بجانب سمو وضخامة ما حققه نجيب محفوظ في حقل الرواية مما جعله بحق سيد الرواية العربية ذات المستوى العالمي، فقد أبدع في فن القصة القصيرة ثلاث عشرة مجموعة مهمة على المستوى الفكري والجمالي تحتاج لعديد من الدراسات التحليلية لمعرفة جوهرها وعلاقاتها بعالمه الروائي الباهر.
سنحاول أن نتوقف هنا عند واحدة من أهم - وأبرز مجموعاته القصصية التي لم يسلط عليها الضوء النقدي، وهي مجموعة (التنظيم السري) لأننا نرى فيها محاولة غير منتهية، مفعمة بالرغبة في إعادة تركيب وتشكيل جزئيات وقع حياة المدينة، وفي نفس الوقت هي مشاركة في البناء الخلاق لعالم لا يزال في طور التكوين.
رؤية طازجة للحياة والموت
إنها مجموعة قصصية حافلة بعمق وثراء الرؤى الفكرية والفلسفية النافذة البصيرة التي يتمتع بها نجيب محفوظ في مناقشة الهم العام والخاص وقضايا الواقع بجوانبه السياسية والاجتماعية والأخلاقية، كذلك والأهم تقديم رؤية طازجة لمعنى الحياة والمصير والموت والجنس والحب والعدالة، وكل ذلك في إطار رؤية سياسية شاملة لعلاقة الإنسان بالسلطة وتشخيص ومناقشة دوامة التقلبات السياسية والاجتماعية والأخلاقية التي تمر بها بلادنا كجزء من اللوحة العالمية البانورامية.
ولعل إلقاء نظرة إجمالية في مستوى الانطباع على مجموعة (التنظيم السري) تؤكد لنا أن المحاور الرئيسية التي تدور حولها موضوعات القصص كالآتي:
أولا: تأمل واستقصاء فلسفي عن جوهر ومعنى ودلالة الحياة البشرية كملهاة ومأساة، يتحقق ذلك المعنى في كل من قصص (السيد "س") و (في أثر السيدة الجميلة) و (شارع ألف صنف).
ثانيا: نظرة رمزية ساخرة تحاول مناقشة تبدل وتغير العلاقات السياسية والاجتماعية والأخلاقية في مصر في السنوات الأخيرة، ونجد ذلك يتحقق في قصص (البقاء للأصلح) و (الفأر النرويجي) و (قاتل نديم) و (تحت السمع والبصر) و (التنظيم السري).
ولعله طموح مرهق ودليل على اكتمال ذرى النضج الفني والفكري عند نجيب محفوظ محاولته عبر قصص المحور الأول أن يشيد ويبني رؤية ومعنى رمزيا متعدد الأبعاد، قد يعتمد الوصف والتحليل والتخيل لمعنى ولغز الحياة البشرية عبر موضوع من لحمة وسدى وعبق الحياة المصرية. غير أنه يخلق خرافة أسطورية كثيفة ومعتمة تستشعر فيها امتلاك الفكر المتكبر الذي يريد أن يعطيها معنى ودلالة ومغزى.
تأخذ قصة (السيد "س") شكل المنولوج الفلسفي المتأمل لرحلة الحياة قبل الميلاد (عبثا أحاول تذكر حياتي في مجراها المفعم بالوجود قبل ساعة الميلاد، تلك النبضة المنبثقة من تلاقي جرثومة متوترة ببويضة متلهفة في أول مأوى آمن يتاح لي، في أي غيب كنت أهيم قبل ذلك منطلقا مع تيار متصل غير محدود من الذكور والإناث تشارك في مهرجانه قوى عديدة من النبات والحيوان وعناصر الطبيعة من ماء وتراب وحرارة وبرودة في تناغم مع دورة الأرض والقمر والشمس في حضن درب التبانة العظيم الماضي في حوار دائم مع دروب لا نهاية لها).
