بلا مطر لن تكون هناك ثلوج تذوب في الربيع فتصنع الجداول ، أو فيضانات تملأ الأنهار، أو مياه جوفية تغذي آبار الوديان والصحاري. باختصار، لن تكون هناك مياه يرتوي منها البشر والزرع والضرع. ومن ثم، فإن محاولة حصول الإنسان على المطر هي حلم يتعلق بالحياة بل بأصل من أصول الحياة.
بدأت الفكرة في عام 1964. كان العالم "فنسن شيفر" الباحث في مختبرات جنرال إلكتريك في نيويورك يستخدم غرفة تبريد ويحاول إيجاد طريقة كيميائية لتحفيز السحب الصناعية على الهطول. كان يوما من أيام القيظ الحارة الرطبة، وخشي شيفر من ارتفاع سخونة الغرفة فدس قطعة من الجليد الجاف - ثاني أوكسيد الكربون المجمد على هيئة قالب صلد. تلا ذلك تشكل بلورات من الجليد في سحابة حول قالب الجليد. وفي ذلك اليوم ولد علم زرع الغيوم. بعد ذلك بفترة وجيزة وجد زميل شيفر السيد "برناد فونجت" أن مادة كيميائية تدعى يوديد الفضة Silver lodide تشابه الجليد من حيث البنية الجزيئية وتختلف عنه في سهولة النقل والاستخدام. ويوديد الفضة هذا عبارة عن مركب كيميائي "ملح" أصفر اللون يمكن استخدامه لتحفيز السحب الركامية على الهطول ويسلب عواصف البرد العاتية قوتها المدمرة.
تكسير السحب
في كل صيف عندما تعصف الغيوم في القسم الغربي من ولاية داكوتا الشمالية تقلع طائرة عسكرية صغيرة من مدرجات ريفية، ولدى وصولها إلى "قاعدة" سحابة رعادة مخيفة يحرك الطيار قبضته ليحرر أرياشا من جزيئات مجهرية من يوديد الفضة. عندما تصادف هذه الجزيئات الرطوبة الباردة المختزنة في السحب فإنها - من الناحية النظرية - تقدح تشكيل قطيرات مطر أو حبات برد دقيقة تهطل قبل أن يكون لديها الوقت الكافي لتتنامى إلى أحجار جليد طائرة كبيرة. تسقط في هذه المنطقة عادة حبات برد مخربة يزيد حجم الواحدة منها على ثمرة الجوز وقد تحول تلك العواصف الحقول الغناء إلى أرض خراب في غضون دقائق معدودات. يهدف زارعو الغيوم إلى تكسير السحب قبل أن تحدث تلك الأضرار. وتزرع السحب النفاضية سحابا مؤلفا من أكداس مدورة ذات قاعدة مسطحة ببلورات يوديد الفضة في محاولة لتجميد الماء فائق البرودة ومحاكاة نمو واختلاط السحب عبر تحرير حرارة الاندماج الكامنة. ونظرا للضرر الهائل الذي تحدثه حبات. البرد توجه قسم من الأبحاث نحو تخفيض حجمها، وكانت النتائج الأولية مشجعة لدرجة أن الاتحاد السوفييتي السابق أسس برنامجا لتصغير البرد في جبال القوقاز.
