب) الذي يقرب صورة الأشياء البعيدة ويجعلها تبدو أكبر حجما مما تبدو للعين المجردة. ومن خلال هذا المنظار أثبت جاليليو صحة نظرية كوبرنيق, أي لم تعد مسألة دوران الأرض ومركزية الشمس قضية فلسفية أو فرضية خيالية, وإنما غدت حقيقة علمية. كما رأى في هذا المنظار مجموعات من النجوم والكواكب لم يسبق لأحد رؤيتها, مثل اكتشاف أربعة أقمار تابعة لكوكب المشتري, والتي أطلق عليها اسم (ثريا مديتشي). وأحدث استخدام جاليليو (للتلسكوب) ردود فعل متناقضة. فقد رحب به رجال البندقية أشد الترحيب وذلك إدراكا منهم لقيمته التجارية والحربية. ويقول جاليليو في هذا الصدد إن كثيرا من نبلاء البندقية وأعضاء مجلس الشيوخ فيها قد صعدوا أكثر من مرة, رغم كبر سنهم, إلى قمة كنيسة القديس مرقص التي تعد أعلى كنيسة في البندقية, لكي يشاهدوا الأشرعة والمراكب من بعيد, والتي كان لابد من انقضاء ساعتين قبل رؤيتها بغير (تلسكوب). ومكافأة لجاليليو أصدر مجلس الشيوخ في البندقية قرارا باختياره أستاذا مدى الحياة في جامعة بادوا. أما موقف زملائه, وخاصة الفلكيين الأرسطيين في الجامعة فقد كان ينم عن حقد دفين وحسد عميق, حيث سخروا من هذا الاختراع حتى أن أحدهم رفض أن ينظر فيه, وبعضهم نظر فيه ولكنه تجاهل ما رأى.
أما موقف رجال الدين, ولاسيما المتزمّتين منهم, فقد حرّموا النظر فيه, بل أشاعوا أن استخدامه يوقع في الكفر, وأن ما يُشاهد من خلاله ليس إلا أوهامًا يوسوس بها الشيطان. أما جمهرة العقلاء ورجال العلم في الغرب, فقد رحّبوا بهذا الاختراع بوصفه أداة لما سيقدمه من خدمات لعلم الفلك الحديث. فقد استخدم كبلر (تلسكوب) جاليليو وتأكد من وجود (ثريا مديتشي) ونشر في فرانكفورت بحثًا عام 1611م, قال فيه (لقد انتصرت يا جاليليو).
وسرعان ما وصلت إلى مسامع محكمة التفتيش في روما, من خلال المخبرين الذين يعملون لحسابها, والمنتشرين في أرجاء الغرب, تبني جاليليو لنظرية كوبرنيق وما ترتب على استخدام (التلسكوب) من كشوف فلكية مذهلة. وكان جاليليو من طرفه حذرًا أشد الحذر من مسألة تناقض الكشوف الفلكية الجديدة مع الكتاب المقدس ونظريات أرسطو وبطليموس التي باركتها الكنيسة, ولهذا أخذ يصرح بأن الكتاب المقدس يتطلب تفسيرًا يختلف عن المعنى المباشر للألفاظ, وأن الظواهر الطبيعية لا يمكن أن تدرك أو تدحض بنصوص من الكتاب المقدس, وإنما بالرصد الدقيق والتجارب العلمية, وفي ختام عام 1615 اتجه جاليليو بنفسه إلى روما لشرح أفكاره أمام السلطات الدينية وأعضاء محكمة التفتيش. إلا أن المجلس البابوي قطع الطريق عليه حيث أصدر في مستهّل العام التالي (1616) قرارًا يتضمن تكفير كل من يقول بنظرية كوبرنيق. ثم قامت محكمة التفتيش بأمر من البابا بولس الخامس (1552-1621) باستدعاء جاليليو. وبعد جلسات استجواب عدة أصدرت المحكمة قراراتها في السادس والعشرين من شهر يناير 1616, وهي: أن يتعهد جاليليو بالتخلي عن نظرية مركزية الشمس ودوران الأرض باعتبارها أقوالا باطلة, وأن يمتنع امتناعًا مطلقًا عن تدريس أو مناقشة أو الدفاع عن هذه النظرية كتابة أو شفاهة. وإذا رفض جاليليو الانصياع لقراري المحكمة السابقين يجب أن يزج به في سجن محكمة التفتيش في روما. وأدرك جاليليو أن رفض هذه القرارات ينطوي على الموت, ولهذا أذعن لها وتعهد بالالتزام بها. ولم يمض أسبوعان حتى أصدرت لجنة فهرست الكتب المحرّمة قرارًا تحرم فيه كل ما كتبه كوبرنيق ومؤيدوه. وعاد جاليليو من روما إلى فلورنسا حزينًا بعد هزيمته في أول جولة له في الصراع بينه وبين السلطات اللاهوتية.
