لم تكن الحرب الحالية في الشيشان حدثاً مفاجئاً ولكنها جولة جديدة في الصراع المتواصل منذ قرون.
تتصاعد حدّة الصراع في القوقاز, وتأخذ في الشيشان شكل حرب شاملة مفتوحة على كل الاحتمالات, من بين أهدافها إلغاء (استقلال الأمر الواقع) الذي نجحت هذه الجمهورية القوقازية الصغيرة في انتزاعه عام 1996.
لقد كانت علاقة شعوب القوقاز بالسلطة المركزية في روسيا على الدوام علاقة صراعية, تتفاوت حدّتها وفقاً للظروف ولموازين القوى ولمواقع روسيا على الصعيد الدولي وعلاقاتها مع الدول الأخرى, وكذلك وفقاً لحال السلطة المركزية وللأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية - الأمنية في روسيا عموماً.
ومن جهة أخرى, وأيّاً تكن الخلفية التاريخية للصراع, وظروف نشوب الحرب الجديدة وملابساتها, لا يسع الباحث إلا أن يضع هذه الجولة في سياق مرحلة ما بعد الحرب الباردة, وأن ينظر إليها في مرآة الصراع الدولي الدائر في منطقة بحر قزوين, والذي يأخذ أبعاداً اقتصادية وجيوسياسية واستراتيجية.
الصراع وجذوره التاريخية
يعود تاريخ الصراع بين الشعوب القوقازية وروسيا إلى القرن الثامن عشر, فبعدما بسطت روسيا سيطرتها على مجمل سيبيريا واستعادت أوكرانيا في القرن السابع عشر, أخذت موسكو تتطلع نحو الجنوب سعياً لتحقيق حلمها في الوصول إلى المياه الدافئة, فكان الهجوم الكبير في عهد بطرس الأكبر عام 1722 على منطقة القوقاز, غير أن الحملة ردّت على أعقابها, وغداة الحرب الروسية - التركية عام 1769, عاودت الجيوش الروسية هجومها, ونجح الروس هذه المرة في السيطرة على المنطقة.
أبدت شعوب القوقاز مقاومة عنيدة ودائمة للهيمنة الروسية, وتتالت الانتفاضات والثورات ضد الوجود الروسي على مدى قرون. فتوحد الثوار الشيشان والداغستانيون والشركس في انتفاضة شاملة في نهاية القرن الثامن عشر أسفرت عن إلحاق هزائم متتالية بجيوش الإمبراطورة يكاترينا الثانية, إلى أن تمكنت القوات الروسية من إخمادها, ثم اشتعلت ثورة شاملة بقيادة الإمام شامل, البطل القوقازي الأسطوري, الذي نجح في مواجهة الإمبراطورية الروسية على مدى 35 سنة من عام 1825 حتى العام 1859, وإقامة دولة شعوب القوقاز الموحّدة, وأصبح ودولته على مدى عقود جزءاً من الحقائق الجيوسياسية في المنطقة, فرض على الروس أخذه في الحسبان, وبعد توقف حرب القرم عام 1856, شن الروس حملة انتقامية على الدولة القوقازية للدور الذي اضطلعت به في هذه الحرب إلى جانب الأتراك, ونجحوا في إلحاق الهزيمة بشامل واعتقاله وتصفية دولته, غير أن الانتفاضة تجدّدت في داغستان عام 1877 ولكنها لم تدم طويلاً, وأخمدت في العام التالي. وفي عام 1917, نشبت ثورة ضد الجيوش القيصرية مستفيدة من التطورات والاضطرابات التي شهدتها روسيا آنذاك, نتيجة هزيمتها في الحرب العالمية الأولى, ومن ثم نشوب الثورة الشيوعية فيها والحرب الأهلية التي تلتها, فأعلن قيام دولة شمال القوقاز, ولكن الجنرال الروسي القيصري دينكين, نجح عام 1918 في القضاء عليها قبل استتباب الأمر للبلاشفة, ولم يكد دينكين يقضي على الدولة الفتية حتى قامت حركة جديدة بقيادة الشيخ حجي الذي حرر جبال داغستان والشيشان وكبارديا وأوسيتيا, وأنشأ إمارة شمال القوقاز المستقلة.