بذور كيميائية
قام المتخصصون بعلم الطقس بتنفيذ سلسلة من التجارب الحقلية المكلفة وبذروا سحبا عاصفة هائلة الحجم على فترات امتدت لعدة فصول في مناطق متعددة من أنحاء الولايات المتحدة. كانت نتائج هذه التجارب متباينة. وفي نهاية السبعينيات لم يستطع العلماء الجزم بشكل قاطع ما إذا كانت طريقة الزرع ناجحة وفعالة أم لا وتوجب عليهم العثور على أجوبة لأسئلة عديدة مثل: هل تلقت السحب التي زرعوها بيوديد الفضة تلك "البذور" أم لا؟ ما هو الدور الذي قام به يوديد الفضة منذ تحريره من الطائرة حتى مغادرته للسحابة؟. وما هي الظروف التي تؤثر على أداء مادة البذر؟ وكيف السبيل إلى قياس نتائج البذر بحيث تكون موثوقة ومؤكدة؟
بدأ العلماء خلال العقد الماضي بكشف بعض ألغاز زرع السحب المبهمة. ومثل علماء الحياة الذين يستكشفون جوهر الحياة بدأ بحاثة تحوير الطقس بدراسة السحب والزرع على المستوى الجزيئي. وبتتبع الكيماويات المزروعة بواسطة أجهزة تحليل فائقة السرعة وبرامج حاسوبية متطورة، تمكنوا من تبيان مسار البذور. منذ تحريرها في عاصفة سحابية إلى أن تشكل قطيرات ماء جليدية. وأضحوا يعرفون اليوم أفضل الغيوم المعتزم زراعتها والتوقيت الملائم لذلك في دورة حياة السحابة القصيرة وأفضل مكان لإيواء تلك البذور.
وفي عام 1989 أحصت منظمة الأرصاد الجوية العالمية أكثر من 118 مشروعا لتحوير الطقس تجري في 32 دولة، في حين لم يتجاوز عددها 80 مشروعا في عام 1983. وفي عام 1984 بدأ "جيفري ستيث" وهو أخصائي بفيزياء السحب في جامعة داكوتا الشمالية بتوضيح بعض الحقائق المتعلقة بزرع الغيوم، وقام عبر السنوات الثلاث التالية باستخدام غاز مستشف ومجسات حساسة وبرنامج حاسوبي متطور لتتبع يوديد الفضة عبر السحابة.
في البداية تقلع طائرة إلى قاعدة سحابة حيث يحرر "ستيث" غاز سداسي فلوريد الكبريت مع يوديد الفضة. أظهرت دراسات تلوث الهواء باستخدام سداسي فلوريد الكبريت إمكان اكتشاف كميات دقيقة للغاية من تلك المادة باستخدام أجهزة التحليل في أقل من ثانية وهي فترة أسرع بـ 60 ضعفا من سرعة اكتشاف وتحليل يوديد الفضة وحده.
وفي عام 1987 استخدم البحاثة ثلاث طائرات تعمل بشكل مترادف لتركيب صورة أكثر كمالا لمسار المستشف في السحابة. يقول الدكتور "بروس بو" وهو أخصائي بفيزياء السحب ومدير هيئة الأرصاد الجوية بولاية داكوتا الشمالية ورئيس برنامج تحوير الطقس اليومي، وهو برنامج بدأ منذ عام 1961: "لن نستأصل شأفة الجفاف ولن نحول الصحراء إلى غابة مطيرة ولكننا قطعنا شوطا "طويلا" في فهم كيفية تشكل الجليد والمطر".
ثلوج في السماء
ولكي نتفهم بعض مجاهيل هذا العلم دعنا نعرض لبعض الحقائق:
يحتوي الهواء عادة على الرطوبة وعندما يرتفع الهواء الساخن من سطح الأرض ويبدأ بالتبرد تتكثف بعض الرطوبة إلى قطيرات دقيقة وتشكل سحابة أو غيمة. تكون هذه القطيرات صغيرة للغاية بحيث تتعذر رؤيتها دون استخدام المجهر وخفيفة بحيث تطفو مع أهدأ تيار هوائي. وفي النهاية تكون السحابة كتلة من هذه القطيرات والهواء. ويشكل الهواء النقي أكثر من 99 في المائة من مكونات أي سحابة.
