مختارات من:

واحة العربي

محمد مستجاب

الجلد


الجلد هو الكساء الحيوي الخارجي للجسد، وموطن نقل الإحساس من الخارج إلى الداخل، وعليه مسئولية جمالية وأخلاقية تنظم الكثير من علاقات التفاهم والتواجد والتواصل والرفض والاستحسان. وذو الجلد البارد لا يختلف كثيرا عن ذوي الدم البارد وذوي الإيقاع البطيء وذوي الفهم المتعثر والذين تضمهم صفة إنسانية واحدة: البلادة، والجلد الحي موصل جيد للمشاعر، فإذا عولج بالجير الحي وثمار القرظ يصبح الجلد قابلا لنقل الماء وحفظ اللبن.

وبعض علماء الأحياء يعتبرون الجلد عضواً كاليد واللسان والبنكرياس، وفي فصيلة الحماريات يتلقى الجلد كل أنواع العقاب باليد (صفعا) وبا لعصا (ضربا) وبا لقدم (ركلا) وبالسيخ المحمى (كياً)، كما يقوم الجلد بإخفاء المشاعر أمام الآباء والرؤساء والأزواج والأطفال، وكلما تهذب الجلد ازدادت درجة شفافيته الحلوة حتى يكاد في بعض الحالات الغامضة أن يعجز عن حجز لون الدم خلفه، وفي حالات أرقى يمكنك أن ترى العظام. جرب هذا مع يد جميلة مرفوعة في مسار الضوء، على ألا تكون يد زوجتك.

وفي أقوال السلف: ما حك جلدك مثل ظفرك، والمعنى واضح رغم سخفه وهبوطه، إذ إن حك الجلد بالظفر عادة يكشف عن الوسط الذي جاء منه الحكاك. والجلاد كل من يوقع عقابا على الجلد في الزمن الغابر، أما الجلاد العصري فهو تاجر الجلود في معناه المحدود، وفي المعنى الشامل ينسحب الجلاد على النظم السياسية والمصارف ودور التربية والمسلسلات التليفزيونية.

والفراء هو الجلد الأشعر، ولا قيمة له في الإنسان والحمار والبغل والحصان، وتبدأ قيمة الجلد الأشعر (قبل أن يصبح فراء) في وبر الجمل وصوف الغنم، فإذا أصبح الجلد الأشعر فراء فهو شيء نادر وثمين مثل جلود أنواع من الثعالب والسنجاب والسمور والمنك (وقد توقف فهمي عند حدود الثعالب والسنجاب دون السمور والمنك)، وكثير من الروايات البوليسية المبكرة- أي التي قرأناها مبكرا- كانت تقوم على تهريب الفراء، هذا النوع من الجلود ولو كان ثمينا، فلم أكن أتصور أن تحدث مخاطر ومؤامرات ومغامرات من أجل هذه الجلود، مع أن الجلود- بجميع أنواعها- لا تزال هي العملة السائدة في بلاد الإسكيمو وألاسكا، جلود الدببة والذئاب القطبية على وجه الخصوص.

ويمتاز الجلد الإنساني بقدرته الفائقة على أن يكون رَمْزًا للهوية والفصيلة، بل وإن جلد أطراف الأصابع أصبح أول ما يتم تصويره وحفظه بصفته بصمتك الخاصة التي لا مماثل لها، وهو ما يهم السلطات وهي تتعقبك، لأنك نَادِرًا ما تستطيع تشويه أطراف أصابعك، لَكِنَّك تستطيع تغيير كل ملامح صورتك بسهولة بطريقة جراحية بسيطة)، ليس فقط بصمة أصابع اليدين أو القدمين، بل وبصمة الشفاه أيضا (قرأت ذلك من زمن لا أعرف أين).

وكلما كان الجلد متماسكا أصبح صاحبه صبورا، أي قادرا على التحمل، أي شديد الجلد- بفتح الجيم واللام- أو متجلدا، يمكنك أن تتحمل الأعاصير بصلابة باردة، وذوو الجلد الرقيق هم الشعراء وعازفو البيانو واليتامى والكلاب المدللة، أما ذوو الجلد السميك أو الثخين فهم السياسيون والحلآقون وخدم المطاعم والجاموس وضباط المباحث والقنافذ والأفيال، ولم يتم تصنيف جلود الجواسيس والمرتشين وكتاب القصة حتى الآن.

والتجليد هو فن تَغْشَيْهِ الكتب بالجلد، ومنها جاء إضفاء اسم المجلد على الكتاب الكبير، أما إذا قلت: هذا الرجل من بني جلدتنا فأنت تعني أنه من عشيرتكم وقبيلتكم، أما إذا قلت هذا الرجل جلدة فقط فهي تعني أنه بخيل جدا لا يمكن استقطار جيبه، أما الجلدة الخالصة - بفتح الجيم هذه المرة - فهو أن تجلد في دار حاكم أو في قراءة مقال صحفي ساذج.

محمد مستجاب مجلة العربي نوفمبر 1991

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016