مختارات من:

أليجوريات إحيائية

جابر عصفور

أحسب أن واحدا من أهم الأدوار التي لعبتها الرواية في عصر الإحياء، من حيث علاقتها بالتنوير في ذلك العصر، إنطاق المسكوت عنه من الأفكار الجذرية التي انطوت عليها طليعة العصر، سواء في انقطاع هذه الطليعة عن الثوابت الباقية من ميراث التخلف، أو تطلعها إلى وعود الزمن القادم بلوازم التقدم. وكان على الرواية، في أدائها لهذا الدور، أن تتعلم مراوغة القمع الخاص بعصرها، وأن تكتسب من خبرة الماضي الإبداعي مخاتلة التمثيلات الكنائية، ومداورة التوريات السردية. ولذلك استعانت بحيل أشباه الحكيم "بيدبا" في ترويض أشباه السلطان "دبشليم" بواسطة الأمثال التي اختفى وراءها أشباه ابن المقفع من الذين غامروا بإنطاق المنهي عن التصريح به.

وكما أفادت الرواية الإحيائية من خبرات تراثها الأدبي، من حيث هو تراث متميز بما أنجزه من بلاغة المقموعين، أفادت من إنجازات القص الأوربي الذي نقلت عنه تقنيات الرواية الأليجورية، أو رواية التمثيل الكنائي ذات اللغة الأيسوبية التي تنطق الخطاب المقموع في المجالات السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية أو الدينية. أداتها في ذلك أقنعة الشخصيات الرمزية، وتمثيلات الأحداث التخييلية، وتوريات المواقف الموازية، فالرواية الأليجورية Allegorical novel هي الرواية التي تقول شيئا وتعني غيره في أبسط تعريفاتها.

وتتحول أحداثها وشخصياتها إلى معادل رمزي مباشر لأفكار كاتبها، أو إشارة غير مباشرة لنماذج أو مواقف في العالم الذي تتولد منه، معتمدة في بناء أحداثها وشخصياتها على ما يشبه الاستعارة المكنية التي يراد بها لازم معناها وليس ظاهر معناها. ولأنها رواية لا تستطيع أن تشير إلى موضوعها إشارة مباشرة بسبب حواجز الرقابة الصارمة، فإنها تراوغ السلطات التي تناوشها، وتتحول إلى استراتيجية خطاب مقموع، يتحايل على سلطات المنع في المجتمع ويناورها بتورياته السردية الملتبسة التي تومئ إلى مراميها الباطنة بواسطة القرينة الدالة.

والقاعدة في الرواية الأليجورية ما قاله فرح أنطون "1874 - 1922" في تقديم روايته "الدين والعلم والمال" التي ظهرت سنة 1903، خصوصا حين ذكر أنه هجر أسلوب المقالات والفصول المفرقة إلى أسلوب الرواية لأنه أجمع وأوعى، فضلا عن كونه أشد تأثيرا وأحسن وقعا، مؤكدا أن اهتمامه بالمبادئ والأفكار في استخدام هذا الأسلوب مقدم على اهتمامه بالحوادث والأخبار. لكن دون أن يمنع ذلك من التزام ما تقتضيه الروايات من الوصف وتصوير العواطف والحوادث تصويرا طبيعيا، لأن فن الروايات فن نفسي فيما يقول، جماله وتأثيره متوقفان على حسن سبكه ولطف أسلوبه ودرس باطن الإنسان وأخلاقه درسا دقيقا. ولذلك فإن التوفيق بين الالتزام الفني لتقنيات القص والالتزام الفكري بعرض أفكار المؤلف هو الأصل السردي للرواية الأليجورية، لكن بما يضع الأفكار في الصدارة دائما من السرد، حتى لو اضطر المؤلف إلى الجور على تقنيات القص المتصلة بتصوير الحوادث والعواطف الإنسانية، والتضحية بالكشف عن باطن الشخصيات من حيث هي شخصيات حية، وذلك في سبيل الكشف عن مبررات انحيازه إلى الفكرة التي يقوم بتحسينها أو تقبيحها.