قبل أن تصبح قطرات مطر أو كسفات ثلج أو حبات برد يجب أن تجتاز القطيرات الفراغ الفاصل بين بعضها البعض وتمتزج معا "بالملايين" بحيث يدفعها ثقلها المتزايد للهطول على الأرض. تحدث هذه العملية من خلال ما يسمى بعملية المطر الباردة. يتكون المطر البارد في السحب التي تنخفض فيها درجة الحرارة عن نقطة التجمد. ورغم البرد الشديد تكون القطيرات قادرة على البقاء في حالة غير متجمدة. إذ لا يتجمد الماء تلقائيا عندما تصل درجة الحرارة دون الصفر المئوي. ولا يتشكل بصورته البلورية إلى أن تنخفض درجة الحرارة دون الصفر بكثير، وعندما تصادف قطيرة من هذا السائل الفائق البرودة جسيما شاردا من مادة مثل الغبار أو الملح أو يوديد الفضة فإنها تكتسب هيئة وتشكل بلورات جليد صغيرة. يتجمد بخار الماء في السحابة عندئذ مباشرة على سطح هذه البلورة وتكتسب تلك البلورة وزنا وتسقط، ثم تصطدم القطيرات المتساقطة بعضها بالبعض الآخر وتتجمد معا، وبالتالي يصبح الماء المتجمد ثقيلا لدرجة لا يتمكن معها من البقاء معلقا في السحابة وينزل إلى الأرض، يهطل ذلك الماء المتجمد على شكل مطر أو ثلج أو برد تبعا لعوامل عديدة مثل درجات الحرارة خارج السحابة والتيارات الهوائية في داخلها. وقد تتحول بلورات الجليد في سحابة ذات تيار هوائي صاعد إلى حبات برد كبيرة للغاية قبل أن تصبح ثقيلة بحيث تخترق التيار الهوائي الصاعد وتتهاوى إلى الأرض.
عملية رش الملح
تكون معظم السحب المعتدلة قصيرة العمر أو شديدة السخونة أو صغيرة للغاية وقد تفتقر إلى ما يكفي من القطيرات بحيث تمنح رطوبتها بأي شكل من الأشكال.
وقد تكون لبعضها فترات حياة طويلة نسبيا "تزيد على 20 دقيقة" وتمتلك وفرة من القطيرات وتكون درجة الحرارة ملائمة لتشكل بلورات الجليد ومع ذلك ليست لديها في الظاهر ما يكفي من جسيمات البذور الطبيعية لابتداء عملية المطر البارد.
وهنا تأتي زراعة الغيوم لتقدم المواد الكيميائية التي تحاكي بنية الجليد وتخدم كقالب لتشكل البلورات. يقول الدكتور "بو" : "إنه بلور جليد وهمي في الحقيقة. ونحاول أن نبدأ مرحلة الجليد تلك. ومتى بدأناها تأخذها الطبيعة من حيث ذلك". يتوسط العواصف الرعدية سحابة رعادة هائلة الحجم يتراوح ارتفاعها من القاعدة إلى القمة ما بين 12000 متر إلى 15000 متر. تحاط هذه السحابة بسحب رافدة أصغر حجما تندمج تدريجيا في السحابة الأم وتصبح جزءا من عاصفة مطر أو برد عملاقة، تكون التيارات الصاعدة في السحب الرافدة لطيفة نسبيا ولكن التيار الصاعد في سحابة العاصفة الرئيسية ريح هوجاء عنيفة تعصف بسرعة تفوق 160 كيلو مترا في الساعة، وإذا وضعت بذور صناعية فيها تصعد إلى الأعلى بسرعة قبل أن تبدأ بالتنامي، فالتيار الصاعد سيبقيها متأرجحة في أعلى السحابة ولن تكبر بحيث تهطل من السحابة وتجر معها محتوياتها من الرطوبة. يتحرر كم هائل من الطاقة في التيار الصاعد الأساسي يوازي طاقة قنبلة نووية صغيرة ويمكن استخدام البذر لاستنزاف طاقة السحب الرافدة قبل أن تصب في السحابة الأم، ويمكن تحفيز السحب الدافئة على إنتاج كمية أكبر من المطر. واتضح أن البذر بمواد استرطابية "ماصة للرطوبة" مثل الملح العادي شديد النعومة أو قطيرات من محلول نترات الأمونيوم المركز أعطى نتائج أولية إيجابية لأن الملوثات في شكل الكيميائيات الاسترطابية تخفض من الرطوبة النسبية المحيطة بالهواء واللازمة لاستهلال عملية التكاثف إلى 80 في المائة بالنسبة لجزيئات أملاح البحر الكبيرة.