ذاكرة خاصة
إن من حسن الطالع عند الكاتب أن الأشهر التسعة المنقضية في الظلمات لم تتلاش في العدم، حفظتها من الضياع ذاكرة خاصة غير الذاكرة المرصودة للحياة اليومية، أما الحياة اليومية فهي تتشكل من غزو أمراض عدة تفسد مذاق الحياة، ثم تتطفل الحضارة بثقلها لينتصب الوافد الجديد في قالب مهذب يسيطر فيه على أجهزته المختلفة ويتعلم المشي والكلام، ويستعان على ذلك بالحوافز والردع، ولا بأس بالزجر بل والضرب، وتلوح السعادة كخيال لا يتحقق أبدا. ويبدأ الإنسان عن طريق الآخرين يعرف الله، جحيمه قبل جنته وشياطينه قبل ملائكته، ويعرف نعمة الخيال في أشد حالات الضيق ويخلق الحياة في الجماد، ويبدع الحكايات، ويخوض الحياة والتعلم وإتقان صنعة، والزواج ومشاعر الأبوة و (نصحو ذات عيد ميلاد فإذا بالشباب قد ولى وصمتت أهازيجه وجاء عصر العقل والكهولة والشيخوخة، وتتابع أمام عيني شريط حياتي بجميع ما حفل به من متناقضات وعبر، وكلما شيعت صديقا أو زميلا إلى مثواه الأخير لاح لي يومي وهو يقترب).
ويتبدى النفس الملحمي والنظرة الشاملة والسرد الكلاسيكي في بناء هذه القصة عند نجيب محفوظ مما يميز عطاءه القصصي عن التمسك بشروط وسمات القصة القصيرة، فالقصة القصيرة عنده ليست لحظة ولا موقفا ولا لقطة ولا نقطة على منحنى الطريق، بل هي كلية ذات موضوع جوهري مثقل بالحكمة والخبرة وزمن أبدي يتقصى عملية الخلق والميلاد ورحلة الحياة وسعي الإنسان عبر دروبها الملتوية وحلمه الأبدي في الطمأنينة والأمن والسعادة والحرية وتذوق الجمال، غير أنه يبدأ وينتهي في دورة أبدية تثير الشفقة والحيرة والتأمل. إن القصة عند نجيب محفوظ تجاوز حواشي الحياة ومظهرها إلى لبها وترنو للبعيد المثقل بالجوهري.
أما قصة (في أثر السيدة الجميلة) فهي في الظاهر قصة مطاردة رجل لامرأة جميلة التقى بها في الصباح وظل يتبعها طوال اليوم حتى الغروب واختفائها ووقوعه في حفرة لا يقدر على الصعود منها، أما ما ترمز إليه من دلالة ومعنى فهو أمر أبعد من محدودية هذه المطاردة. إنها تجسد بالصورة والرمز سعي الإنسان وراء أمل جميل مراوغ مخاتل وبحث عن حقيقة علاقات حميمة بين البشر وتشوق وتشوف إلى الاكتمال والتحقق.
ولنتابع الإشارات والمجازات في التصوير التي تكون سرد القصة ونسيجها التشكلي لندلل على ذلك.
(ذات صباح مبكر دافئ صادفتها (رمز لبداية الحياة) ومنذ النظرة الأولى انشرح صدري بقوة عجيبة واستسلم قلبي بلا قيد أو شرط كأنها غاية الدنيا وثمرتها النهائية، هي ما أريد وما تعلو على جميع ما تعد به الدنيا من جاه ومال وسعادة ونسيت شواغلي وشعرت بأني أبغي شيئا محددا هو ألا أنفصل عن هذه المرأة).
