قصة بقلم : نادين جورديمر
عندما تعيش في مدينة صغيرة بعيدا عن العالم الذي تقرأ عنه في مكتبة البلدية، فإن مجيء رجال الإصلاح والترميم إلى المنزل يكون عيدا، وتتفجر الحياة اليومية بالبهجة والمرح، ويسود الارتجال، وتتحول حجرة الجلوس إلى حجرة نوم، إذ تحول رائحة الطلاء المنبعثة من حجرة النوم دون الانتفاع بها، ولدى تكويم الأثاث في منتصف الحجرة تنكشف ظهور الأشياء التي كانت محجوبة عن الأنظار، وقد علقت بها شظايا خشب صغيرة اكتست بخيوط عنكبوت أثقلها الغبار، وتصبح الوجبات سهلة وخفيفة، ويضرب صفحا عن سلوكيات المائدة إلى حين، إذ تتغافل الأم عن أول مبدأ من مبادئها وهو أن تدعو أطفالها للجلوس إلى المائدة، ويعتذر لك أفراد الأسرة عن غرابة ملبسهم، لأن الواحد منهم لا يجد أي شيء في موضعه.
والطبيب كذلك رجل إصلاح حينما يتوقع تغيير أغطية فراش المريض، وإقصاء الكلب عن سريره، وإذا ما مرضت طفلة فهي غير مجبرة على الذهاب إلى المدرسة، وتعد في إجازة وفوق ذلك تحصل على هدايا (لفة كاملة من القصص الهزلية مربوطة بخيط متعهد توزيع الجرائد والمجلات وأقلام وأوراق لعب)، وإذ تكون الأم بمفردها في المنزل (فيما عدا المريضة الملازمة للفراش في حجرة التمريض والقريبة من سمعها)، ويكون باقي الأطفال في المدرسة، والزوج بعيدا في عمله، تخلع هي مريلتها، وتمشط شعرها، وتضع قليلا من أحمر الشفاه لكي تبدو لائقة المظهر في عين الطبيب، كما تعد صينية الشاي لاثنين سوف يختلي كل منهما بالآخر تماما في حجرة جلوس منعزلة، كمن تنتظر عاشقا سيزورها سرا في الصباح مع أنه لا وجود له ألبتة، وبعد أن تقف هي والطبيب معا (الذي يشم منها رائحة رقيقة عذبة مسكرة إذ يكون خارجا منذ قليل من غرفة العمليات) ويتطلعا إلى المريضة، ويتبادلا بعض الملاحظات المرحة يسره أن يلبي دعوتها له إلى كوب من الشاي في جولته الصباحية الحافلة بالزيارات، وكان صوتاهما يأتيان المريضة من وراء باب حجرة الجلوس همسا تارة، وقد يرتفعان بالضحك تارة أخرى.
ومع وصول السمكري والدهان والطبيب إلى المنزل يحدث شيء ما لا يتصور أن يحدث في مكان آخر، وهو منزل مكون من طابق واحد وذو واجهة مؤلفة من مشربيتين تقعان على كلا جانبي مدخل الباب الأمامي في أحد شوارع مدينة لتعدين الذهب بجنوب إفريقيا قوامها خمسة وعشرون ألف نسمة في الثلاثينيات من القرن العشرين. فيما مضى كان البيانو ال (ستنواي) قائما بمفرده على الألواح الخشبية القليلة الباقية من أرضية الحجرة التي انتزعت ألواحها. اندفعت داخلة بقوة أجري لكي أقف على الوقت في الساعة ذات الرنين الموسيقي الموضوعة على الرف، بيد أني طرت في الهواء، ووجدت نفسي ملقاة على الأرض، وقد تلقيت صدمة عنيفة، وشممت رائحة ما شممتها من قبل تنبعث من الأرض: كانت رائحة التربة المطمورة تحت منزلنا. كنت في التاسعة من عمري وكانت السقطة لا تسبب لي كسرا في العظام، والرجة تجعلني أصحو وأنتبه، وكان التفكير في ذلك الشق ذي التجويف المظلم الغائر في التربة تحت سجادتنا ال (أكسمنستر) يستثيرني دائما ويهز مشاعري.
