مختارات من:

الهندوس واضطهاد المسلمين في الهند

محمد السيد سعيد

هذا الحادث وقع في مدينة هندية صغير تكاد تكون مجهولة، دمر فيه أحد المساجد التاريخية. وقد فرض تحديات هائلة، هندية وإسلامية وعالمية. وربما قد يبرهن أنه إحدى العلاقات المهمة في تحولات العالم الراهن.

في يوم السادس من ديسمبر عام 1992 تجمع مئات الآلاف من المتهوسين الهندوس في حشد جماهيري هائل استجابة لدعوة وجهتها الأحزاب الأصولية الهندوسية بزعم القيام بمجرد مسيرة حول مسجد " البابري " بمدينة " أيوديا " بولاية " أوتار براديش " في الهند. وخلال ساعات قليلة كان هذا الحشد الهائج قد أتم في الواقع تدمير أجزاء كبيرة من هيكل هذا المسجد وإقامة ضريح رمزي للإله الهندوسي " رام " مكان بعض الأجزاء المهدمة، وذلك حتى يصبح مستحيلا إعادة بناء المسجد بالصورة التي كان عليها من قبل.

وقد وجه حادث مسجد البابري رسالة خطيرة إلى الضمير العالمي فحواها أن قوى التعصب والكراهية والعنف المستندة زورا إلى الدين قد انفلت عيارها وربما لها اليد الطولى في السياسة العالمية!

ولكي نفهم المدى الكامل لهذه الرسالة يتعين علينا أن نضع حادث مسجد البابري في سياقه العالمي. فثقافة اثتعصب والعنف ليست شيئا جديدا في الساحة السياسية الدولية. غير أنها حتى وقت قريب كانت مجرد محور فقط من محاور عديدة للسياسة، بمفهومها العام. كما كانت التيار الأضعف والآفل في الحياة السياسية الدولية. ولم تتمكن هذه الثقافة من أن تفرض نفسها كليا إلا حيثما واجهت هياكل دولة هشة وضعيفة مثلما هو الحال في إفريقيا تحت الصحراء. وحتى في هذه الحالة كانت تلك الثقافة تهرب رسالتها عبر فكر سياسي وأيديولوجي آخر أكثر قدرة على مخاطبة ضمير العصر، ويبدو أن ذلك يتغير الآن بما يسمح بالصعود السريع لقوى التعصب والكراهة والعنف الديني والقومي والعرقي والطائفي.

انهيار السوفييت.. وعجز الديمقراطية

ولاشك أن انهيار الاتحاد السوفييتي وخبو نجم الفكر الاشتراكي قد ساهم أكبر مساهمة في هذه النتيجة المحزنة. فقد صار المجال الجغرافي السياسي الواسع الذي شغله الاتحاد السوفييتي المنحل كتلة معقدة وملتهبة من الصراعات والمنافسات التي تدور على جميع المحاور: القومية والدينية والجهوية، كما أن ما سببه هذا الانهيار من اختلافات خطيرة في موازين القوى بشرق وجنوب أوربا مثل فرصة ذهبية لانقضاض ثقافة التعصب والعنف والكراهية على الهياكل السياسية التي أنتجتها التوازنات الجديدة، وهو ما يظهربوضو في حالة يوغسلافيا، وقد يتسع مداه ليشمل كل البلقان وربما منطقة أوسع من أوربا الجنوبية والشرقية والوسطى، إلى جانب الجمهوريات الجنوبية للاتحاد السوفييتي المنحل.

كما ساهم في هذه النتيجة أيضا خواء وضعف الجيل الحالي من القيادات الأوربية، والأزمة الأخلاقية والسياسية في أوربا الغربية والولايات المتحدة. فقد اتجه الرأي العام في هذه المجتمعات إلى تفضيل التحلل من المسئوليات السياسية الدولية لصالح التركيز على الشئون الداخلية. وكان لهذه العوامل دور مهم في عجز الديمقراطيات الغربية عن التدخل من منطلقات إنسانية وقانونية لإعادة السلام والاستقرار في المناطق التى تلتهب بثقافة التعصب، في أوربا ذاتها- وهنا تبرز حالة البوسنة والهرسك- وفي العالم ككل.