والمؤكد أن الطبيعة الفكرية للرواية الأليجورية هي التي تفرض قالبها الفني، فتتباعد بها عن القص الواقعي الذي يعتمد على الوقائع الحياتية الملموسة والأحداث المتعينة والشخصيات المحسوسة والعلاقات المشاكلة لعلاقات العالم الحي، كما تتباعد بها عن القص الوجداني "الرومانسي" الذي ينطلق في عالم الخيال طليقا، حيث يحلق الأبطال في أفق مجنح من المشاعر والعواطف المرهفة أو الهشة. وطبيعي أن تلح الرواية الأليجورية على الطابع الحواري، نتيجة ما تنبني حوله من أفكار متصارعة واتجاهات متناظرة، فتتحول إلى مناظرات فكرية بين الأبطال، ومجادلات فلسفية بين الاتجاهات، وتعارضات فنية بين المواقف. أما الأبطال فهم أقرب إلى التمثيلات المجردة في علاقات المجاز التي تشير فيها كل شخصية إلى فكرة بعينها. وتقوم كل شخصية على فكرة تؤديها، تلازمها وتدل عليها كما يلازم الاسم مسماه أو تدل الصفة على موصوفها. والنتيجة هي ما تتسم به الشخصية التمثيلية، عادة، من صفة واحدة مطلقة، هي علامتها وميسمها وسر وجودها. وفي الوقت نفسه، تنبني الأحداث على التقابل الحاد بين المواقف، في موازاة التقابل بين الأفكار. ويعلو صوت الحوار على صوت الوصف. ويتم تجريد المكان والزمان اللذين يتحولان إلى مطلق من الزمان والمكان، فيخلو كلاهما من التعين أو الخصوصية إلا في الإشارة إلى مناط التمثل أو موضع الأمثولة من القص. ويخلو السرد من أي خاصية بلاغية تشد الانتباه إليه في ذاته. ويغدو أقرب إلى الزجاج الشفاف الذي تعبره العين إلى ما وراءه دون أن تتوقف عليه في ذاته، فالانتباه كله مسلط على الحوار الفكري وحده.

ويبدو أن هذا هو السبب الذي دفع فرح أنطون إلى أن يقول في مقدمة "الدين والعلم والمال" إنه أطلق على عمله اسم "رواية" على سبيل التساهل، لأن العمل عبارة عن بحث فلسفي اجتماعي في علائق الدين والعلم والمال فيما قال هو نفسه. وأتصور أن التردد في التسمية يرجع إلى خصوصية الرواية الأليجورية من الزاوية التي أتكلم منها، والتي كان فرح أنطون، كما كان من سبقه من كتاب النهضة، واعيا بها الوعي كله، كما يرجع إلى أن هذا النوع من الرواية يغدو جافا ـ بدرجات متفاوتة بالطبع ـ في أعين القراء الباحثين عن التسلية التي ليس وراءها سوى تزجية الفراغ. ولم يكن فرح أنطون أو غيره يريد هذا الطراز من التسلية، بل كان يريد أن يقتحم بالقص الآفاق الفكرية الصعبة، وأن يعلم القارئ وينوره لا أن يسليه تسلية فارغة، فاختار ـ كما اختار غيره من الذين سبقوه ـ سبيل التمثيل والأمثولة، وطريقة "كليلة ودمنة" و"رسالة الغفران" حيث الأفكار التي تتحول إلى رموز، والآراء التي تعرض بواسطة المجازات، والرسالة الفكرية التي توصلها بلاغة الحوار. ولم يقتصر الأمر في هذا السبيل أو تلك الطريقة على الموروث العربي القديم وحده، وإنما جاوزه إلى روايات العصر الحديث التي استخدمت التمثيل والأمثولة لأغراض موازية، متوسلة باللغة الأيسوبية على سبيل التعليم الأخلاقي والديني، أو الفرار من القمع الاجتماعي أو الاعتقادي أو السياسي.

ولذلك لا بد من قراءة الرواية الأليجورية بوصفها رواية مجازية الانتقـال فيـها مـن ملزوم المعنى إلى لازمه، وحركة القراءة فيها لا تتوقف على المعنى الأول المباشر إلا بوصفه دليلا على المعنى الثاني غير المباشر وتمثيلا رمزيا له.

