هذا رقم يستفز العقل ويدعو للتأمل والتفكـير، دلالته: أن الأرقام ليست دائما صادقة، وأن معناها قد يختلف باختلاف الزمان والمكان حتى لو كانت هي نفسها، دون تغير يذكر.
وخطورته أنه يقول لنا: سوف يستمر العرب يدفعون أكثر ويأخذون أقل مادام البترول سلعتهم الأساسية في التبادل والتعامل مع العالم الخارجي.
والقصة كما نعلم قد بدأت عام 1973 حين قلنا: "إن أسفـار البترول لا تعبر عن حقيقه قيمته، وإن البترول الرخيص عنصر تشجيع على استنفاد احتياطياته"، وقلنا: "إنه قـد حان الوقت ليسترد العرب ومنتجو البترول مكانتهم على خـريطة العالم الاقتصادية، وإنه لا فائدة من استرداد الثروة البترولية دون التحكـم في أسعار وكميات إنتاجها".
وبدأت جولة ارتفاع الأسعار فقفز البرميل مـن ثلاثة دولارات أو أقل قليلا إلى " 11 " دولارا أو يزيد قليلا عام 974 1، ثم تـوالى الارتفاع حتى بلغ أقصاه عام 981 1، حيث سجل "3. 34 لما دولار للبرميل في المتوسط، ولكنه ارتفع ليهبط.. ويستمر في الهبوط حتى سجل سعرا قياسيا آخر هو "7. 16 " دولار للبرميل في نهاية الثمانينيـات.. تلك هي الأسعار الاسمية المعلنة.
حينذاك "1989" صرح الخبراء والساسـة: "لقـد هبطت الأسعار إلى النصف، فقلـت القدرة على التنمية والاستهلاك والاستثمار. إلى النصف أيضا.. " و.. لم تكن صرختهم صحيحة، فالهبوط الحقيقي كان إلى الثلث.
يقول التقرير الاقتصادي العربي الموحد والذي تصدره الجامعة العربية وعـدد من المنظمات العربية المتخصصة إن السعر الحقيقي للبرميل في ذلك العـام قد هبط إلى "4. 6" دولار مقوما بالأسعار القياسية للصادرات الصناعية "إذا أخـذنا عام 1974 كسنة أساس للقياس " وذلك مقابل "3. 19" دولار السعر الحقيقي لعام " 1981 ".
الأرقام صادمة فأهم ما نملك من ثروات، وأهم مكونات الدخل العربي.. في تراجع مستمر، والأسعار الحقيقية كاشفة بدرجة أكبر.
هجوم.. وهجوم مضاد
التاريخ الاقتصادي للعالم يسجل بالتأكيـد هذه الظاهرة، ظاهرة تراجع أسعار المواد الأولية بالقياس للمواد المصنوعة، وهي ظاهرة تمس علاقة الشمال الصناعي بالجنوب المنتج للخامات.
وفي دراسات المنظمات الدوليـة والمجالس السلعية العالمية العديد من المؤشرات المهمة حول هذه العـلاقة، وظن العرب - كما ظن منتجو البترول - وبشكل عام أن تصحيحا تاريخيا قد جرى عامي 1973 و 1974.. ولكن ما أن مر أقل من حقبتين حتى حدث تصحيح عكسي لصالح الدول الصناعية.. فكيف دارت هذه المعركة؟.. وكيف أسفرت عن هذه النتيجة الخطيرة: البرميل بثلث سعره في حقبة واحدة؟
لقد بدأ الصراع من اليوم، وبينما ارتفعت الأسعار على أنغام مدافع حرب أكتوبر، وبينما كان العرب قد أكملوا - أو شكوا أن يكملوا - رحلة السيطرة على مواردهم النفطية، من حيث الملكية وقرارات الإنتاج والأسعار.. بينما حدث ذلك في عام 1973، فقد بدأ الهجـوم المضاد من الدول المستهلكة على الفور.
تأثرت موازين مدفوعاتها بضعة شهور، ولكن ما أن مر عام واحـد حتى كـانت- وعن طريق أسعار السلع الصناعية- قد استردت ذلك وعاد توازنها.
وتأثرت مكـانتها كصاحب قرار أول في سوق النفط، ولكن ما أن مرت السبعينيـات حتى كانت قـد استردت هذه المكانة.
ولم يكن الطريق سهلا، لكنها كانت عمليات شاقة ودؤوبة قامت بها الدول الصناعية الكـبرى التي تستهلك معظم الطاقة في العالم.