ثورات متجددة
اعترف البلاشفة بالإمارة المستقلة في البداية, ولكن ما إن استقر لهم الأمر في روسيا حتى ألغوا الإمارة, ومنحوا الشيخ حجي لقب مفتي شمال القوقاز, وفي عام 1920 نشبت ثورة جديدة ضد الحكم السوفييتي الجديد بقيادة سعيد بك, حفيد الإمام شامل, وعمل البلاشفة على احتواء الثورة, وبعد مفاوضات معقّدة قادها ستالين الذي كان يشغل آنذاك منصب (مفوّض القوميات), تم التوصل إلى اتفاق اعترفت بموجبه السلطة الجديدة في موسكو باستقلال (الجمهورية السوفييتية للجبليين) كما سميت, في إطار الدولة السوفييتية الجديدة, وفق شرطين أساسيين:
قبول موسكو باعتماد الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع في الجمهورية الجبلية التي تتمتع بحكم ذاتي واسع, وعدم تدخل موسكو في شئونها الداخلية.
وضمت هذه الدولة داغستان وتشتشينيا وبلكاريا وكبارديا وأنغوشيا وكاراتشيا. أي عملياً شمال القوقاز بمجمله.
عاشت هذه الدولة ذات الاستقلال الذاتي حتى الحرب العالمية الثانية, حين اتُهم الشيشان والأنغوش بالتعاون مع الغزاة الألمان, وكانت النتيجة عملية قمع دموية وترحيل أعداد كبيرة منهم إلى كازاخستان وسيبيريا, وإلغاء الاستقلال الذاتي, وإعادة تقسيم إدارية لشمال القوقاز الذي تحوّل إلى مناطق وجمهوريات تخضع مباشرة للسلطة المركزية في موسكو.
منذ ذلك الحين, أخذت المقاومة شكلاً غير عسكري, تجسّد برفض الذوبان في العالم الروسي والتمسك بالانتماء الديني والهوية القوقازية والتقاليد الجبلية, إلا أن تفكك الاتحاد السوفييتي مطلع التسعينيات واستقلال الجمهوريات غير الروسية, وضعف روسيا وتضعضع السلطة المركزية في موسكو, كان حافزاً لنشوب الثورة الشيشانية عام 1994 وانتصارها آنذاك.
وهكذا, يتبين من هذه النظرة السريعة إلى التاريخ أن حالة عدم الاستقرار في روسيا وما ينجم عنها من ضعف السلطة المركزية فيها شكل على الدوام فرصة سانحة للشعوب والأقليات القومية الراغبة في الانفصال عنها والحفاظ على هويتها للتحرّك. لقد كانت هناك على الدوام علاقة عكسية بين قوة روسيا والحركات الاستقلالية في القوقاز خصوصاً. فكلما كانت روسيا قوية ومستقرة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً, ضعفت هذه الحركات, وكلما وهنت روسيا وارتخت قبضة السلطة المركزية فيها, اشتدت هذه الحركات وتعاظمت قوتها, واتسعت أكثر, وحققت النجاحات.
ولا يقلل من أهمية هذا الاستنتاج سعي قوى سياسية روسية في السلطة والمعارضة, إلى استغلال الأزمة في القوقاز في صراعاتها الداخلية, فهذه القوى تسعى إلى استخدام كل الأوراق المتاحة وتوظيف كل الفرص في المعركة السياسية الداخلـية الشرسـة, فكـانت الحرب الشيـشانية الجـديدة و (الانتصارات) التي تحققت فيها بمنزلة قاعدة للقفز منها إلى كرسي الرئاسة والهيمنة على البرلمان من خلال السيطرة على عواطف الناخبين وتأجيج المشاعر القومية في صفوفهم.
