يبدو أن الاستقلال له معان كثيرة، ففي عام 1973، وبعد ثورة النفط الأولى التي صاحبت حرب أكتوبر وارتفعت فيها الأسعار واسترد فيها المنتجون حرية قرار الأسعار وكمية الإنتاج. في ذلك الوقت رفعت الولايات المتحدة الأمريكية شعار "الاستقلال النفطي ".
كان المغزى واضحاً، وهو ألا تكون أمريكا - الدولة العظمى - تحت سيطرة دول صغر ذات إنتاج مهم لسلعة استراتيجية هي النفط.
وكانت الإجراءات لتحقيق هذا الاستقلال عاجلة ومتعددة، فإذا كان مجال الخطر هو استيراد النفط، فليقل الاستيراد وليزد الإنتاج المحلي (وهو ما ساعدت عليه الأسعار الجديدة التي جعلت استخراج النفط الأمريكي اقتصاديا). أيضاً، وإذا كانت مشكلة الاستيراد هي صعوبة التعامل مع المنطقة الساخنة، وهي المنطقة العربية، فلتتغير السياسات، وليقل الاعتماد على هذه المنطقة بتشجيع مناطق أخرى مثل كندا وبحر الشمال.
وضعت الولايات المتحدة برنامجها لتقليل الاعتماد على الواردات بشكل عام والواردات العربية بشكل خاص، ثم تحركت على جبهتين:
* جبهة البدائل لتستخدم طاقة بديلة للنفط.
* وجبهة الاستهلاك لتحد من استخدام الطاقة.
وفي المجال الأخير امتدت إجراءات الترشيد من بنزين السيارات، إلى الإنارة في الشوارع والمباني وأجهزة التكييف ودرجة ما تبعثه من سخونة أو برودة.
تحركت أمريكا على كل الجبهات، فماذا كان الموقف بعد عشرين عاما؟.. هل تحقق الاستقلال النفطي لهذه الدولة العظمى؟
اعتماد يتزايد
تقول آخر أرقام معهد البترول الأمريكي إن اعتماد الولايات المتحدة على استيراد النفط تزايد وليس العكس، في أكتوبر الماضي (1992)- على سبيل المثال- كانت واردات الولايات المتحدة من النفط الخام ومنتجاته (8.8) مليون برميل يومياً، وذلك مقابل (7.5) مليون برميل في الشهر نفسه من العام الأسبق (1991).
فإذا اخترنا فترة زمنية أطول هي (يناير- أغسطس 1992) وجدنا أن متوسط الاستيراد اليومي للولايات المتحدة يقترب من (8) ملايين برميل أي ما يعادل ثلث إنتاج دول الأوبك مجتمعة.
وتفاصيل الرقم تشير لدلالات مهمة:
الدلالة الأولى، تتصل بالموقع الذي يحتله اتحاد المنتجين (أوبك) حيث تصدر دولها (4) ملايين برميل يوميا للولايات المتحدة، أي ما يعادل (51.7) بالمائة من واردات أمريكا النفطية و (23.7) بالمائة من جملة الإمدادات للسوق الأمريكية.
الدلالة الثانية، هي ما تحتله دول الخليج من أهمية نسبية عالية تصل إلى (23.2) بالمائة من الواردات و (10.6) بالمائة من إمدادات السوق المحلية.
أما الدلالة الثالثة فتصل بدولة عربية واحدة هي المملكة السعودية التي تزود الولايات المتحدة ب (1.75) مليون برميل يوميا، أي أن هناك دولة عربية تزود السوق الأمريكية بـ (10.4) بالمائة من إمداداتها النفطية، وبما يقرب من ربع وارداتها في هذا المجال. وتلي السعودية بعد مسافة كبيرة فنزويلا وكندا حيث تصدر كل منهما للولايات المتحدة مليون برميل يوميا، ثم تأتي المكسيك (831) ألف برميل.
هذه الدلالات الثلاث تعني أن والولايات المتحدة قد فشلت فيما أسمته استقلالا نفطيا، وأن علاقة (الأوبك- أمريكا) لا بد أن تمثل خطا ساخنا في السياسة الأمريكية، وداخلها تأتي العلاقات مع المنطقة العربية، خاصة الخليج.
وقد يفسر ذلك الاهتمام الأمريكي بمنطقة الخليج، بل ويفسر المساندة الأمريكية لتحرير الكويت.
أيضا فإنه يفسر استمرار الاهتمام الأمريكي (سياسيا واقتصاديا وعسكريا) بمنطقة (الخليج - القرن الإفريقي).
ولكن.. ماذا عن فكرة الاستقلال؟
حقبتان.. ومفهومان
عندما طرحت الولايات المتحدة شعار الاستقلال النفطي عام 1973، لم يكن ذلك في مواجهة أخطار يمثلها منتجو النفط وحدهم، ولكن كان هناك اعتقاد أمريكي بأن الخليج هو الفناء الخلفي للاتحاد السوفييتي، وأنه عند نشوب أي أزمة عالمية كبرى سوف تكون الخطوة الأولى والسهلة للسوفييت هي القفز إلى منابع النفط، ليس لاستثمارها، بل لحجب إنتاجها عن الدول الغربية.
وسواء كان ذلك المفهوم صحيحا أم خاطئاً، وعما إذا كان السوفييت حينذاك قادرين على مثل هذه الخطوة. في كل الأحوال فإن لهذه الحقبة من الحرب الباردة بين المعسكرين طبيعتها التي تختلف عن حقبة التسعينيات.
الآن، تراجعت الحرب الباردة، اختفى المعسكر الشيوعي، ذابت كلمة السوفييت ولم تعد جمهوريات الكومنولث تنافس الولايات المتحدة عالميا، أو تناطح مصالحها في مناطق جغرافية متاخمة مثل الخليج.
والآن، يبدو سوق النفط - وعلى عكس السبعينيات - كأنه سوق المشترين، حيث الوفرة في العرض والانكماش في الطلب مما يعكس نفسه على مستويات الأسعار.
وفي الفترة الأخيرة، وفي ظل إرهاصات نظام دولي جديد، ترتفع كلمة التعاون بديلا للمجابهة، وكلمة الاعتماد المتبادل بديلا لكلمة الاستقلال.
بطبيعة الحال، لم تتنازل الدول عن مبدأ الاستقلال، لكن الكلمة أصبحت أكثر مرونة في ظل واقع جديد. والسؤال، ومع اعتماد أمريكي متزايد على النفط المستورد، وبما يمثل نصف استهلاكها: هل تتمسك أمريكا بمفهومها القديم للاستقلال النفطي، وحماية مصالحها بالبوارج والمدافع، أم أنها تدخل في علاقات جديدة مع دول النفط في ظل نظرية "الاعتماد المتبادل"؟
إجابة السؤال تحدد إلى حد كبير طبيعة العلاقات مع الولايات المتحدة عربيا بشكل عام، وخليجيا بشكل خاص.. و.. من هنا نبدأ.