لم يكن الأمر متعلقا - هذه المرة - بالدهانين، وإنما كان متعلقا بالسيد "ستريدوم" وأولاده، الذي اعتادت أمي أن تثير معه مشاجرة كل بضع سنين "لست كأحد من النساء الأخريات، وليس زوجي كأحد من أزواجهن، المنزل حاله سيئة، وأنت لن تحرك ساكنا إلا إذا رأيته ينهار، لقد بلغ بك الشح حد عدم دفع ثمن نزر يسير من الطلاء، وحتى لو فعلت فإنك تود لو يدوم الطلاء عشر سنوات، أنا ليس في حوزتي منزل كمنازل الأخريات". لقد عاملنا العمال معاملة الضيوف رغم أننا لا نستقبل ضيفا واحدا في بيتنا، فصديقات أمي هن جاراتها، وليس لأبي أحد من الأصدقاء، كما أن أمي على أي حال لم تدع في بيتنا مكانا شاغرا لسرير إضافي، لأنها لم تكن ترغب في مجيء أقاربه إلينا. لقد كانت أمي تقدم للسيد "ستريدوم" الشاي الثقيل المحلى بالسكر الذي يروق له أن يحتسيه عدة مرات في اليوم بينما تقف هي إلى جواره تحادثه دون كلفة، وأنا أتابع ما يبديه من مهارات، وكنت مفتونة به خصوصا عندما يقوم بعمل ما يسميه بإنجليزيته الأفريكانية "جر الخط "، فقد كانت براعته اليدوية تساعده على أن يصنع شريطا أسود رفيعا يفصل الجزء السفلي من ممر منزلنا (المدهون باللون الأسود حماية له من الاتساخ الناجم عن بصمات الأصابع) عن جزئه العلوي المدهون باللون الأصفر الفاتح، "ثانية واحدة ريثما أفرغ أولا من جر الخط"، ثم يجرع كوبه بأكمله حتى لقد كانت أوراق الشاي تدوم في الكوب وتلتصق بجوانبه، وكان هذا التلهف الشديد بالنسبة لي عادة غريبة وسمة تميز الأفريكانيين عن الإنجليز الذين نحن منهم.
وقد ساءت حالة بيتنا في هذه المرة على نحو لم يسبق له مثيل، ولم يكن الرجال الذين دخلوه هذه المرة هم رجال إصلاح وترميم، بل كانوا رجالا قد أرسلوا للقضاء على ما نسميه نحن بالنمل الأبيض، النمل الذي دأب على التهام منزلنا من تحت أقدامنا، مليون فك منه راحت تلتهم ليل نهار باستمرار الخشب الذي تقوم عليه عاداتنا اليومية الثابتة.
وقد ظلت أمي لسنوات بكفاءة واقتدار تنحي جانبا بقدمها التراب ذا الحبيبات الناعمة البديعة الذي كان النمل الأسود العادي يكومه في حديقة منزلنا على هيئة مخروط تام كذاك الذي يتخذ من الرمل، ويتسرب الماء من خلاله في الساعة الرملية. ولما لم يعر أبي الأمر التفاتا، فقد صبت أمى هي نفسها على حفر النمل مبيدا له رائحة القار، وأفرغت فيها غلايات من الماء المغلي مما جعل الأرض تتشقق عن كائنات ذات رؤوس دبوسية براقة وهي تناضل وتتخبط من برحاء الألم. وعلاوة على ذلك (وتلك حادثة أخرى) كنا نندفع في بعض أمسيات الصيف إلى الحديقة عقب نزول المطر لتنهال على رؤوسنا ملايين الأجنحة الشفافة المتساقطة كالثلوج المدارية لما نسميه نحن بالنمل الطائر الذي ظهر من مكان لا ندري عنه شيئا، وكنا نشاهد بعض الوقت الضفادع الجسورة الممتلئة بالشراهة والجشع، وهي تثب داخل (الفراندة) لكي تملأ حلوقها المنتفخة بتلك الحشرات التي يبدو أنه لا ضرر منها في الظاهر، وكنا نشاهد كذلك قطتنا وهي تلتهم إياها باستمرار، وتنحي عنها بمزيد من التحكم والسيطرة على نفسها وبهزة من شواربها أي جناح مكسور تكون قد التقطته بطريق الخطأ، ولم يجل بخاطرنا أن تلك الكائنات كانت تؤدي طقوس الزفاف، وهي تنزع عنها أجنحتها الأربعة الرقيقة الشبيهة بأجنحة الفراش، وقد بدا بعضها يناضل مثلما يفعل الناس وهم يخلعون معاطفهم، ثم وهي تستحيل كائنات أرضية ذات لون أسمر فاتح، وقد راح بعضها يرقع أجزاءه الخلفية بشيء من البلاهة، كما لو كان يدفع الأذى عن نفسه، ولم يجل بخاطرنا كذلك أن هذه الطقوس ستنتهي في ليلة أو ليلتين من ليالي الصيف بتخصيب واحدة من بين تلك الملايين، وأن هذه الواحدة سوف تتخذ لها طريقا تحت منزلنا لكي تصبح ملكة لمستعمرة بأكملها تتكاثر بواسطتها هي نفسها، وتواصل هذا التكاثر اللانهائي حتى يتم العثور عليها وقتلها.