أبعاد الصراع
لا يمكن تناول الحرب الدائرة في القوقاز اليوم, بمعزل عن الصراع الدولي الدائر منذ أعوام حول منطقة بحر قزوين وثرواتها الطائلة, فمنطقة شمال القوقاز ذات أهمية جيوسياسية واستراتيجية كبيرة بالنسبة لروسيا, وكذلك للدول الأخرى المنافسة لها. فهي, بالنسبة لروسيا, تشكّل الجسر الذي يصلها بمنطقة بحر قزوين, وتمثل بالنسبة إلى الدول المنافسة السد المنيع الذي يمكن أن يقام في وجه روسيا (في حال انفصالها عنها), لمنع تواصلها مع تلك المنطقة التي شكّلت منذ قرون جزءاً من المدى الحيوي الجيواستراتيجي لروسيا, وكانت موقعاً متقدماً على التخوم الجنوبية للإمبراطورية الروسية, أمّنت تواصلها مع مناطق المياه الدافئة جنوباً. وبالتالي, فإن عدم الاستقرار في شمال القوقاز وانفصاله عن روسيا يوجه - في نظر الاستراتيجيين الروس - ضربة ساحقة لمصالحها الحيوية, الاقتصادية والاستراتيجية, ويمنعها من ممارسة أي تأثير في دول جنوب القوقاز, ويترك هذه الدول ساحة للنفوذ الأمريكي, كما يجعل روسيا عاجزة عن منافسة الشركات الغربية, الأمريكية خصوصاً, في الصراع على نفط قزوين, ويقضي نهائياً على فرص الأنبوب الروسي لنقل هذا النفط إلى الأسواق العالمية.
نفط قزوين
وليس سرّاً أن منطقة قزوين ونفطها غدت ساحة أساسية لصراع دولي عنيف, قطباه الرئيسيان الولايات المتحدة وروسيا, إذ من المتوقع أن تصبح هذه المنطقة أحد المصادر الرئيسية للطاقة في العالم, لا بل تصل المبالغة ببعض الخبراء إلى حد الاعتقاد أن الاستثمار الكامل لاحتياطيها الذي يقدّر المكتشف منه حتى الآن بحوالي 32 مليار برميل من النفط الممتاز, يمكن أن يؤدي إلى نقل مركز الثقل في مجال النفط إلى هذه المنطقة, هذه الثروة الضخمة تُلهب النزاعات والتوترات الإقليمية, والتي كان الاتحاد السوفييتي السابق قادراً على درئها أو احتوائها, لذا فإن هذه المنطقة تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى مركز استقطاب لتجاذبات وصراعات بين قوى إقليمية ودولية, حيث تتقاطع وتتصارع مصالح وأهداف دول عـدة, في مقـدمها الولايات المتحدة وروسيا, فضلاً عن تركيا وإيران وكذلك جمهوريات آسيا الوسطى وجنوب القوقاز, وتنـخرط فيه شركات النفط العالمية العملاقـة, الأمريكية بصورة خاصة.
فبالنسبة لروسيا, على الرغم من الأهمية القصوى التي ينطوي عليها نفط قزوين من الناحية الاقتصادية, فإن المعركة من أجل هذا النفط تتكامل مع المعركة من أجل إبقاء شمال القوقاز جزءاً من الفيدرالية الروسية, وتشكّل جزءاً من المهمة الجيوسياسية والاستراتيجية الأشمل التي تواجه السياسة الروسية اليوم, والمتمثلة في الحفاظ على الكيان الفيدرالي الروسي من جهة, والعمل لاستعادة روسيا قوتها ونفوذها في المجال السوفييتي السابق كخطوة نحو استعادة دورها كقوة عظمى على الصعيد الدولي, وهي مهمة غاية في الصعوبة, إن لم تكن مستحيلة, خصوصاً في ظل التردّي الخطير في الوضع الداخلي الروسي على كل الصعد.
أما الولايات المتحدة, فإن انخراطها في الصراع الدائر, إنما هو جزء من استراتيجيتها الرامية إلى إجراء تعديلات جذرية في الوضع الجيوسياسي لهذه المنطقة في المرحلة ما بعد السوفييتية. ولعل من المفيد في هذا السياق الإشارة إلى تقرير بعنوان (سياسة الولايات المتحدة في القوقاز وبلدان آسيا الوسطى), ألقاه ستيفان سيتانوفيتش, مستشار وزير الخارجية الأمريكي لشئون الدول المستقلة, أمام لجنة الكونجرس للشئون الخارجية, في 30 أبريل 1998.
جاء في التقرير: (إن مقاربتنا لمصالح الولايات المتحدة, في هذه المنطقة تنبع من أهميتها الاستراتيجية البالغة بالنسبة إلى بلادنا. وهذه الأهمية لا تقتصر على مصادر الطاقة الهائلة هناك (...). إن استراتيجيتنا إزاء القوقاز وآسيا الوسطى تشمل أربعة عناصر أساسية:
- توطيد الآليات السياسية والاقتصادية العصرية, وتطوير ديمقراطية السوق.
