عندما نتعقّب سهم زحف الفتوحات -خاصة المبادلات الحضارية غير المسلحة- العربية الإسلامية باتجاه الشرق، نجده متأخرًا لحسن الحظ عن سهم الفتوحات الكبرى، التي كانت ثمرة أصداء الغزوات الأولى ثم حروب الردّة، فإذا تم إخضاع الإمبراطوريتين الأكبر - منذ القرنين السابع والثامن - وهما روما وفارس، تزامنًا مع تأسيس الخلافة الأولى (الراشدين) ثم الأموية فالعباسية، أقول إن سهم الاتجاه نحو حضارات القارتين «الصينية والهندية» تم بصيغة أعمق بكثير مما يدّعيه المستشرقون، هم الذين يلفقون مسارًا انتمائيًا أحاديًا يصبّ في أثينا، وإذا كان هذا يصح نسبيًا على الفلسفة وعلم الكلام والمنطق وأرسطو وسقراط وأفلاطون، فهو لا ينطبق أبدًا على عالم الذائقة الفنية، سواء التصويرية منها، باعتبار «طاوية» الصين اخترعت التصوير بالألوان المائية على رولوهات (لفافات) الحرير منذ القرن الثاني، أو الموسيقية منها باعتبار المعابد الهندية مخترعة للرقص والموسيقى البوذيين تزامنًا مع تلك الفترة الطاوية.
التأثير الأشد غورًا هنا تمّ عن طريق التجربة الذوقية العرفانية أو الصوفية الإسلامية، تكفي مراجعة سريعة للعلاقة ما بين الزهد الهندي (مفاهيم الفناء والبقاء والكافاليا)، والزهد العربي الإسلامي منذ رابعة وزنون (مفاهيم الوجود والعدم والوجد والتواجد والغبطة والطرب والتجلي والسماعي والبصيرة وغيرها) حتى ندرك عمق التوأمية.
ثم توسعت هذه المبادلات لتشمل الكثير من الجزر: مالديف وإندونيسيا وغيرهما، ابتدأت بالتجارة والمبادلات السلمية كما هو خليج مكانتون وسيراف، كانت تجوب السفن الصينية (الكجوك) حاملة في الاتجاهين البضائع والأفكار والحساسيات الذوقية، فانتشر الإسلام بهذه الطريقة في شمال الهند (باكستان ونظائرها)، وفي مقدمة الصين وغيرهما من دول آسيا الوسطى باتجاه آسيا كلها. لعل أبلغ رموز هذه الهجرة الذوقية يمثلها تلاميذ نقيب المصوّرين كمال الدين بهزاد (من أمثال شيخ زادة) الذين أسسوا مثل مدرسة تبريز في الدولة المغولية (في أكرا بلاط أكبرخان) أو في الأستانة بعد أسرهم مع اجتياح تبريز وهيرات من قبل العثمانيين دفاعًا عن التركمان. ثم سيق الفنانون (رسامو المخطوطات أو المنمنمات) الذين أجبرهم تيمورلنك في بغداد وهيرات على مرافقته إلى سمرقند. تبدو في هذا المقام الثقافة الشيعية أم النقشبندية في محترفات الدولة الصفوية (القرن السادس عشر) تمثل الجناح المشرقي من الحضارة والعقيدة الإسلامية، وتمثل بالأحرى البرزخ المتوسط أو الجسر مع الصين والهند في آن واحد.
لابد أن نذكّر القارئ (بهذه المناسبة) بأن معركة تسالي عام 750م التي انتصر فيها المسلمون على الصينيين، افتدى هؤلاء أنفسهم من الأسر بتعليم المسلمين أسرار صناعة الورق والكاغد، وهكذا انتشر في المحترفات الطباعية الإسلامية مثل اللهيب وأصبح يمثل حيًا رئيسيًا في خطط المدينة الإسلامية وهو «حي الوراقين» وتعقدت صناعته وتحسّنت أنواعه وأداءاته، حتى أصبح الصناعة الثقافية الأولى يغذي المكتبات ودور الحكمة والعلم ومدارس المساجد الكبرى، ليحل محل الأدوات الكتابية البالية من حجر أو ورق أو بردي وغيره. نستطيع أن ندّعي أن هذا الانقلاب جعل من العقيدة الإسلامية حضارة ذوقية بالمفهوم الروحي والفني الصناعي. وكما هو الأمر في التبادل الصليبي - الغربي حمل مرّه وحلوه، كذلك الحمل الصيني كانت تشوب عطاءاته الحملات المغولية المريعة.
لعل المثال الساطع على هذا التأثير على المخطوطات الإسلامية رسوم مخطوطة لجامع التواريخ للوزير رشيد الدين، أنجز في النصف الأول من القرن الرابع عشر، أي بعد قرن من تدمير مكتبات بغداد 1258م وهيرات، ونلحظ في رسومه تصاوير صريحة لبوذا، ناهيك عن صينية السحنات والأزياء وأسلوب الرسم، أما تأثير الهند فقد تسرّب إلى الأنظمة الموسيقية (السماعي) في الإنشاد الصوفي، وظل حكرًا على النخبة بعيدًا عن متناول العامة.
خطأ أكاديمي غربي
ولا ينطبق تقسيم الفن الأوربي على تقاليد موروث صناعة الفن العربي الإسلامي لأنه لا يحمل الفرق البيّن نفسه بين الديني والدنيوي. فقد اقترف المستشرقون خطأ أكاديميًا حين قسّموا الفن في المشرق كما هو في المغرب إلى فن تشكيلي (مرتبط بسمو اللوحة المنحوتة والمحفورة وأنواع الأيقونات الدينية) وفن تطبيقي ملتحم مع كل ما هو استهلاكي أو تزييني (ديكوراتيف)، وهو الفرق بالنتيجة بين ما هو ثقافي نخبوي فكري أو روحي (يصبو إلى ما وراء الواقع المحسوس والمادة) وما هو جماهيري استخدامي يومي من الفرش الداخلي والثريات واللوحات في قصور الأرستقراطية إلى أدوات المطابخ الشعبية.