لقد أرسل الرجال للبحث عن الملكة، فما من شيء استطاع أن يقضي على النمل الأبيض: لا السموم ذات الرائحة الكريهة، ولا الكشف عن أنفاقه التى قرأت أنه يشيدها بمهارة تفوق تلك التي شيدت بها أنفاق المترو في لندن وباريس ونيويورك، ولا إطلاق الدخان على جحوره مثلما يفعل بالنسبة للصراصير أو الخلد أو الخنافس الثاقبة للخشب، وليس المهم كم ألفا قد قتلت أمي منه في خلال سلسلة الكشوف التي ترتبت على قيامها بنزع خشب أرضية المنزل، وأدت إلى تدمير الممرات الهشة التي يشيدها من حبيبات التربة وبحكم لصق بعضها بواسطة مادة يفرزها يحملها في أجسامه، كما أدت إلى تدفق شاغلي تلك الممرات على هيئة صديد من قطيرات بيضاء متحركة ذات رؤوس صفراء، وليس المهم كم ألفا من النمل الأبيض قد ألقت بها أمي إلى الموت وجعلتها تعاني سكراته برذاذ "الفلت"، فالنمل الأبيض يستعيض ما فقده في الحال بالتكاثر من جديد، مادامت الملكة باقية على قيد الحياة، ومختبئة في غرفتها الداخلية، حيث يحيط بها رعاياها - الذين هم نسلها كذلك - ويقومون على حراستها ورعايتها، وكان رجال الإبادة الثلاثة واحدا أبيض واثنين من السود، وقد علق التراب الأحمر المستخرج من باطن الأرض بملابسهم جميعا وبشراتهم وشعورهم، وبدت عيونهم محمرة وملتهبة، وأظافرهم في مجملها حمراء، وآذانهم مكسوة بالقشر، وكانت الشعيرات الطويلة في منخري الرجل الأبيض مغطاة باللون الأحمر مثلما تبدو ساقا النحلة صفراوين بفعل حبوب اللقاح، فلقد كانوا لدى ظهورهم كالخارجين لتوهم من باطن التربة اللزجة القائمة تحت المباني وهم على أهبة الاستعداد للبحث عن الملكة دون كلل أو ملل، لميلهم إلى سفك الدماء بحكي الحياة الطويلة التي قضوها في البحث والتنقيب عن آثار القرون الوسطى.
إن أمي شكاكة فيما يتعلق بقدرات (عياف الماء) على التكهن بوجوده تحت الأرض بواسطة أغصان الشجر الملتوية، أو بقدرات من يزعمون الاتصال بالموتى ليتهجوا لهم الرسائل عن طريق تحريك إناء من الزجاج ناحية حروف الهجاء. ولكن ما الذي كان في استطاعتها أن تفعله غير ذلك؟ لقد فوض أبي الأمر إليها، وتحملت هي مسئوليته. لم تكن أمي راضية عن هيئة أولئك الرجال، إذ كانوا بالغي القذارة، وقد بدت أيديهم أشبه بالجذور العارية، وهي تمتد لتناول الشاي الذي احضرته لهم، وقد قدمت أمي كذلك كوزا من الصفيح للرجل الأبيض، وهي التي أصرت على أن يترك أولئك العمال بضعة ألواح خشب سليمة دون أن تمس تحت البيانو، إذ كانت تدرك جيدا دون حاجة إلى التأكد من مدى صدق قولهم أنه يستحيل تحريكه من موضعه دون الإضرار بصندوقه المصنوع من خشب الورد. ولم يتبادل أولئك الرجال حديثا في أثناء مشاهدة الأطفال لهم وهم يعملون، وتوقف صوت المعول بسبب كثافة التربة الموجودة تحت حجرة الجلوس، وتوقف لهاث الرجل الأسود الذي كان يسيطر عليه سيطرة تامة كلما انتزعه من التربة أو غرسه فيها من جديد، وكمم الصمت أفواهنا، ولم نشأ أن نذهب بعيدا، وقضينا كل وقت فراغنا في المشاهدة والترقب ببلاهة، وبالرغم من اليقظة التي أبديناها فإننا لم نكن هناك عندما تم العثور على الملكة. انهمكت أمي في خلط مواد كعكة، وقد شدتنا إليها مقدرتها السحرية على تحويل الخليط إلى شيء جديد مغاير غير