- تسوية النزاعات.
- تطوير مصادر الطاقة وإنشاء ممر لنقلها بين الشرق والغرب.
- التعاون في مسائل الأمن (...) ).
ويضيف التقرير: (لا يمكن ولا ينبغي أن نبني سياستنا إزاء ثروات منطقة قزوين من دون أخذ مجمل مصالحنا في هذه المنطقة في الحسـبان, إن سعيـنا لإقـامة الممر الأورو-آسيوي لنقل ثروات قزوين النفطية إلى الأسواق العالمية, يندرج في سياق استراتيجية أكثر شمولية لدعم السلام واحترام حقوق الإنسان, وتطوير اقتصاد السوق (...), وتحقيق الانفتاح إزاء الولايات المتحدة وعالم رجال الأعمال الأمريكيين, وكذلك لتأمين انخراط دول المنطقة في المنظومتين الأوربية الأطلسية والعالمية (...). إن ذلك يوفر إمكانات تجارية مهمة للمستثمرين الأمريكيين الذين استثمروا حتى الآن رساميل ضخمة في هذه المنطقة, ويتفق أيضاً مع أهداف السياسة الأمريكية إزاء حليفها القريب تركيا).
في إطار هذه الاستراتيجية الشاملة, يندرج توسيع حلف الأطلسي شرقاً نحو الحدود الغربية لروسيا, والتعديل الجذري في عقيدة الحلف العسكرية التي حوّلته من (حلف دفاعي) مهمته حماية أوربا من الخطر السوفييتي إلى منظمة عسكرية منحت نفسها حق التدخل العسكري في أي بقعة من العالم, وتندرج في هذه الاستراتيجية أيضاً سياسة التغلغل الأمريكي في (الخاصرة الآسيوية) لروسيا في جمهوريات جنوب القوقاز (أذربيجان وجورجيا خصوصاً), وآسيا الوسطى (لاسيما في كازاخستان).وتنبع الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة أيضاً من كونها تقع بين قوى إقليمية كبرى كروسيا وإيران وتركيا والصين, و (تطل) على منطقة الشرق الأوسط والخليج, والسيطرة عليها تمنح الطرف الفائز رأس جسر متقدماً وسط هذه القوى والمناطق.
في ظل هذه التجاذبات الدولية وضعف روسيا الراهن, وجد القادة الشيشانيون الفرصة سانحة لتحقيق الحلم الأبدي لشعوب القوقاز بالاستقلال وإقامة دولة قوقازية إسلامية تضم في مرحلة أولى تشتشينيا وداغستان, مع السعي إلى ضم جمهوريات أخرى كأنغوشيا وبلكاريا وكبارديا وغيرها في مراحل لاحقة, دولة تطل على بحر قزوين, الأمر الذي يمنحها موقعاً استراتيجياً مهمّاً ومنفذاً على العالم الخارجي (خلافاً للجمهورية الشيشانية المعزولة جغرافياً), وقسماً من الثروة النفطية القزوينية, ويضع تحت سيطرتها قسماً مهماً من أنبوب النفط, الذي تعول روسيا عليه كثيراً في صراعها مع المنافسين الدوليين على نقل نفط بحر قزوين إلى الأسواق الخارجية, ومن شأن ذلك كله أن يجعل الدولة القوقازية الجديدة, في حال قيامها, طرفاً مؤثراً في المعادلة الإقليمية, والدولية تالياً.
خلاصة
في هذا السياق من الصراع الجيوسياسي ينبغي رؤية ما يجري في القوقاز اليوم, بوصفه مجرد فصل من فصول (اللعبة الكبرى) الدائرة في هذه المنطقة الاستراتيجية من الـعالم, وإن كـان ذلك لا يقلل من أحقية وأهمية التطلعات والطموحات الاستقلالية لشعوب تلك المنطقة. إن ضعف روسيا الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي الداخلي, وتضعضع السلطة المركزية فيها, وتراجع وجودها العسكري والسياسي في شمال القوقاز, فضلاً عن حرمانها (الثمار) الاقتصادية لمنطقة قزوين يجعل من مسألة خروج (أو بالأحرى إخراج) روسيا كعنصر استراتيجي فاعل على الساحة القوقازية أمراً محتملاً في السنوات القريبة.