ولاشك أن انفلات ثقافة التعصب والكراهية والعنف بين الأديان والشعوب في مناطق عديدة من العالم يعود إلى أسباب اقتصادية واجتماعية وثقافية معقدة. وهذه الأسباب تزيد أزمة الدولة عمقا، كما تفاقم من إشكالية التوجهات الأخلاقية بعيدة المدى للإنسانية ككل. وفيما يتصل بالعالم الثالث، فإن النتيجة المباشرة لهذا الانفلاث هي تعميق التخلف بكل جوانبه وتفاقم العجز عن تجاوزه يوما بعد يوم. هذا إلى جانب ما يؤدي إليه من افتراس لملايين من البشر بسبب آليات العنف والمجازر البشرية المنصوبة في أماكن عديدة من العالم، وممارسات التطهير العرقي.

في إطار هذه الصورة العامة تكتسب أحداث أيوديا مغزاها الحقيقي. فهنا أيضا لا تعد ثقافة التعصب والكراهة والعنف الديني أمرا جديدا، فقد نشأت منظمات متعصبة باسم الهندوسية الأصولية منذ بداية هذا القرن، واتخذت من اضطهاد المسلمين أحد أهم محاور عملها السياسي. وإنما يكمن الجديد في أن هذه القوى تضخمت كثيرا وصارت تتصرف بغطرسة وثقة كاملتين، وأن الدولة المركزية والنخبة السياسية العلمانية الديمقراطية كادت تفقد السيطرة وحس المبادرة في الموقف السياسي الداخلي الراهن.

نتائج خطيرة محتملة

ولو تصورنا أن الهند قد سقطت تماما بتأثير التضخم الحلزوني لدوائر العنف تحت سيادة ثقافة وقوى التعصب والكراهة فسوف يكون لذلك نتائج إقليمية وعالمية غاية في الخطورة.

وربما تكون النتيجة الأولى هى سقوط تجربة الهند الفريدة في الديمقراطية السياسية. وسقوط هذه التجربة يضرب في الصميم الآمال المعقودة على التطور الديمقراطي في العالم الثالث ككل. ذلك أن الديمقراطية الهندية صمدت خلال نحو نصف قرن منذ استقلال الهند عام 1947 في الوقت الذي كانت فيه التجارب الليبرالية والديمقراطية الأخرى في العالم الثالث تسمقط تباعا بتأثير عوامل معقدة وهو ما عزز الاعتقاد الشائع بأن الديمقراطية لا تصلح في العالم الثالث وأنها تتناقض مع ثقافاته.

أما النتيجة الثانية فتتصل أيضا باحتمالات انكسار الوحدة السياسية للهند وتعرضها للتفتت على النحو نفسه الذي شهدناه في حالة الاتحاد السوفييتي. والواقع أن النخبة السياسية في الهند تشعر بتوجس بالغ حيال هذا الاحتمال. وهم يتحدثون عن نظرية دومينو مفادها أنه إذا سقطت دولة كبيرة متعددة القوميات مثل الاتحاد السوفييتي، فقد يدفع ذلك نحو سقوط دول أخرى من التركيبة نفسها. فالهند هي مركب معقد من الأديان والقوميات، يشكل فيها الهندوس نحو 80% من السكان، ويشكل المسلمون نحو 11% ويتوزع باقي السكان بين ديانات شتى أهمها السيخ والبوذيون والمسيحيون، وأقليات دينية أصغر. ومن الناحة القومية واللغوية لا يتحدث لغة الهند غير 30% من السكان، ويعترف الدستور بـ 16 لغة إقليمية. وفوق ذلك، فإن مخاوف النخبة الهندية من تدمير وحدة الهند ليست أمرا افتراضيا، إذ إن البلاد تشغى بالفعل بالحركات الانفصالية والعرقية والطائفية التي يذهب بعضها إلى استخدام العنف بكل صوره، بما فيها الإرهاب والاغتيال السياسي. وقد راحت السيدة أنديرا غاندي وابنها السيد راجيف غاندي رئيسا وزراء الهند ضحية هذه الحركات.

وإذا ما تصورنا سقوط الهند في قبضة الاتجاه العام لتفتت الدول متعددة القوميات والأديان، فسوف يبعث ذلك موجة هائلة من عدم الاستقرار في جنوب آسيا، وقد تمتد هذه الموجة إلى أجزاء معينة من غرب وشمال آسيا، بما يؤدي إلى فوضى عامة. فوزن الهند الديموجرافي وحده- حيث وصل عدد سكان الهند في أول مارس عام 1991 إلى 5، 844 مليون نسمة، وهو ما يجعلنا نقدره في أول مارس عام 1993 بما يزيد على 900 مليون نسمة- يكفي لتحويل أي حادث داخلي كبير إلى موفف إقليمي وربما عالمي كبير أيضا.