مقصور على البيض المخفوق والزبد والسكر، كما شدتنا لمسات أصابعها الدقيقة الخفيفة السريعة التي تمنح الفم مذاقا حلوا قشديا معطرا، وإن الفم ليعرف مقدما بأن المتعة التامة لا تأتي من خلال رائحة الفانليا المنبعثة من الإناء فحسب، بل تأتي كذلك من ملابس أمي وشعرها وبشرتها إذ تنبعث منها الرائحة نفسها. وإذا بكلبنا يكشر عن أنيابه، ويتحفز للهجوم من خلال ستارة الباب مثلما يفعل كلما اقترب إنسان غريب، فرفعنا أبصارنا، فرأينا الرجال الثلاثة وقد نكصوا على أعقابهم،. وأشار الرجل الأبيض بيده المحمرة إلى أحد الرجلين الأسودين منتهرا إياه، فتقدم هذا في تثاقل وبطء، ومعه صندوق حذاء طفل مصنوع من الورق المقوى وعرضه على أنظارنا، وكان غطاؤه موضوعا عليه، وقد تخللته هنا وهناك ثقوب غير منتظمة للتهوية مثل تلك التي توجد في الصناديق التي نحتفظ فيها بدود القز حتى تلقي بها أمي بعيدا، إذ تظن أن رائحتها قد أصبحت عفنة للغاية، وأشار الرجل الأبيض بيده ثانية، وبدت للحظة اليدان، يده ويد أمي على ذات النسق: يده مغطاة بالتراب ويدها مغطاة بالدقيق، ورفع الرجل الأسود الغطاء، وكانت هي الملكة بالداخل، واستشعر أصغر الأطفال سنا غصة في حلقه كما لو كان سيتقيأ، وجرى بعيدا إلى الركن البعيد للمطبخ، واحتشد باقي الأطفال عن كثب، ولكن أمي جعلتنا نفسح لها طريقا، لأنها لم تكن تقنع بالوعود البراقة بل بإنجازها كاملة حفاظا على نقود أبي، ورحنا جميعا نحملق في ذلك الكائن الأبيض السمين القابع في ركن من الصندوق بلا حول ولا قوة، والذي يبلغ من الطول خمس بوصات ويحمل رأسا لنملة متناهي الدقة ذا مقدم لامع، وكان الجسم عبارة عن كيس منتفخ متصل بذلك الرأس، وليس له أرجل يمكن رؤيتها، أو شيء منها يتيح له الانقباض والتمدد على نحو ما تفعل البزاقة أو الدودة، تلك كانت هي الملكة التي أزاح رجال الإبادة النقاب عن مملكتها في الأروقة والممرات الموجودة تحت منزلنا، والتي تصورنا أنها في مثل حجم الواحد منا.
قال الرجل الأبيض:
- هذه هي زوجتهم.
- أو متأكد أنت أنك قد وجدت الملكة؟.
فضحك الرجل بصوت مكتوم (ضحكة رجل خبير) من جهلها.
- أهي حية؟
ولكن الصمت الذي ران من جديد على الرجال ذوي العيون الحمر والملابس الملوثة بالتراب الأحمر جعلنا نبتعد، وما كانوا ليسمحوا لنا بأن نتجاسر على مد أيدينا لكي نلمس ذلك الجسم المنتفخ المقسم إلى مناطق مثل بعض البالونات التي تزين بها الحفلات، وكان ذلك ينطوي - من جانبنا - على إعجاب ملموس ونفور في الوقت ذاته، وخيل إلينا أن لو نقر أحدنا بإصبعه على جسم الملكة الأملس نقرا خفيفا فلربما نز مادة قشدية حلوة، والواقع أني وجدت كتابا في المكتبة اسمه (روح النمل الأبيض) ل "يوجين مارايس"، وهو أفريكاني كذاك الرجل الأبيض الذي عثر على غرفة الملكة السرية، وقد قرأت فيه أن رعايا الملكة الصغار يقومون بانتزاع الغذاء من جسمها الضخم، وذلك بالخبط عليه حتى تدر عليهم إكسيرها الشهي الدسم.
وحمل أصغر الأطفال نفسه على الاقتراب إلى الحد الذي يتيح له الرؤية من جديد، وتساءل قائلا باشمئزاز:
- إخ، لماذا هى سمينة هكذا؟
فرد الرجل الأبيض قائلا: - لأنها مليئة بالبيض، النمل الأبيض يضع ما يقرب من مليون بيضة في اليوم.