ميراث التخلف

والواقع أن الرواية الأليجورية، أو رواية التمثيل الكنائي، تحتل مكانة دالة في مجالات القص في عصر الإحياء، سواء على مستوى الوعي النظري بأهداف القص ووظائفه التنويرية في مجتمع تسعى طليعته إلى تأسيس ملامحه المدنية، أو على مستوى الممارسة العملية لفنون القص التي سعت إلى إنطاق المسكوت عنه من خطاب المجتمع. وبقدر سطوة ميراث التخلف في علاقات ذلك المجتمع، وتحول هذا الميراث إلى قوى قمعية تواجه محاولات التقدم والتحديث بالبطش والإرهاب، أخذت الرواية الأليجورية تمارس إبداعها بواسطة التمثيلات الكنائية التي يراد بها لازم معناها الذي هو الأصل فيها. والهدف نشر أفكار التقدم والتحديث في مداها المتحرر من التقاليد السلبية الجامدة، غير المخالف بالضرورة للموجب من التقاليد الحية، ومن ثم إنطاق المنهي عنه من الخطاب العقلاني الطليعي في المجالات السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية والإبداعية. هكذا، أتاحت هذه الرواية من عناصرها ما ساعد المتمردين من أمثال أحمد فارس الشدياق "1823 ـ 1893" على مناوشة من خشي بأسهم، وأعان الحذرين من أمثال علي مبارك "1823 ـ 1893" على نطق كل ما كان يفرق من نطقه على لسان شخصية "الخواجا" التي ابتدعها. وقد ظهر نوع هذه الرواية في عمل فرانسيس فتح الله المراش "1839 ـ 1874" الرائد، أقصد رواية "غابة الحق" التي كتبها في مواجهة ما أسماه "مملكة التوحش والعبودية". وانحازت إلى "مملكة التمدن والحرية" منذ اللحظة الأولى التي كتبها فيها فرانسيس فتح الله المراش في منتصف القرن التاسع عشر، كما صاغت لأبناء مطلع القرن العشرين صورة المستقبل الواعد الذي يطلق سراح العقل، مؤسسا علاقة مغايرة بين "الدين والعلم والمال" على نحو ما تجلى في رواية فرح أنطون التي حملت العنوان نفسه، حين صدرت في مدينة الإسكندرية سنة .1903

ولأن العقل والحرية هما حجر الزاوية في التمدن فقد كان أول ما يقود إلى الاصطدام بالنواهي المترسبة من ميراث التخلف، خصوصا في السباقات التي تصل التقليد بالنقل والاتباع بالطاعة، وتجعل من التلازم بينهما أساس العبودية بمعناها الفردي والجمعي. ولم يكن من قبيل المصادفة أن الرواية العربية الأولى، فيما يذهب عدد من الدارسين، هي رواية "غابة الحق" التي صاغها فرانسيس فتح الله المراش صياغة أليجورية، وطبعها بمدينة حلب في المطبعة المارونية سنة 1865 على نفقة المرحوم إليان نقولا إليان أحد أذكياء أغنياء حلب، فيما يقول عبدالمسيح أنطاكي بك صاحب جريدة "العمران" الذي أعاد طبع رواية المراش للمرة الثانية في مصر سنة 1922، وهي الطبعة التي أعتمد عليها. ويصف عبدالمسيح أنطاكي هذه الرواية الأليجورية بأنها موضوعة على طراز "جحيم دانتي التلياني" بقالب خيالي نزع فيه المؤلف إلى إيقاظ قومه العرب من غفلتهم.

ولا أعرف المبررات التي دفعت صاحب جريدة "العمران" إلى تشبيه رواية "غابة الحق" بثلاثية دانتي أليجيري "1265 ـ 1321" الشهيرة "الكوميديا الإلهية" فلا وجه للشبه بين رحلة دانتي ما بين "الجحيم" و"المطهر" و"الفردوس" في "الكوميديا الإلهية" ورحلة المراش بين أودية الخيال إلى "غابة الحق"، فالرحلة الأولى على طراز "رسالة الغفران" أو "رسائل المعراج" التي تأثرت بها، والرحلة الثانية ليست رحلة بالمعنى المعروف ولكنها رؤيا على طريقة: "رأيت فيما يرى النائم". ووجه الشبه الوحيد الذي يصل بين ما كتبه دانتي وما كتبه المراش هو الحس النقدي الذي يلجأ إلى تقنيات الأليجوريا allegory التي تنطق المنهي عنه من الكلام بما لا يغدو محلا للمؤاخذة السياسية والدينية والاجتماعية. وهذا النوع من المؤاخذة هو ما دفع المراش إلى إبداع رؤيا هي نوع من اليوتوبيا السياسية والدينية والاجتماعية، أطلق فيها العنان لأفكاره التي أنطقها من وراء أقنعة الرموز، حالما بأن يستبدل مملكة "التمدن والحرية" التي تخيلها بمملكة "التوحش والعبودية" التي عانى منها.