وفي عام 1624 قام جاليليو بزيارة روما لتهنئة صديقه أوربان الثامن (1568-1644) الفلورنسي الأصل, باعتلاء المنصب البابوي في العام السابق, وفي الوقت نفسه لمحاولة إقناعه بتعديل موقف الكنيسة من نظرة كوبرنيق. ورغم أن البابا استقبل جاليليو بحفاوة إلا أنه رفض رفع الحظر عن النظرية, بل قال له البابا: (مهما كانت الأدلة على دوران الأرض كثيرة ولكن القدرة الإلهية المطلقة تجعل الشمس هي التي تدور, والأرض هي الثابتة), وعاد جاليليو من روما إلى فلورنسا خائبًا وحزينًا من إخفاقه في الجولة الثانية من هذا الصراع.
بدلاً من الخرافات
وفي عام 1630 ألف جاليليو كتابه المشهور حوار النظامين العالميين الرئيسيين: Dialogue Concerning the tow chief world systemsناقش فيه نظريتي بطليموس وكوبرنيق في الفلك على شكل حوار بين أنصار الطرفين, وبعث جاليليو بمخطوطة الكتاب إلى روما للحصول على موافقة البابوية قبل نشره. وبالفعل جاءت الموافقة, ولكن بعد أن كتبت الكنيسة في روما مقدمة له, تبين فيها أن نظرية كوبرنيق فرضية خيالية. وقد تم نشر الكتاب في العام1632. وتجدر الإشارة إلى أن جاليليو كتب كتابه بالإيطالية. وهي اللغة الدارجة بين عامة الناس في إيطاليا, وليس باللاتينية التي كانت لغة رجال الدين والعلم والفكر. وكان جاليليو يستهدف من ذلك نشر نظرية دوران الأرض بين الجماهير, بدلاً من الخرافات والأساطير الموروثة, وهذا بدوره أغضب محكمة التفتيش أشد الغضب. واكتشفت السلطات اللاهوتية في روما أنها وقعت في مأزق خطير, فبعد قراءة متأنية لكتاب جاليليو تبين لها أن المؤلف تعامل مع نظرية بطليموس, والتي تتبناها بطبيعة الحال الكنيسة, بسخرية بالغة, كما عرض لبعض آراء البابا بطريقة لا تليق به, هذا فضلاً عن أن المقدمة التي كتبتها الكنيسة للكتاب كانت سطحية وبالتالي لم تقلل من قيمة الأدلة الدامغة على حقيقة النظام الفلكي الجديد. وإزاء ذلك كله أمر البابا بمصادرة الكتاب واستدعاء جاليليو للمثول أمام محكمة التفتيش في الحال. ووصل جاليليو إلى روما في يناير من عام 1633, وهو في السبعين من عمره, ومثل أمام محكمة التفتيش, وكانت التهمة الرئيسة التي وجهت إليه هي العصيان والتمرّد على السلطات الروحية لأنه لم يلتزم بما تعهد به عام 1616, أمام محكمة التفتيش في روما, وقد استمرت محاكمة جاليليو قرابة ستة أشهر استخدم رجال المحكمة معه أثناءها كل أشكال التهديد والوعيد والإرهاب والمكر والخداع للإيقاع به, وتصيد ما يمكن أن يساعدهم على إلصاق تهمة الكفر والإلحاد به. وفي الثاني والعشرين من شهر يونيو من عام 1633 أصدرت محكمة التفتيش قرارها بإدانة جاليليو بالهرطقة لأنه يبشر بنظريات باطلة. وعرضت عليه الغفران الكنسي شريطة أن يقسم علنًا على الإنجيل بالتخلي عن نظرية كوبرنيق, وأن يسجن مدة يحددها البابا, وأن يتلو مزامير التوبة السبعة يوميًا طوال السنوات الثلاث التالية.
وبعد تلاوة الحكم طلبت المحكمة من جاليليو أن يجثو على ركبتيه ويعلن ارتداده عن نظريته وفقًا لنص مكتوب قدمته له. وبالفعل جثا جاليلو وقرأ نص الارتداد بصوت عال, والإنجيل بيده, أمام هيئة المحكمة وجمهورغفير من الناس. ومما ورد في نص الارتداد: (أنا جاليليو جاليلي, من فلورنسا, البالغ من العمر سبعين عامًا, الجاثي أمام الكرادلة وقضاة التفتيش, أقسم بأنني كنت ولازلت وسأظل مؤمنا بكل ما تقبله الكنيسة الكاثوليكية المقدّسة. وسبق أن وجه إليّ هذا المجمع البابوي أمرًا بالتخلي عن الرأي الزائف القائل بأن الشمس هي مركز الكون, وحظر عليّ الدفاع عنه أو تعليمه. فإنني بقلب صادق وبنية خالصة أستنكر هذه الأخطاء والهرطقات وغيرها مما يتعارض مع الكنيسة المقدسة).