- أهي ميتة؟
ولكن الرجل ضحك فحسب، وها هو الآن قد انتهى من مهمته، ومثلما يفعل مساعد المخرج المسرحي في ختام إحدى المسرحيات أوصد الرجل الأسود غطاء الصندوق، ولا مناص من القول بأن الملكة لم تكن لتستطيع الحركة وهي محجوبة، وبأنها كانت أضعف من أن تتفادى النتائج المترتبة على ما لها من أهمية وخطورة شأن سواء كانت تحت الأرض، حيث هي أسيرة لرعاياها على نحو لا فكاك منه، إذ هم لا يستطيعون التكاثر أو العيش بدونها، أم كانت مأسورة في صندوق حذاء قد تتناسل فيه بعيدا. وقد دفعت أمي للرجال ما يستحقونه من أجر من مصروف البيت (ولكن كان يجب عليها أن تخبر أبي بذلك)، وقد سمروا هم ألواح أرضية حجرة الجلوس من جديد، ثم ذهبوا لحال سبيلهم ومعهم الصندوق الورقي وقد تناهى إلى سمع أمي أن المسألة كلها كانت خداعا ونصبا، وأن أولئك الرجال ينتقلون من بيت إلى بيت تاركينه نهبا للفوضى، وهم لا يفتأون يبرزون الملكة عينها المرة بعد المرة حاملين إياها معهم هنا وهناك. ومهما يكن من أمر فقد ترك النمل الأبيض منزلنا، ولم نضطر بعد ذلك قط إلى الالتجاء إلى أولئك العمال الخصوصيين، وقد فرشنا السجادة ال (الأكسمنستر) مرة أخرى، وأعدنا الأثاث إلى مواضعه، وصار لزاما علي أن أؤدي تمرين نصف الساعة اليومي على البيانو ال (ستنواي) الذي تحررت منه أسبوعا، وقد قرأت في كتاب استعرته من المكتبة أن الملكة عندما تموت أو يتم إخراجها بعيدا، فإن جميع النمل الأبيض يترك أماكنه، ويتخلى عن العش وما يتصل به من حدائق فطر يخصصها لطعامه، كما يتخلى عن القنوات التي يستخدمها في نقل الماء إلى مسافة تزيد على أربعين قدما تحت الأرض،. فضلا عن تخليه عن نظامي اتصالاته ودفاعه المحكمين، ويتخذ البعض منه سبيلا إلى التجمعات الأخرى، ولكن الآلاف تموت. لقد عشنا فوق الأنقاض، وكبر الأطفال وتركوا المدينة، ثم عادوا من الحرب بعد عام 1946، كما عادوا في أوقات لاحقة فيما بعد من الزيارات التي قاموا بها لأوروبا وأميركا والشرق الأقصى، وقد ملوا سماع القصص القديمة المعادة، فضلا عما يوجه إليهم من أسئلة: هل تذكرين السيد "هارتمان" الذي اعتاد أن يأتي إلى بيتنا لضبط أوتار البيانو؟ لقد كان المسكين دائم السؤال عنكم، لقد أقعده التهاب المفاصل، وهل تذكرين السيد "ستريدوم" - جر الخط -؟ لشد ما كنتم تسخرون منه وأنتم صغار، لقد كنت أخجل من صنيعكم هذا، وهل تذكرين وقت أن كان رجال إبادة النمل الأبيض هنا؟ لقد تسببت في كسر ساقك تقريبا، أهذه الأحداث هي- حقا - خلاصة حياة أمي؟ لماذا يجب أن أتذكر؟ ولماذا أرتعد خوفا كلما عدت بذاكرتي إلى تلك الغرف الخمس القائمة خلف المشربيتين ومدخل الباب الأمامي؟ لماذا يجب أن أتذكر كل هذا؟ أنا التي جبت المحيطات والقارات، وشاهدت العواصم المجللة بالثلج، والجزر التي تسبح السلاحف من حولها، والكاتدرائيات والمسارح، والقصور، والحدائق حيث يقبل الناس بعضهم بعضا ويشرب المتسكعون النبيذ. لقد هرم أبي وفرضت عليه أمي البقاء في البيت في السنوات الأخيرة من عمره، ومكثت هي بجانبه، ولو أنها قالت إنها لم تكن تود أن تفعل ذلك، فقد كان المنزل عبئا عليها تحملت هي مسئوليته كاملة بالإضافة إلى مسئوليتها عنا نحن وكل ما يتصل بحياتنا. وها هي الآن قد ماتت، ومع أني مازلت أعتقد أن شخصا ما ينبض بالحياة في منزلها فإن الممرات الخفية والغرفة الداخلية التي كانت هي فيها مليكتنا وأسيرتنا معا في الوقت نفسه قد أحكم إغلاقها وصارت خاوية.