قصة: جونتر جراس
تتبعني إريش. وأنا كذلك لم أصرف نظري عنه. كلانا أمسك السلاح بيده، عازمين على استخدامه، وإصابة أحدنا الآخر. سلاحنا مشحون. اختبرناه عبر تمارين طويلة. وحالاً بعد هذه التمارين كنا نمسك المسدسات النظيفة بعناية، وراح هذا المعدن البارد يسخن ببطء. ومع مرور الزمن بدت مثل هذه المسدسات غير خطرة.
أليس بمقدور المرء أن يمسك هكذا قلم حبرٍ أو مفتاحا مهما، وأن يهدئ روع عمة مرعوبة ترتدي قفازات جلدية مزخرفة سوداء؟
لا يجوز أبداً أن تنضج الفكرة بداخلي، قد يكون سلاح إريش أعمى، غير خطر ولعبة.
وأعرف أيضاً، أن إريش لم يُشكك لحظة بجدية سلاحي. علاوة على ذلك قمنا قبل حوالي نصف ساعة بفك وتنظيف وإعادة تركيب مسدساتنا، حشوناها وجهزناها للإطلاق.
لسنا بحالمين. حددنا بيت إريش الصغير المخصص لنهاية الأسبوع لعملنا الذي لا مفر منه.
ونظراً لبعد البناية المكونة من طابق واحد أكثر من مسير ساعة عن أقرب محطة قطار، جاز لنا أن نفترض، ابتعاد أي أذن غير مرغوب فيها عن مكان الخطر، ولهذا القول أهمية حقيقية.
قمنا بتفريغ غرفة السكن وأنزلنا الصور عن الحيطان، التي في أغلبها كانت مناظر صيد وتعكس أسلوب الحياة البرية.
من المؤكد أن الطلقات لن تستهدف المقاعد، الكومودينا اللامعة واللوحات باذخة الأطر، كما لم نرد كذلك إصابة المرآة أو خدش البورسلين. فقط كنا نقصد بعضنا بعضاً.
كلانا أعسر. نعرف بعضنا من الجمعية. وكما تعرفون، أن العسر في هذه المدينة ـ كالآخرين، الذين تجمعهم إعاقة واحدة ـ كانوا قد أسسوا جمعية. ونحن نلتقي بانتظام، ونحاول أن نعلم بعضنا بعضا مثل القبضة غير الحاذقة.
ولمدة طويلة أعطانا أيمن طيب دورسا. إلا أنه مع الأسف توقف الآن عن المجيء.
فالسادة في الإدارة كانوا ينتقدون أساليب تعليمه ويرون أن على أعضاء الجمعية الاعتماد على قواهم الخاصة عند تغير استعمالهم لأيديهم.
هكذا ارتبطنا معا واضطررنا إلى اختراع ألعاب شعبية خاصة بنا يصاحبها اختبارات مهارة مثل: يميناً أدخل الخيط في الإبرة، صُب في، افتح وزرر.
كما تنص لوائحنا الداخلية: أننا لا نريد أن نستريح حتى تكون اليمنى كاليسرى.
بقدر ما تكون هذه الجملة رائعة وقوية، فهي هراء خالص. وسوف لن نحقق مضمونها أبداً. وقد طالب الجناح المتطرف في جمعيتنا، ومنذ فترة طويلة، بحذف هذه العبارة وكتابة ( علينا أن نفخر بيدنا اليسرى، وألا نخجل بقبضتنا التي فطرنا عليها) بدلا منها .
حتى هذا الشعار تجافيه الحقيقة. فقط لهجته المنبرية، كنوع من الإحساس بالأريحية، هو ما يجعلنا نختار هذه الكلمات.
إريش وأنا المحسوبان على الجناح المتطرف، نعرف جيداً، كم هو متأصل خجلنا.
ولم يساعدنا بيت الأهل، أو المدرسة وفي وقت متأخر العسكرية على تعلم موقف، لنتحمل هذا الشذوذ التافه ـ تفاهة المقارنة مع الآخرين، والشذوذ واسع الانتشار ـ وهذا بدأ بوضع الأيدي الصغيرة البريئة في أيديهم.