وهناك رواية تقول إن جاليليو حين نهض واقفًا ركل الأرض بقدمه وقال همسًا: (ومع ذلك فأنت تدورين). وهكذا خسر جاليليو الجولة الثالثة والأخيرة في صراعه ضد السلطات اللاهوتية في روما. حيث ارتدّ عن كل ما كان يؤمن به وما اكتشفه في ميدان علم الفلك الجديد, بل تعهد لمحكمة التفتيش أن يبلغها عن كل من يؤيد نظرية دوران الأرض. وقامت المحكمة المذكورة بتعميم قرار ارتداد جاليليو على جميع المؤسسات الدينية والعلمية في الغرب, بغية نشر الإرهاب الفكري في أوساط العلماء والمثقفين, وحتى لا يفكر أحد بالخروج عن تعاليم الكنيسة.
وبعد أن أمضى جاليليو فترة في سجن محكمة التفتيش في روما سمحت له المحكمة, بموافقة البابا, بأن يقضي بقية حياته تحت الإقامة الجبرية في منزله بقرية آرشيتي (قرب فلورنسا), وعاش جاليليو السنوات التسع الأخيرة من حياته في شبه عزلة تامة, وتحت مراقبة رجال التفتيش, ولم تسمح الكنيسة إلا لقلة قليلة من أصدقائه بزيارته مثل تلميذه تورشيللي الذي اخترع فيما بعد البارومتر. وفي عام 1638 كفّ بصر جاليليو تمامًا, ومات عام 1642 في قريته المذكورة, وهو في الثامنة والسبعين من عمره, وقيل مات كفيفًا ذاك الذي مدّ إبصار البشرية إلى عجائب السماوات.
هل تخاذل حقّا?
لقد اختلفت آراء الباحثين حول موقف جاليليو في قاعة محكمة التفتيش, فبعضهم رأى فيه تخاذلاً لا حدود له, لأنه آثر سلامته الشخصية على حساب الحقيقة العلمية, وبعضهم الآخر رأى فيه حنكة وذكاء, لأن الانحناء أمام العاصفة كان ضرورة تفرضها رغبته في مواصلة البحث العلمي خدمة للإنسانية. وبغض النظر عن هذه الآراء وغيرها, فإن المشكلة الأساسية تكمن في السلطات اللاهوتية التي أعاقت, بفكرها وأساليبها وأدواتها, حركة النهضة الأوربية قرونًا. فبدلاً من أن تفتح أبواب الحوار مع رجال عصر النهضة, من علماء وفلاسفة وأدباء, وتحتوي المستجدات والاكتشافات الجديدة في ميدان العلوم والآداب والفنون, شنت حربًا لا هوادة فيها على الرجال والأفكار, ونجحت في اغتيال الكثير من العقول قبل أن تنضج, وإجهاض الكثير من الأفكار العلمية قبل أن تتفتّح. كما أعاقت السلطات اللاهوتية حركة النهضة عندما باركت بعض نظريات الفلاسفة والعلماء القدامى, أمثال أرسطو وبطليموس, ونسبت لهم (العصمة) العلمية, وجعلت تراثهم جزءًا من التراث الفكري للمسيحية. وهذا ما جعل معظم علماء الغرب, وعلى امتداد قرون طويلة, يحجمون عن نقد نظريات هؤلاء وتفنيدها خوفًا من الكنيسة ومحاكم التفتيش. كما أعاقت السلطات اللاهوتية حركة النهضة عندما عمدت إلى استخدام فئات كثيرة من المثقفين الانتهازيين والأكاديميين المنافقين, الذين عملوا مستشارين لها, وسخروا عقولهم وعلومهم لخدمتها بدلا من خدمة قضايا النهضة. وكان هؤلاء يفتون في المسائل العلمية وغير العلمية التي تعرض عليهم لا بمعيار البحث عن الحقيقة العلمية المجردة وإنما بمعيار إرضاء الكنيسة, والخوف من محاكم التفتيش والحسد والحقد على علماء النهضة, بل يمكن القول إن أمثال هؤلاء المثقفين والأكاديميين يتحملون مسئولية كبيرة لما لحق بالنهضة ورجالها من محن وانتكاسات.
وبعد أربعة قرون من الصراع مع أحرار الفكر والعلم, استسلمت السلطات اللاهوتية وسمحت, قبيل منتصف القرن التاسع عشر, بتدريس نظرية دوران الأرض وبنشر الكتب التي تقول بها. وهكذا سقط السيف, بعد أن انثلم حده وعلاه الصدأ, وانتهت الوصاية على العقل الأوربي, وانتصر العلم الحديث.