أما النتيجة الثالثة فترتبط بمجال خاص للعلاقات الدولية، وهو علاقة المسلمين بالعالم المحيط بهم. ويكتسب هذا الموضوع حساسية خاصة بالنسبة لنا نحن العرب. إذ تكتسب أحداث الهند في ديسمبر ويناير الماضيين أهمية خطيرة بسبب أنها جاءت متزامنة تقريبا مع أحداث مشابهة في مناطق عديدة من العالم.

ومن المؤكد أن رد الفعل الميكانيكي هو استجابة غير سليمة من الناحيتين الأخلاقية والسياسية، غير أنه سيكون من الصعب للغاية تجاوزه جذريا بين جموع المسلمين في ظروف اضطهاد متزامن. وقد مثلت جدلية الاضطهاد هذه الأساس الموضوعي لانتشار ثقافة التعصب والكراهية والعنف بين الجماعات المنتمية للأديان الكبرى في العالم. وكان المأمول أن ينتقل النظام الدولي من جدلية الاضطهاد الديني إلى جدلية مناقضة تقوم على التسامح والاستنارة والحوار بين الجماعات المختلفة دينيا. ولاشك أن فشل هذا الانتقال المأمول من جدلية الاضطهاد إلى جدلية التسامح والتنوير هو أحد مظاهر خيانة التنوير كمشروع سياسي/ فلسفي في النظام العالمي الراهن.

مغزى الأحداث بالنسبة للهند

لم تنجح محاولة أطراف رئيسية في السياسة الهندية تواطأت أو ساهمت في تدبير حادث هدم مسجد البابري في تصوير الحادث وكأنه انهيار مؤقت وزائل للسيطرة على الجماهير المتعصبة التي مستها حالة من الهندوس واضطهاد المسلمين في الهند الهستيريا الدينية فجأة، وبحيث لم تملك الأحزاب المنظمة للمسيرة ولا سلطات الولاية التي تنتمي لحزب بهاراتيا جاناتا دفع النتيجة النهائية، فالصحافة والأحزاب التقدمية والديمقراطية في الهند كانت قد سجلت بالصوت والصورة "بروفات " عملية الهدم قبل أن تتم فعلا ببضعة أيام، وهي بروفات كان يقودها مسئولون كبار في الأحزاب الهندوسية التي دعت للمسيرة. ووفر هؤلاء المسئولون الإطار التحريضي والتنظيمي، بل وا لآلات والمعدات اللازمة لعملية الهدم التي حسبت هندسيا وجربت عمليا بهدوء أعصاب ويقين كاملين. كما أن المسئولين بحكومة ولاية أوتار براديش قد تغيبوا عمدا عن مواقم العمل حتى لا ينجح معهم أي اتصال يدعوهم للتصرف وفقا لمسئولياتهم القانونية. وكذلك تعمد رجال البوليس الذين كانوا على مقربة من الأحداث بأعداد كبيرة تجاهل الموقف الذي كانت أحداثه تدور أمامهم وتصرفوا بسلبية كاملة وبدرجة ملحوظة من التواطؤ. أما الحكومة المركزية التي تتشكل من كبار المسئولين في حزب المؤتمر الهندي، فقد تجاهلت كل التحذيرات التي توافرت بكثرة عن قرب إتمام مؤامرة الهدم، ورفضت اتخاذ التدابير الدستورية والقانونية الضرورية لمنع هذه المؤامرة وفرض القانون والنظام.

ويعد الضعف الذي ظهر من جانب الحكومة المركزية بزعامة ناراسيمها راو أمرا جديدا ومثيرا للقلق الشديد. ويمكننا أن نفهم ذلك بمضاهاة سلوك الحكومة المركزية في نهاية 1992 وبداية عام 1993 بالأداء المتميز الذي واجهت به حكومة ائتلافية ضعيفة بزعامة السيد سنغ المحاولة نفسها من جانب الأحزاب الأصولية الهندوسية لهدم مسجد البابري في أكتوبر عام 1990، إذ تصرفت الحكومة وقتئذ ومعها حكومة ولاية أوتار براديش التي يقع فيها المسجد بحزم واستقامة كاملين أمام الحشود الهائلة التي تجمعت حول المسجد. واعتقل البوليس آلافا من هؤلاء الغوغاء، بمن فيهم زعيم حزب بهاراتيا جاناتا نفسه الذي قاد محاولة هدم المسجد في ذلك الوقت.