على الجميع أن يعطي يده: لا، ليست الأيدي الصغيرة الشقية، الأيدي الصغيرة الطيبة. يقيناً ستقدم اليد الصغيرة المستقيمة، الطيبة، الذكية، الماهرة، الحقيقية الوحيدة، اليد الصغيرة اليمنى!
حينما لمست فتاة للمرة الأولى كنت في سن السادسة عشرة: آه، إنك أعسر!
قالت بخيبة أمل وهي تسحب يدي من تحت البلوزة.
مثل هذه الذكريات تبقى، ولو أردنا كتابة هذه العبارة في دفترنا ـ ألفه إريش وأنا ـ إذن لكان علينا بالتأكيد تجريب إطلاق اسم أحد المثل العليا التي لا يمكن تحقيقها.
يشبه إريش الآن ممثلاً، ألفت ملامحه لكثرة مناظر مغامراته.
أيجوز لي أن أفترض، بأنه لازمني هذا التشابه الحيوي لبطل الشاشة ذات الدور المزدوج؟
بمقدورنا أن نبدو عابسين، وأنا حسن الحال، أن أحداً لا يلاحظنا.
لقد سبقني إريش في الانتماء إلى الجمعية منذ فترة طويلة، أتذكر ذلك اليوم جيداً، حينما دلفت إلى المقهى المألوف للمتعصبين، خجلاً وأنا ارتدي ملابس مهيبة، قابلني إريش، وهو يشير لهذا المضطرب، الذكي، إلى الشماعة، وكان يتمعنني دون فضول مزعج، من ثم قال: (إنك تقصدنا بالتأكيد. لا تكن خجولاً البتة، نحن هنا ليساعد كل منا الآخر).
لقد قلت منذ لحظة (المتعصبون). هكذا كنا نسمي أنفسنا رسمياً.
ويبدو لي إطلاق هذه التسميات كجزء أساسي من اللوائح والإخفاق. فلا يعبر الاسم بوضوح كافٍ، عما يربطنا أو ما ينبغي أن يشد أزرنا حقيقة. يقينا كان من الأفضل لنا أن نسمى، وباختصار، اليساريون) أو أكثر رنيناً، (الإخوة اليساريون).
سوف تحدسون، لماذا كان علينا التنازل، لنقبل التسجيل تحت هذا العنوان. لاشيء أكثر خطأ وإهانة من أن نقارن أنفسنا مع أولئك، عاثري الحظ بالتأكيد، الذين ضنت عليهم الطبيعة بفرصتهم الوحيدة، التي تؤهلهم إنسانياً للإيفاء بمتطلبات الحب.
على العكس من ذلك تماماً نحن مجتمع متعدد، ويجوز لي القول، إن نساءنا يضارعن بعض الأيامن من حيث الجمال والفتنة والسلوك الطيب، نعم، على المرء أن يعقد مقارنة بتأن، فقد يُسفر ذلك عن وصف لأوضاع اجتماعية، كالتي دعت القس لحمل هم طائفته، من أجل سلام نفسها، وأن ينادي من على المنبر:
(آه، أتمنى لو تكونوا جميعاً عسرا).
هذا الاسم الخطير للجمعية. حتى رئيسنا الأول، الذي هو إلى حد ما بمثابة مفكر أبوي، لكنه مع الأسف موظف كبير موجه في إدارة البلدية، مكتب السجل العقاري، كان عليه بين فينة وأخرى أن يقر، بأننا لا نستحسن أن ينقصنا اليسار، وألا نكون متعصبين، أو لا نتحيز فكراً وشعوراً وتعاملاً.
ومن المؤكد أن كان للتفكير السياسي مشاركة، حينما رفضنا الاقتراحات الأفضل وأطلقنا على أنفسنا أسماء لا يجوز لنا في حقيقة الأمر تسميتها البتة.