وتبدأ المطاردة حيث تمر بمرحلة المرض (رمز لدخول المرأة المستشفى فترة) ثم خروجها وسيرها حتى ميدان التحرير حيث الصراع مع الآخرين ولقاء المرأة مع رجل ضخم قوي البنيان وجلوسها معه فترة في أحد المحلات، ثم تعود وتنحرف نحو دكان ساعاتي (رمز لمرور الزمن) كل ذلك وهو يسعى للفت نظرها ومحاولة التحدث إليها وهي لاهية عنه غير أنها تشعر بمطاردته لها، ثم تدخل مكتبة (الفجر الجديد) (انظر دلالة الاسم) وتمد يدها البضة القمحية إلى كتاب (القوى الخفية) (انظر مرة أخرى دلالة الاسم) ثم تستمر في السير حتى تدخل مطعما أنيقا ويتبعها ويجلس بالقرب منها يأكل مثلما تأكل، وتعاود السير وهو يتبعها غير أن التعب يتسلل إليه ويبدأ في اليأس من الوصال وتحقيق رغبة التعارف والتواصل، وتبدأ عتمة الغروب (رمز النهاية) ويسقط في حفرة (وشممت رائحة ترابية عميقة لم أعهدها من قبل ولم يبق مني على السطح إلا عنقي ورأسي، حاولت الخروج ولكن خذلتني قواي الخائرة، وأرسل عيني صوب المرأة بآخر ما أملك من طاقة على اللهفة فلا أعثر لها على أثر، أطلقت إرادتي وأشواقي وهيهات أن ألحق بها، الأمر يقتضي معجزة إن يكن ثمة مجال للمعجزات، وانتظرت أن يقترب مني عابر سبيل لأستنجد به، وبلغ مني الإعياء غايته فأسندت رأسي إلى حافة الحفرة، مستسلما إلى قدري).
هكذا ينتهي سعي الإنسان بفقدان للهدف والمعنى وتخفق الإرادة ويدفن في القبر مستسلما لقدره بعد طول مجاهدة.
مرة أخرى يلخص نجيب محفوظ وباقتدار في قصة قصيرة رؤية إنسانية ذات شمول حتى تتجاوز المحدود والممكن وترنو إلى مناقشة قضايا ميتافيزيقية وكونية تتحدث عن سعي الإنسان ودأبه وجهده خلف سراب ولغز الحياة، ونهايته مستسلما لقدره. وكل ذلك في بناء مركب ولغة ساطعة مثقلة بعمق النظر الفلسفي والتأمل وخبرة الحياة، غير أنها لا تقع في برودة التجريد بل تتجسد بالصورة والرمز والحدث والشخصية المنتقاة في ذكاء وشفافية من صميم لحمة الحياة المصرية بعبقها وعطرها الأسطوري.
الفنان وقدرته على قراءة المستقبل
والمحور الثاني من قصص المجموعة هو عدة قصص تناقش بواقعية رمزية دوامة التغيرات والتناقضات في قلب جدل العملية الاجتماعية في مصر في السنوات الأخيرة، وما شهدته العلاقات الاجتماعية والصراعات السياسية من اتجاهات جديدة، وعلى عادة نجيب محفوظ في إبداعه الروائي يرصد ويحلل ويجسد صراع التيارات السياسية والعقائدية بواقعية نافذة وصدق وجرأة وقدرة على التنبؤ بحركة الأحداث ومصير الصراع الاجتماعي ويقرأ مستقبله بشفافية فائقة الحيوية.