وإذا كانت حكومة حزب المؤتمر، قد ظهرت بهذا الخوار والضعف عام 1993 بالمقارنة بحكومة سابقة عليها عام 1990، فربما يعود ذلك إلى خشيتها من الاصطدام المباشر بالأحزاب الأصولية والرأي العام الهندوسي، بعدما نمت ثقافة التعصب والكراهية الدينية إلى حد جعل الصدام معها أمرا مكلفا من الناحية السياسية، وتقدر شخصيات عديدة من النخبة السياسية والثقافية في الهند أن المرجح هو فوز الأحزاب الأصولية الهندوسية المتعصبة بالانتخابات العامة المقبلة، بسبب التنامي السريع لشعبيتها وخاصة داخل الطبقة الوسطى الحديثة التي وقفت تقليديا خلف حزب المؤتمر.

ويكشف هذا التقرير عن حقيقة أن التحريض القومي الهندوسي المعادي للمسلمين وللأقليات الدينية الأخرى انطلاقا من ترويج مفاهيم مغلقة وجامدة ومتعصبة ومشحونة بعاطفة شديدة التطرف هو الآن وسيلة للنفوذ وسط الرأي العام الهندوسي وطريق إلى السلطة السياسية.

وهكذا قد نواجه خلال نحو عام من الآن بحكومة هندية تتشكل من الأحزاب الهندوسية المتعصبة يكون برنامجها الرسمي هو تحقيق النقاء الديني/ القومي للهند، وبناء وطن قومي هندوسي أو ما يسمونه هندو راشترا Hindu Rashtra . وقد يكون من أهم نتائج هذا الاحتمال تدمير وحدة الهند السياسية أو تدمير الديمقراطية الهندية أو كليهما معا ودفع الهند إلى الفوضى والتحلل والعنف.

وقد رأينا بالفعل نموذجا مصغرا مما قد تنتهي إليه الأمور في هذه الحالة. فخلال ثلاثة أيام من 9 حتى 11 يناير عام 1993 شهدت مدينة بومباي أكبر المدن الهندية والعاصمة الصناعية والتجارية للهند موجة هائلة من أعمال القتل والحرق والملاحقة ضد المسلمين، الأمر الذي أسفر عن استشهاد ما يربو على ألفي مسلم وبضعة آلاف من الجرحى، وخسائر مادية هائلة، إضافة إلى نزوح مئات الآلاف من المسلمين، وأغلبهم من مهاجري بنجلاديش والبنغال هربا بحياتهم من المدينة التي ظلت لشهور بعد ذلك في حالة شديدة من التوتر والقلق. وقد سلمت هيئات ومنظمات ديمقراطية وإسلامية هندية إلى المحاكم عشرات من الشرائط المسجلة للاتصالات التليفونية لكبار ضباط البوليس العاملين في المدينة يتعاطفون ويحرضون فيها على عملية إحراق المساجد وأعمال القتل والملاحقة وإشعال النار في ممتلكات المسلمين.

إن إدراك المغزى الكامل لهذه الأحداث يدعونا إلى محاولة تفسيرها بصورة علمية. وهنا ندلف إلى طائفة واسعة من التفسيرات التي تتردد في الصحافة الديمقراطية في الهند، وبين دوائر النخبة السياسية النهروية.

تفسيرات متنوعة

وهكذا تشيع مصادر صحفية وحزبية نظرية قوامها أن أحداث مسجد البابري في ديسمبر وبومباي في يناير، لا تخص المسلمين مباشرة، وإنما كان وراءها أهداف وقوى اقتصادية أو اجتماعية معينة. في إحدى الصياغات لهذه النظرية يقال إن فئات معينة من المضاربين في الأرض قد حرضوا على أحداث الصراع الديني، حتى تحرق الاكواخ الصفيحية التي تمتد لعدة حادث مسجد "البابري" رسالة خطيرة إلى الضمير العالمي. كيلو مترات في بومباي وعدد كبير آخر من المدن الهندية الكبرى، والتي عادة مايسكنها المسلمون واللاجئون الفقراء من بنجلاديش ودول أخرى محيطة فى الهند حتى يتمكنوا من بيع هذه الأراضى. وفي صيغة أخرى يقال إن الطائفة العليا في نظام المكانات الهندي الجامد المعروف بالتعبير الإنجليزي Caste وهي طائفة البراهما قد حرضت على التنكيل بالمسلمين ورموزهم الدينية من أجل إحياء الهندوسية الاجتماعية وبالتالي وقف التحلل الجزئي الذي أصاب نظام المكانات منذ الاستقلال، وهو الأمر الذي يعيد هذه الطائفة للسيطرة الكاملة على المجتمع الهندي من جديد بعدما أدى التحسن النسبي في أوضاع الطوائف الدنيا وخاصة الباديت والمنبوذين إلى تمردهم على سلطة البراهما.

