سواء كنت في أتون ضوضاء شارع مزدحم، أو محاطًا بسكون مخيِّمٍ على فضاء هادئ، يشدُّ انتباهك صورة فنان، اعتزل جانبًا، واقفًا أو متكئًا أو جالسًا، ليرسم لحظة ما قبل أن تهرب: بناء عتيق تحدى الزمن قبل أن تنتهك حرمته العولمة، حركة سير حيوية لا يبقى منها غير طيف من الألوان، تراقبها عينا الفنان، والفنانة، فتختزلها في حركات سريعة، وألوان عفوية، وزاوية عبقرية، لتوثقها وتسجلها على ورق الرسم، أو غلاف كتاب، أو بطاقة بريدية، أو حتى - وهو الأعم - كراس يوميات. إنهم رسامو اللحظات الهاربة، يقتنصون أزمانا لا تعود.
الرسم الأولي، أو الاسكتش، هو ما يعمد إليه الفنانون لكي ينقلوا عبره انطباعاتٍ أولية. الرسام ديفيد روبرتس الذي جاء مصر، ووصل إلى النوبة، وعبر صحراء سيناء، وزار الأماكن المقدسة، ووقف على عتبات الشام، لم يرسم تلك الأعمال الملونة في الصحراء، بل أخذ منها لحظات ما، وحين عاد إلى «الأستوديو» الخاص به، نقلها إلى أعماله، التي بات العالم يعرف بها شرقنا العربي. لكن الفنانين الذين أنقل إليكم تجاربهم، جعلوا «الأستوديو» في الشارع، أنجزوا المهمة في موازاة اللحظة الهاربة، وهم مستعدون لهذه المهمة تمامًا، بقلم رسم يملأ بحبر صيني، أو ريشة من شعر ذيل حصان، أو علب ألوان مائية، أو حتى بأقلام الرصاص.
أمم من قوس قزح
بقميص أخضر فوق ملابس قطنية خفيفة، تتابع كاثي كاتلاند مشاهد اعتيادية في مدينة جوبرج (جوهانسبرج، جنوب إفريقيا)، تفضل رسم الأشخاص في حياتهم اليومية، عوضا عن رسم المباني والحيوانات والطبيعة، ذلك الصخب والزخم في الشوارع الجانبية حيث يسعى الناس إلى كسب قوت حياتهم اليومية، لكنها تعترف بأن الرسوم الآنية قد ترسمها وهي تراقب من نافذة السيارة مشهدًا ما، تضع الخطوط والظلال، ثم تضيف الألوان لاحقًا.
ولا تنس هوايتها أيضا حين تجلس لتناول فنجان قهوة، في متجر راق، فتأخذ المنديل الورقي لترسم ما يكمل مشهد (أمة قوس قزح) اللقب الذي يصف جمهورية جنوب إفريقيا.
وقد لا تنطبق «القوس قزحية» على جنوب إفريقيا وحدها، وهو ما نراه في عوالم الشرق الكوزموبوليتاني. سننطلق من أقصى جنوب القارة السمراء إلى العاصمة الكورية الجنوبية، سيئول، مع (بيونج هوا يو) التي بدأت الرسم في سن الخامسة عشر، أي منذ 45 سنة، ولم تكن تملك أي تدريب في مجال الفن، فاستعانت بالكتب، حتى تخطت اختبار وزارة التربية والتعليم والتنمية وحازت على مؤهل فني تفخر به، ولكن ابنتها تدرس الفنون الجميلة في ألمانيا. تبحث بيونج في الكواليس، وترسم ما تراه بالعين المجردة، فلا تستخدم الصور، لترجمة انطباعاتها حية على الورق. تجذبها اللقاءات الحية مع البشر، وتساعدها ملاحظاتهم على أعمالها، وهي تدعو للحذر من عوامل الضوء والحرارة والظل، وتؤكد أن الرسم البسيط من دون حامل اللوحة الاعتيادي يمنح فرصة التحرك بسهولة، وهي تشبه رسامي الاسكتشات في المناطق الحضرية المزدحمة بصيادي الجاكوار في الأدغال. تختار بيونج رسم الأسواق والحدائق والكنائس ومترو الأنفاق، ولا تمانع أن يطلع الجمهور على كراسات أعمالها.