كانت هناك إجراءات أربعة رئيسية:
الأول: اتحاد كلمة المستهلكين من خلال الوكـالة الدولية للطاقة، وفي مواجهة اتحاد المنتجين "أوبك".
والثاني: تقنين الاستهلاك، وفي التاريخ الاقتصادي أن الولايات المتحدة - على سبيل المثال - قد فرضت مجموعة ترتيبات امتدت من إحـداث تعديلات في نظم تشغيل الآلات والسيارات، إلى نظام الإضاءة في المباني وناطحات السحاب والطرق العامة.
كان القرار حينذاك تخفيض الاستهلاك بشكل حاد وإلغاء أي إسراف في استخدام الطاقة بحيث يؤثر ذلك على حجم الطلب العـالمي، فتنخفض الأسعـار، وتقل الأهمية النسبية للبترول.
في الوقت نفسه وهو الإجراء الثالث، فقد لجأت الدول المستهلكة لتشجيع إنتاج البترول من مناطق أخرى خارج الأوبك.. مثل بحر الشمال، وذلك حتى تقل فاعلية اتحاد المنتجين ويصبح بعض المستهلكـين مثل الولايات المتحدة وبريطانيا من كبار المنتجين أيضا.
وكما حدث في بحر الشمال حدث في الولايات المتحدة حيث جرى تشجيع المنتجين المحليين على تنشيط التنقيب والاستخراج، خاصة أن الأسعار قد أصبحت - وفي السبعينيات - أكثر إغراء.
ثم كان الإجراء الرابع وهو تشجيع مصادر الطاقة الأخرى. ونتيجة للإجراءات الأربعة تراجع الطلب بالقياس إلى المعروض (الذي زاد في البداية تحت إغراء السعر المرتفع).
لقد استرد المستهلكون زمام المبادرة، وتحولت سوق البترول من سـوق البائعين في السبعينيات إلى سـوق المشترين في الثمانينيـات، فحدث التراجع الكبير الـذي نتحدث عنه والذي تبرزه الأسعار الحقيقية التي يدخل فيها تقلب العملات، ونسب التضخم، وارتفاع أسعار السلع التي نبادل بها وهي السلع الصناعية.
انخفضت الأسعار إلى النصف بالقياس لبداية الجولة " 74".. وانخفضت إلى الثلث بالقياس لبداية الثمانينيات، وذلك رغم أن الدول الصناعية الغربية كانت تتحكم في دورة نقود البترول عن طريق الاستثمارات العائدة إليها والفوائض المتجهة لبنوكها وسنداتها وأسهمها، حتى صدق القول إن هذه النقود "من الغرب تبدأ إلى الغرب تعود".
درس الأزمة
لقد انتهت ثورة البترول، وأصبح الدرس واضحا، فالمستهلكون كانوا أكثر قدرة على التكتل والتخطيط للمستقبل، والمنتجون كانوا أقل قدرة. وبينما تراجع عنصر المنافسة بين الدول الصناعية- أو أمكن تهذيبه- اشتعل ذلك العنصر بين المنتجين فراح إغراء الحصول على العوائد حافزا لإنتاج أكثر- شرعيا أو غير شرعي- وبات إغراق السوق أمرا واقعا.
وفي حالة الشرق الأوسط لعبت الحروب دورا في الضغط على متخذي القرار لزيادة الإنتاج الذي بات ضروريا لتمويل أعباء حرب الخليج الأولى "العراق/ إيران" أو حرب الخليج الثانية " العراق/ الكويت"، وبينما استفاد برميل البترول من الحرب الثانية بضعة أسابيع، فارتفع سعره، إلا أنه سرعان ما تراجع سواء بالسعر الرسمي أو الحقيقي، وخلال عام " 92- 93" برز مشروع ضريبة الطاقة أو ضريبة الكربون التي استهدفت الحد من استهلاك البترول، وكانت هذه الخطوة مرحلة جديدة في الحرب الدائرة. كما كانت إيذانا بنظرة جديدة لقضية الطاقة وبما ينقذ الثروة العربية.
ولكن، هل يكون الإنقاذ بمزيد من التكتل؟ أم بمزيد من الاندماج في أنشطة صناعية تستخدم الخامات بدلا من الاعتماد على تصديرها؟ أم يكون الإنقاذ بالاندماج في سوق الطاقة العالمية بمختلف فروعها لتكون هذه الفروع بديلا تدريجيا للبترول، وليتأجل استخراج بعض البترول، لبعض الوقت؟.
كل ذلك مطلوب فنحن نبيع البترول بثلث سعره.