غير أن الصيغة الأكثر مصداقية تنسب تفاقم الصراع الديني إلى الأزمة الاجتماعية التي تسببت عن التحول الجذري في الاستراتيجية الاقتصادية للهند. فقد أقلعت حكومة ناراسيمها راو عن التقاليد الاستراتيجية الاقتصادية التي أرساها نهرو منذ الاستقلال، فعوضا عن استهداف الاعتماد على الذات والاستقلال الاقتصادي وتصنيع الهند بإمكاناتها الذاتية وضبط مستويات الأسعار والأجور، وغير ذلك من عناصر اشتراكية الدولة، عمدت الحكومة الحالية إلى إعادة إدماج الهند في النظام الاقتصادي العالمي، وتطبق لهذا الغرض برنامج التكيف الاقتصادي المفروض عليها من جانب صندوق النقد الدولي وتطبق سياسات تستهدف تطبيق نظام السوق الحر. وأدى ذلك إلى أوضاع اقتصادية خانقة حيث وصل التضخم إلى معدلات غير مسبوقة، وتعاظمت بسرعة معدلات البطالة وخاصة بين الفقراء والشباب، هذا إلى جانب استفحال المشكلات التقليدية للهند في مجالات الإسكان والصحة حتى في أكثر المدن الهندية ثراء مثل بومباي.

شعار الثقافة الوطنية

ومن هنا يجب أن نلفت النظر إلى الدور الرئيسي لأدوات وآليات نشر ثقافة التعصب والكراهية والعنف القائم على إسناد ديني: أي إلى دور الأحزاب الأصولية الهندوسية.

ويعد حزب بهارتيا جاناتا أهم قوى الأصولية الهندوسية. وهو يطرح شعارا بسيطا قوامه "الوطنية الثقافية"، ويعني بذلك أن الوطنية في الهند تستند إلى الديانة (أو بالأحرى الديانات) الهندوسية، كما يتضمن هذا الشعار نبذ مبدأ الدولة الديمقراطية العلمانية، وينادي الحزب بإحياء الوطنية الهندوسية التي يرى أنها قد همشت وفقا للدستور الهندي. وتصطدم فكرة الوطنية الهندوسية أساسا مع واقع التاريخ الهندي، إذ يرى هذا الحزب أن الإمبراطوريات الإسلامية في الهند - وتحديدا الإمبراطورية المغولية- قد ظلمت الديانات الهندوسية بأن حاولت إبادتها، وهو ما عبر عن نفسه بهدم المعابد الهندوسية، وإقامة مساجد مكانها. ولذلك يكاد الحزب أن يلخص دعوته الأيديولوجية كلها في المطالبة باستعادة مواقع المساجد الهندية التاريخية وتحويلها إلى معابد هندوسية من جديد. وهنا تأتي أهمية المطالبة بهدم مسجد البابري الذي يرجع تاريخه إلى 460 عاما وهو المسجد الذي يعد من أهم معالم الإسلام في الهند.

وحيث إن هذا الحزب يعبر عن رؤى ومصالح طائفة البراهما فمن الطبيعي أن نجده يذهب إلى حد اعتبار نظام المكانات الهندية Cate System جزءا لا يتجزأ من شخصية ووطنية الهند.

وهذه الطائفة بالإضافة إلى دفاعها عن نظام الطوائف الجامد ومحاولتها إحياءه ترفض أيضا التقاليد النهروية التي سعت لإقامة اقتصاد هندي مستقل عبر سياسة شاملة للتصنيع الوطني بالإحلال محل الواردات. والحزب بالتالي يرفض حتى برنامج الإصلاح الاقتصادي الليبرالي الذي يطبقه حزب المؤتمر حاليا وينادي بتطبيق برنامج أكثر جذرية حتى من ذلك الذي يطرحه صندوق النقد الدولي لضمان إدماج الهند في الاقتصاد العالمي.