غير بعيد عن سيئول، وفي العاصمة الصينية بكين، نلتقي مع تيو تشانج هو، الذي بدأ الاهتمام برسم الاسكتشات قبل 30 سنة، رغم أن وجهه لا يظهر سنه. آنذاك كان تيو في سنغافورة، بمدرسة طبية عسكرية، حيث يتم تدريب فريق طبي كل ثلاثة أشهر، وهي مهمة أتاحت له وقتا كبيرا، فأصبحت الرسوم بالنسبة إليه مثل كتابة اليوميات، وهو ما قاده إلى دراسة التصميمات، ويشارك لاحقا في مشروعات الترميم والتجميل، وهو يتنقل بين عاصمة بلاده وهونج كونج، وهنا وهناك يسعى لاستكشاف الأماكن الأقل شعبية، ويزور أثناء عطلات نهاية الأسبوع الشوارع القديمة والمنازل والمحلات التجارية والأسواق، وأحيانًا إلى الريف، مع زوجته التي دخلت لعبة الاسكتشات، بل ويسافر إلى الجزر النائية، حيث لاتزال في هونج كونج منازل الشاي القديمة، وربما محل حلاقة! يرسم تيو الأماكن قبل أن يتم هدمها لتفسح المجال لمجمعات سكنية وتجارية جديدة ومكلفة، وكم يتمنى لو اتخذت هونج كونج نموذج سنغافورة بتحويل المباني التاريخية القديمة إلى مراكز للتسوق وفنادق ومطاعم فاخرة.
مُحبة روما.. وعاشق قرطبة
الإيطالية بينديتّا دوسِّي، (اسم بينديتا يعني مبروكة باللغة العربية!)، تحب أن تلفت الانتباه إلى موضوعها، تعبر عن نفسها بخطوط قوية وألوان سريعة، سواء كانت ترسم البشر أم الحجر، الأثاث أو السيارات، فهي تقضي ساعة كاملة قبل أن تصل إلى مقر عملها، تنظر من نافذة الحافلة لترى كيف يركض الجميع، وبعضهم يقرأ، أو يتنزه مع حيوانه الأليف، يضحكون ويتبادلون الحديث. وهي عين ناظرة لذلك كله، تنقله إلى أوراقها، وفي عطلة نهاية الأسبوع تتجول في روما، فترسم الجسور والساحات والآثار والجدران، وهي تحلم بالسفر واحتضان الثقافات الأخرى والقبض على لحظاتها الهاربة في دفاترها الملونة، إن سعادتها الوحيدة في رسم ذلك كله.
من إيطاليا، إلى أسبانيا، ومن روما إلى قرطبة، ومن ذَهبَ إلى تلك المدينة ولم تأسره عمارة مسجدها الشهير، فكأنه لم يزرها. في زاوية ترى المئذنة الخالدة والجدار العملاق يرسم ألفارو جارنسيرو الأثر العابر للثقافات، يحاول أن يبحث عن فهم أفضل لواقع المشهد أو الكائن، وهو مثلما يجد متعته في نشاط اجتماعي أو محادثة ووجبة طعام، تمنحه الرسوم متعة، وهو يريد أن يرسم مدينته في خطوط بسيطة، يفك رموزها المعقدة، والمباني هي الأيسر لأنه مهندس معماري، لكنه يحاول أن يلفت النظر إلى المدن بواسطة الرسم الذي يعده وسيلة لفهم أفضل للمدينة، وقد يكون أصدق من الصور التذكارية.
في عاصمة الثقافة الأوربية، برلين، تبدو العاطفة جياشة لدى رولف شروتر، وهو الذي انتقل إليها بعد حصوله على درجة الهندسة المعمارية قبل أكثر من عشر سنوات، الرسم كان متعته قبل مولد الأطفال، فالوقت لم يعد متاحًا، لكن الأطفال كبروا، فأعاد رولف اكتشاف نفسه واكتشاف الاسكتش - الرسم السريع -الذي أعاده إلى هوايته، وأعاده إلى إعادة رسم علاقته مع مدينته، لذا يحمل دائما كراسته وقلمه معه، ليستخدمهما في كل مناسبة. العفوية سر رسومه.
يمكننا أن نتابع عشراتٍ مثل رولف شروتر، وألفارو جارنسيرو، وبينديتّا دوسِّي وتيو تشانج هو وبيونج هوا يو وكاثي كاتلاند؛ أجناس كثيرة، وأعمار متفاوتة، وتقنيات متباينة، وموضوعات مختلفة، وبلدان في كل ركن قصي. قراء «العربي» - مثالا - يشاهدون شهريًا أعمال المبدع اللبناني أمين الباشا، وهو يرسم بيروت وأسفاره، كواحد من أهم رسامي اللحظات الهاربة في منطقتنا العربية، ولاشك أن غيره فنانين كثر، على الدرب.
الجميل أن فناني العالم بدأوا يتبادلون رسومهم، وأعمالهم، وطوبى للإنترنت، ومواقع إلكترونية كثيرة تجمعهم, مثل
www.urbansketchers.com
تستطيع أن تتجول عبر صفحاتها، فتحلم مع رسامي اللحظات الهاربة، الذين يجتمعون حيًنا، ويتفرقون أحيانًا، ولكن تبقى أعمالهم تقتفي آثارهم اللونية. وسأترككم مع الصفحات تتحدث عنهم، وهي تحمل لحظاتهم الهاربة، وهي تقاوم الزمن، بعد أن سكنت خطوطها وأحبارها وألوانها ذاكرة الورق ومخيلة الفن.