كيف نعرف كمية المطر الهاطلة التي سببها زرع الغيوم؟
يستخدم البحاثة في تجاربهم في جبال نيفادا نوعا جديدا من تقانة الاستشفاف. يقارن فريق الدكتور "جوزيف واربرتون" من معهد أبحاث الصحراء التابع لجامعة نيفادا في "رينو" كمية المطر أو الثلج المتساقط خلال فترة معينة مع فترة غير مزروعة. اختار واربرتون مستشف أوكسيد الانديوم Indium Oxide الذي لا ينوي Nucleate الجليد وينغسل من السحب عبر المطر أو الثلج. إذ يقوم بتحرير كميات متساوية من هذا المستشف مع يوديد الفضة في سحب الثلج، ثم يجمع عينات من الثلج المتساقط حديثا ويقوم بتحليلها في المختبر باستخدام مقياس طيف الامتصاص الذري حيث يمكن قياس كمية المواد الكيميائية الموجودة في عينة ما حتى أجزاء من التريليون.
حدث في داكوتا
في عام 1985 وجد "واربرتون" أن كمية يوديد الفضة الموجودة في عينات الثلج تزيد بعشرة أضعاف على كمية أوكسيد الأنديوم مما يعني أن يوديد الفضة لعب دورا جوهريا في تخليق الثلج يفوق دور أوكسيد الأنديوم بكثير.
وفي ولاية تكساس استخدم الفيزيائي "ويليام وودلي" برنامجا حاسوبيا متطورا لتحليل صور رادارية للسحب لتقديم إثبات قاطع على أن البذر بيوديد الفضة يجعل السحب تمطر.
استخدم "وودلي" الرادار الأرضي لتتبع السحب المزروعة والسحب غير المزروعة. تعطي الأجسام الأكثر كثافة أصداء رادارية أقوى، كان "وودلي" قادرا على مسح السحب باستخدام الرادار كل خمس دقائق وتحديد السحب التي تتنافى بشكل أكبر.
واكتشف أن السحب المزروعة تمتزج بسرعة أكبر وتنتج أكثر من ضعف كمية المطر التي تولدها السحب غير المبذورة. وهناك قضية لا تخلو من الطرافة تتعلق بموضوع الزرع.
فمن المعروف أن زرع الغيوم قد يقلل من كمية البرد النازلة "وهي نتيجة نافعة للجميع" ولكنه قد يزيد كمية المطر الهاطلة مما يؤدي أحيانا إلى حدوث فيضانات محلية. وفي حزيران من عام 1972 خلفت العواصف الرعدية الاستثنائية في بلاك هيلز في ولاية داكوتا الجنوبية 30 سم من المطر، ولسوء الحظ كان العلماء قد زرعوا غيمتين في إطار تجربة ميدانية. ورغم أن الدلائل تشير إلى تسبب رياح محلية في نزول المطر فقد ألقى السكان باللوم على القائمين بالتجربة مدعين أن الفيضانات نتجت عن تجاربهم بعد هذا الاستعراض الموجز نستطيع القول إن زراعة الغيوم علم حديث يحتاج إلى سنوات، وربما عقود عديدة قبل أن تتكامل مكوناته ومقومات وجوده.
ومما لا شك فيه أن القيام بذلك يتطلب توافر ظروف طبيعية ملائمة وتقنيات متطورة ومعدات باهظة التكاليف، وخبرة علمية عالية التخصص وصبر ودأب وأناة لإنجاز بعض النجاح الذي يكون محدودا عادة برقعة أرضية صغيرة ولكنه قد يوفر بصيص أمل نحو مستقبل أفضل.