العرب والتعصب الهندوسي

تتنوع استجابة أجيال المسلمين ومدارسهم السياسية والثقافية في الهند حيال المحنة التي يتعرضون لها جميعا مع تصاعد المد الأصولي الهندوسي العنيف، وخاصة بعد أحداث 6 ديسمبر عام 1992، وتتطرف بعض هذه الاستجابات من أقصى درجات العنف حيث هناك دعوة للجهاد، إلى أقصى درجات المرونة حتى تصل إلى دعوة للتفاوضي مع حزب بهارتيا جاناتا أكبر الأحزاب الأصولية الهندوسية والذي يتوقع لى البعض الفوز بالانتخابات المقبلة.

ونحن من جانبنا نتمنى أن يتجاوز المسلمون هذه المحنة بالجمع بين أقصى درجة من العقلانية والاستنارة، والنضال، جنبا إلى جنب مع كل القوى الديمقراطية في الهند ضد الفاشية الدينية بكل صورها.

ولاشك أن إفراز الاستجابة السليمة لهذه المحنة هي شأن المسلمين في الهند أساسا. غير أن العرب يمكنهم أيضا أن يفعلوا أشياء كثيرة لدعم النضال الديمقراطي للمسلمين في الهند، ومن أجل الحيلولة دون تكرار المحنة التي واجهوها هناك في ديسمبر ويناير الماضيين، أو تعرضهم لمحنة أكبر في المستقبل. وفي إطار البحث عن المدخل السليم للتأثير العربي في مجال حماية المسلمين في الهند وهم أكبر تجمع إسلامي في العالم للمسلمين في دولة واحدة، يجب أن نضع منذ البداية الحدود المناسبة للتحرك العربي. ونعني بذلك العناية بأن هناك واجبا أخلاقيا ومعنويا على العرب بشأن حماية المسلمين في الهند من التعرض لممارسات العنف ومحاولات الإبادة أو الإزاحة، وفي الوقت نفسه احترام استقلال الهند وسيادتها وعدم التدخل المباشر في شئونها الداخلية مادامت الدولة قادرة من حيث المبدأ على القيام بمسئولياتها القانونية في حماية مواطنيها جميعا، بمن فيهم المسلمون. ونستنتج من هذه الصياغة لحدود التحرك العربي أن هناك ثلاثة مستويات لهذا التحرك:

المستوى الأول هو بذل الجهود مع الحكومة الهندية لحثهاعلى توجيه أقصى قدر ممكن من العناية بمسئولياتها حيال حماية المسلمين، ودعمها في مواجهة الهجوم الضاري الذي تشنه القوى الأصولية الهندوسية المتطرفة على كل من الديمقراطية والمسلمين.

أما المستوى الثاني فيتمثل في بذل كل صور المساعدة العربية الممكنة للحوار الداخلي في الهند، والذي يستهدف بناء تحالف قوي للدفاع عن الديمقراطية الهندية وبالتالي عن المسلمين في الهند ضد هجوم القوى الفاشية الأصولية، وفي هذا الصدد، فإن الحوارالعربي مع القوى الأساسية من المسلمين في الهند يجب أن يعزز الاتجاه العام لديهم بضبط النفس وتجاوز المحنة عبر مد جسور التفاهم والمحبة والحوار بينهم وبين كل الجماعات والقوى الديمقراطية.

أما المستوى الثالث والأخير فيقوم على الأخذ بأسباب الحيطة والتحسب للاحتمالات الأسوأ، ونعني بذلك إمكان فوز الأحزاب الأصولية الهندوسية بالانتخابات المقبلة واتخاذها من اضطهاد المسلمين سياسة رسمية، أو نشوء مواقف من شأنها أن تؤدي إلى انهيار الأمن والنظام العام وسيادة الفوضى وانحسار حكم القانون. في هذه الحالة، حتى لو كانت احتمالا بعيدا، يجب أن تمد يد المساعدة للمسلمين في الهند لتمكينهم من الدفاع عن أنفسهم وحقهم في الحياة والحرية والمسماواة، بكل الصور الممكنة: الدبلوماسية الدولية والمادية الدفاعية.

محمد السيد سعيد مجلة العربي اكتوبر 1993

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016