يتحقق هذا المعنى في قصة (البقاء للأصلح). يقول صاحب البيت إنه لا يحمل للدنيا هما فالرزق موفور، وبيته يسكن في الدور الأعلى منه محام يطلق عليه "الأستاذ" وصاحب الدور الأول أفندي له لحية يطلق عليه (الشيخ)، أما البدروم فتقيم فيه (ست محسنة رضوان)، ويدعونها (المحمل) لسمنتها، وذات يوم يحضر الأستاذ ساكن الدور الأعلى، ويخبر صاحب البيت أنه في حاجة إلى البدروم والدور الأول ويخبر صاحب البيت أن (الشيخ) ساكن الدور الأول من الخطرين وأنه جعل من شقته ملتقى لنفر من التيار الديني المتطرف، أما البدروم فهو وكر دعارة وأنه سيجعل من البدروم مطبعة ومن الدور الأول دارا للنشر، وبعد يومين يأتي (الشيخ) إلى صاحب البيت فيخبره أن الدور الأعلى شقة الأستاذ خلية هدامة وأن البدروم بؤرة فسق، وأنه يريد أن يستأجر البدروم ليجعل منه مطبعة والدور الأعلى دارا للنشر، وبعد يومين تأتي (الست محسنة رضوان) لصاحب البيت وتخبره بأن الدور الأعلى وكر هدامين وأن الدور الأول وكر منحرفين وربما تحول المكانان إلى مخزنين للذخيرة، وهي ترغب أن تجعل من الدور الأول كافتيريا والآخر مطعما على أحدث طراز، وفي تلك الليلة اقتحم رجال الأمن الشقتين وعثروا على أدلة بينة وختمت الشقتان بالشمع الأحمر (وكان لست محسنة ما أرادت وتحول بيتنا إلى كافيتريا ومطعم على أحدث طراز، في بادئ الأمر ساورني شك في نجاح المشروع لبعد مكانه عن وسط المدينة، ولكن سرعان ما أذهلني نجاحه، وإقبال السيارات الفارهة عليه حاملة أناسا ما كان يخطر ببالي أنهم سيشرفون بيتي المتواضع بحال من الأحوال، المنة لله لم أحمل في الدنيا هما).
والرمز هنا واضح لا يحتاج لشرح، إنها مصر بما فيها من تيارات اليسار والتيار الديني المتطرف وكلا التيارين مصيره السجن والمطاردة، ويبقى الأصلح أن تتحول مصر لكافتيريا ومطعم يمرح فيه السفهاء من كل مكان وهي رؤية متشائمة عن مصير الصراع السياسي تحمل لنا تحذيرا، وهذا نهج نجيب محفوظ للرمز بالمكان لمصر وما تحمله في أحشائها من صراعات وتيارات مثل رمزه لمصر في زقاق المدق، وبنسيون ميرامار، وقهوة الكرنك، والعوامة في ثرثرة فوق النيل، غير أن الرمز هنا مباشر وجارح وشجاع.
تحذير فني
إن التسيب والانهيارات الاجتماعية والأخلاقية وعدم فاعلية الأحزاب السياسية في قيادة الشارع السياسي ربما تؤدي إلى مصير معتم يحذر منه نجيب محفوظ كما سبق أن حذر في ميرامار وثرثرة فوق النيل وصدقت نبوءته، وحدثت النكسة.
لذلك فالواقع السياسي والاجتماعي يغلي في مصر وتنبت تحت الأرض التنظيمات السرية من كلا التيارين ترسم وتخطط لقلب النظام، لذلك تأتي قصة (التنظيم السري) كدليل على سيادة هذه الظاهرة، ويغرقنا نجيب محفوظ في آليات وطقوس التنظيمات السرية ودهاليزها وغموضها وجدية أعضائها وسريتها وتكتمها في العمل وعلاقات الأفراد واختيارهم للعمل في صمت، إن الأوامر تصدر من أعلى من قوى مجهولة والتنفيذ واجب بلا مناقشة ولا جدوى من الرجوع غير أن المطاردة والملاحقة من الأمن تحدث انقساما في التنظيم وفزعا للأعضاء وتجمدا في عناقيد التنظيم، ويبقى الانتظار المملول المجهد للغد الذي يبدو أنه لن يحقق الآمال.
غير أن البعد السياسي الظاهري لبناء قصة (التنظيم السري) يخفي بعدا آخر أكثر عمقا ودلالة، إنه يناقش قضية أشمل هي جبروت وسطوة نظام الحياة وأبديتها ونظام القدر وتسلطه وسطوته وتحكم قوى مجهولة في مصير وحرية الإنسان، إن الخاص والعام يذوبان هنا في وحدة متسقة.
وهذا التحليل لبعض قصص هذه المجموعة يثبت مرة أخرى أن القصة عند نجيب محفوظ تنظير، وشهادة على الواقع المصري منذ الثلاثينيات وحتى الآن، بكل تياراته السياسية والاجتماعية والدينية، إنها بانوراما شاملة لسؤال دائم طرحه في عالم نجيب محفوظ الروائي.
ما هي حياتنا وما يجب أن تكون عليه؟