وبعدما جنح أعضاء البرلمان من الوسط إلى هذا الجانب أو ذاك، ووضعت مقاعد البيوت هكذا، بحيث يبوح ترتيبها لوحده بالحالة السياسية لوطننا، إذ صار تقليدا أن ترد كلمة يسار أكثر من مرة في الرسائل والخطابات، وأن يختلق التطرف الخطر.
والآن، قد يلزم الصمت هنا، ليت جمعية مدينتنا بقيت دون طموحات سياسية وعاشت فقط على المساعدات المتبادلة وحفلات السمر، فهي في كل الأحوال جمعيتنا.
والآن ولدحض أي شبهة شذوذ أخلاقي هنا، وحتى نقطع رأس الحية للأبد، يجب التطرق باقتضاب، إلى أنني عثرت على خطيبتي من بين الفتيات في مجموعتنا الشبابية. ونريد الزواج، حالما يشغر سكن لنا.
ستختفي ذات يوم تلك السحابة، التي كدرت فؤادي عند لقائي الأول مع أنثى، وسأكون مديناً لمونيكا بهذا الجميل.
ليس على حُبنا فقط إنهاء المشاكل الشهيرة، الموصوفة كثيرا في الكتب، كان علينا أيضاً أن نبدأ من آلامنا اليدوية ونسمو بها، كي نقدر الوصول إلى سعادتنا.
بعدما حاولنا في ارتباكنا الأول، الممكن فهمه، أن نكون أيامن طيبين لبعضنا بعضاً، كان علينا أن نلاحظ، كم هو عديم الإحساس هذا الجانب الأصم لدينا، فنربت عليه بحذق فقط، وهذا يعني، أن الله هو خالقنا.
لم أكن أبوح بالكثير، وآمل أيضاً، ألا أكون متحفظاً، حينما أشير هنا، إلى أن يد مونيكا كانت دوماً وبشكل متكرر تمنحني قوة التحمل والوفاء بالعهد.
وحالاً بعد زيارتنا الأولى للسينما كان عليّ أن أؤكد لها، أنني سوف أصون عفافها، حتى نلبس الخواتم في أصابعنا اليمنى مثبتا هنا مع الأسف الإذعان للفطرة وعدم اللباقة للسلوك.
في هذه الأثناء صار هذا الرمز الذهبي للرابطة الزوجية يلبس في اليسار في البلدان الجنوبية والكاثوليكية، كما هو أيضاً في تلك المناطق المشمسة، حيث يحكم القلب أكثر من العقل الصارم.
من أجل التمرد ربما على نمط الفتيات، وبغية البرهان، بأي شكل واضح يمكن للسيدات أن يحاججن، إذا ما بدت مصالحهن مهددة، قامت السيدات الشابات لجمعيتنا وبعمل ليلي نشط بتطريز نقش رايتنا الخضراء: (يسارا يخفق القلب).
تبادلنا هذه ـ اللحظة مونيكا وأنا الخواتم ـ وكثيرا ما تحدثنا، ولكننا نصل دوماً إلى ذات النتيجة: لم يكن بوسعنا أن نكون خطيبين على ملأ من عالم جاهل، وليس بالنادر خبيث، إذ كنا لفترة طويلة زوجين جريئين، وتقاسمنا الصغيرة والكبيرة.
وغالباً ما بكت مونيكا بسبب قصة الخاتم هذه. وكم أحببنا أن نفرح أيضاً في يومنا هذا، إلا أنه لابد من سحابة حزن خفيفة ستكلل والموائد العامرة بما لذ وطاب والاحتفالات الباذخة.
يظهر إريش الآن وجهه الأليف الطيب. وأنا أذعنت كذلك. مع ذلك استشعرت لوقت ما تشنج عضلات الفك. زد على ذلك ارتجاف الأصداغ الدائم. كلا، بكل تأكيد ليس لدينا مثل هذه التقلصات.
تتلاقى نظراتنا بسكينة، ولهذا أيضا بشجاعة. إننا نحدد الهدف. كل منا يقصد يدا ما للآخر. أنا على ثقة تامة من أنني لن اخطئ، وبمقدوري كذلك الاعتماد على إريش.