تشييد التمدن

ومهما يكن من أمر، فإن تقدير المراش للعقل، كانتسابه إلى النزعات العقلانية، دفعه إلى أن يضع الفيلسوف موضع الفقيه التقليدي بالقرب من مجلس الملك في المملكة التي حلم بها، فأنزله أرفع منزلة في تراتب المعرفة التي أعاد إليها صفاته العقلية، بعيدا عن سطوة أتباع النقل والتقليد، وذلك أثناء تطوافه بأودية التأملات، طائرا على أجنحة الأحلام التخيلية ما بين مشاهد الغابة الرمزية للحق، حيث المملكة التي تتمثل بها الحكمة، والفيلسوف الذي يتمثل فيه العقل. وكلاهما محيط بالملك الذي يجسد الحرية بحضوره الرمزي في مملكة التمدن التي هي مملكة الحرية. وقد انتصرت هذه المملكة على مملكة التوحش والعبودية، مؤكدة صعود العلم الذي هو الفاعل الأعظم لتثقيف العقل، والسبب الأهم لتشييد التمدن والعمار. ولا نصحو مع المراش من حلم "برية الحرية" في "غابة الحق" إلا بعد أن تنطبع في أذهاننا تعارضاته الثنائية التي تقابل بين العلم والجهل، التقدم والتخلف، العقل والتقليد، التسامح والتعصب، الحرية والعبودية، النظام والفوضى، العدل والظلم، رجل الفكر ورجل السيف.وكلها ثنائيات ينحاز المراش إلى أوائلها ـ دون ثوانيها ـ مؤكدا تطلعه صوب الأفق الواعد الذي خايل الطليعة المستنيرة التي تولت تأسيس فكر مطلع النهضة العربية.

وتتحدد الشخصيات الإيجابية لمملكة التمدن بغابة الحق في خمس شخصيات. أولاها الملك الذي نراه للمرة الأولى متوجا بتاج مكتوب على إكليله "يحيا ملك الحرية". وثانيتها زوجته الجميلة التي نلمح على إكليلها الذهبي عبارة "تحيا ملكة الحكمة". يعينهما على حماية شؤون المملكة وتدبير أحوالها: قائد جيش التمدن الذي يحمي المملكة من مطامع الأعداء، وإلى جانبه وزير السلام الذي يعين الملك على تدبير أحوال السلم. أما الشخصية الخامسة فهي شخصية الفيلسوف الذي يقوم بدور العقل لقادة مملكة التمدن. وأول ما يمكن أن يستنتجه القارئ من مجاورة هذه الشخصيات هو غلبة العنصر المنسوب إلى العقل، خصوصا في جمعه بين الملكة والفيلسوف والوزير في علاقة واحدة، هي علاقة النزوع العقلاني في تدبير الأمور.

ومن هذا المنظور، تتكامل "الحرية" التي يرمز إليها الملك ويجسدها في مملكته مع "الحكمة" التي تمثلها الملكة، فتغدو حرية عاقلة لا تندفع إلى مهاوي الفوضى، أو يدفعها الغضب أو الحماسة إلى التعجل في إصدار القرارات. وذلك هو الدور الذي يؤديه الفيلسوف، الذي ينطق دائما فصل المقال في "غابة الحق".

توتر السرد

ويدور المغزى التمثيلي للرواية حول ثلاثة أشكال من التعارض الذي يتولد عنه توتر سردي أشبه بالصراع. يصل الشكل الأول بين مملكة التمدن والحرية من ناحية ومملكة الروح من ناحية مقابلة. ويقابل الشكل الثاني بين مملكة التمدن والحرية ومملكة التوحش والعبودية. أما الشكل الثالث فيدور داخل مملكة التمدن نفسها، ما بين الفيلسوف الذي يتجسد فيه عقل السلطة المدنية الخالصة وقائد جيوش الدولة الذي يرمز إلى السلطة العسكرية أو الأجهزة القمعية للدولة ـ إذا استخدمنا الرطان المعاصر، والبداية والنهاية في هذه الأشكال هي "دولة التمدن" التي تصل الحرية بالعقل، والعقل بالحكمة، والحكمة بالعلم، والعلم بالصدق، والتسامح، فتلك هي القيم الإيجابية الأساسية التي تقابل القيم السلبية لنقائض التمدن التي تنتسب إلى مملكة التوحش والعبودية، وتصل ما بين العبودية والجهل والخرافة والضغينة والكذب والخيانة والنفاق.

جابر عصفور مجلة العربي فبراير 2000

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016