تمرنا لمدة طويلة، كدنا أن نقضي كل دقيقة فراغ في حفرة حصى مهجورة على مشارف المدينة، حتى لا نخفق اليوم، حيث عزمنا على حسم الكثير.
إنكم ستصرخون، ستبلغ حد السادية، كلا، هذا تشويه للذات. صدقوني، أن كل هذه الحجج معروفة لدينا. لاشيء، ليس ثمة جريمة لا نلوم أنفسنا عليها.
ونحن لا نوجد للمرة الأولى في هذه الغرفة الخالية.
سبق أن رأينا أربع مرات مسلحين هكذا، وأربع مرات أنزلنا المسدسات قصداً ونحن مرعوبون.
اليوم فقط لدينا الوضوح. والحوادث الأخيرة من النوع الشخصي، وكذلك حياة الجمعية لها حق إلزامنا فعل ذلك.
بعد تردد طويل امتدت أيدينا الآن إلى السلاح ـ لدينا جمعية، ونريد أن نرتاب في الجناح المتطرف، وكم هو مؤسف ألا نقدر على المشاركة. ضميرنا يطالبنا بالابتعاد عن المألوف لدى زملاء الجمعية.
هل فرضت نفسها المذهبية هناك، واختلطت صفوف العقلاء مع المتحمسين وحتى المتعصبين. منهم من يتطلع بحماس نحو اليمين وآخرون يقسمون لليسار.
ما لا أريد أن أصدقه أبداً، هو ضجيج الشعارات السياسية من مائدة إلى أخرى، والاهتمام حد التقديس الكريه بالضربات المساميرية لدى العسر والمهمين، بحيث جعلت من اجتماع الرئاسة ما يشبه حفلة ماجنة، حتى أصبحوا بفعل الطرق العنيف في حالة من النشوة.
وإن لم يتحدث أحدهم بعلانية، وإن لم يخرجوا كما ترى مما هم فيه من رذيلة، إلا أن ذلك لا يمكن إنكاره، فالعلاقة الخاطئة، التي أعجز عن فهمها بين مثليي الجنس الواحد وجدت كذلك لدينا أتباعاً.
ومن أجل ذلك فإنني أتفوه بالأسوأ: إن علاقتي مع مونيكا تضررت أيضاً فهي غالبا ما تكون بصحبة صديقتها، تلك المخلوقة غير المستقرة والمضطربة. وكثيرا ما تتهمني بالتخاذل والافتقار إلى الشجاعة في قصة الخاتم . غير أنني أصدق، أن الثقة ذاتها مازالت بيننا، وأن مونيكا مازالت هي هي، تلك التي احتضنتها.
إريش وأنا حاولنا الآن التنفس بانتظام. وكلما كنا أكثر تجاوبا حتى في هذا صرنا أكثر يقينا، أن فعلنا سيوجهه شعور طيب.
لا تعتقدوا أنه قول مقدس، ذلك الذي نصح باقتلاع مسبب الإيذاء. على الأرجح أنها الرغبة العارمة المستمرة، الفوز بالصفاء، والاطلاع على حقيقة الأشياء، وكيف هي أوضاعي، وهل هذا المصير حتمي، أم أن الأمر في أيدينا، نتدخل ونوجه حياتنا في المسار الطبيعي؟ لا مزيد من المحظورات السخيفة، ضمائد أو ما شابه من الخدع.
نريد العفة باختيارنا الحر، ولا شيء إطلاقاً في عزلة عما هو عمومي، والبدء من جديد وامتلاك يد ماهرة.
يتوافق الآن نفسنا. ودون إعطاء أية إشارة أطلقنا النار في وقت واحد. أصاب إريش، وأنا كذلك لم أخيب له أملاً. وكل واحد منا قطع وتدا مهما، كما نص الاتفاق، بحيث لم نعد نقوى على حمل المسدسات فهوت إلى الأرض، وبهذا تكون أية رصاصة أخرى لا لزوم لها.
ضحكنا وبدأنا تجربتنا الكبرى، بوضع عصابة مؤقتة، وبشكل غير لبق، لأننا نعتمد فقط على اليد اليمنى.