يبدو إذن هذا التقسيم الحاسم متعسّفًا بالنسبة إلى وحدة الصناعات الذوقية التقليدية (العربية الإسلامية)، فهي مرتبطة ارتباطًا عضويًا بوحدة هيكلية المدينة الحضرية ابتداء من تأسيس الكوفة والبصرة وسامراء، وانتهاء بقرطبة وفاس والزهراء وقرطاجة وطنجة وغيرها.
فالفن في هذا المفهوم يطابق معنى «الصناعة»، سواء في الشعر أو الموسيقى، الزجاجيات أو المعدنيات، الخشبيات أم المخطوطات وخيال الظل أو السيراميك والعمارة، لذلك قسّم الفارابي المدن الحضرية إلى مدينة فاضلة ومدينة فاسدة، وقد أكّد ابن خلدون في «مقدمته»: أن «أول ما يفسد بعد العمران صناعة الموسيقى».
والفرق النوعي في اعتبار الفنون يقع في تباين مستواها الذوقي أو العرفاني، وليس في مادتها أو مهنة صاحبها الصناعية، هناك سجاجيد وبسط تفرش على الأرض، وبعضها لشدة تصميمه الروحاني لا تعلق إلا على الجدار ابتداء من أستار الكعبة المشرّفة وانتهاء بما يعلق في الخانقاهات والزوايا الصوفية والمعتكفات والتكايا.
يبتدئ تشكّل تنظيم المدينة من جدار القبلة، يُرصّع في منتصفه المحراب، أشد الصناعات روحانية وقدسية، ممثلاً بوصلة التوجّه، ثم تتوازى الخطط والأحياء مع المسجد الجامع الذي يعانقه بحيث تلتقي المدن الإسلامية جميعها في اصطرلاب الكعبة المشرّفة، وبحيث ترسم في طوبوغرافيتها الكونية حومانًا حلزونيًا مثل مرتسمات الحجيج حول الكعبة المشرّفة.
البرزخ المتوسط في العالم الأرضي
يعتبره الفنان الألماني المعروف بول كليه من أشد العناصر في الفن الإسلامي روحانية وقيمة في دراسة عنه أنجزها قبل وفاته في الأربعينيات محفوظة في «اليونسكو». وذلك باعتباره يمثل البرزخ المتوسط في العالم الأرضي وقدس الأقداس، فهو نافذة تأمل وتصعيد وسمو وصلاة وعبادة بشتى طرزه البالغة الغنى، ومواده العاكسة للضوء، مثله مثل المقرنصات التي تتناوب فيها بهندسة ملتبسة حويصلات التقعّر مع التحدّب، والسطوح الملونة المتأخرة والمتقدمة معًا. نعثر على مثل هذا الالتباس السيميائي في تزجيج السيراميك وانعكاساته في مياه البحيرات، وكأن الصناعات الإسلامية تنحى منحى «النور على النور» تيمّنًا بآية النور، لذلك فهي تعنى بالمواد العاكسة والشفّافة والشافّة حتى تتحوّل المدينة إلى مشكاة متعاكسة المواد مثل الثريا أو الحوار «الكاليودوسكوب» من المرايا المتقابلة.
تضع فلسفة هذه التقاليد الصناعية فن المنمنمات (رسوم المخطوطات) مثله مثل النسخ والورق والترقين والتوضيب والإبرو والتذهيب في الاعتبار النوعي نفسه لبقية الحرف والصناعات التقليدية، لا يعاني بالتالي من أية عزلة عن بقية المهن الذوقية، سواء أكان تجريدًا أم تشخيصًا، فهو تارة يتجه باتجاه التحليات القرآنية، وتارة أخرى باتجاه عرائس «خيال الظل» أو ظل الخيال.
يتطابق بالتالي تاريخ تطور تقاليده مع بقية الصناعات التقليدية مثل صناعة الورق والنسخ والمكتبات. وهي التي انتشرت مثل اللهيب في الحواضر والأمصار الإسلامية ابتداء من عام 750م، تاريخ انتصار المسلمين في معركة «تسالي»، حيث افتدى الأسرى الصينيون أنفسهم بالكشف عن أسرار صناعة الورق والكاغد، وهكذا تحوّل الإسلام منذ ذلك الحين من عقيدة إلى حضارة قائمة على الصناعات الذوقية والنقابات المهنية المرتبطة بالطرق الصوفية، والمنقولة أسرارها من الجد إلى الحفيد مرورًا بالأب والابن دون إشاعتها في أوساط العامة.
إذا كان لابد من التقسيم التقويمي للصناعات والحرف التقليدية، فسنجدها ترتفع قيمتها كلما صعدت في السلم الروحي أو العرفاني، لتنتقل من طبقة الصناعات الوظيفية الدنيوية إلى الشفافية المعراجية.
وإذا كان المحراب يمثل ذروة هذه القيمة في العمارة التصعيدية، فإن ذروة التصاوير في المنمنمات هي التي تلامس الموضوعات الروحية، مثل المعراج والسير وتذكرة الأولياء والصحابة والصور القرآنية مثل آدم وحواء أو أهل الكهف أو إغراء النبي يوسف عليه السلام من قبل زليخة (منمنمة بهزاد الشهيرة والمحفوظة في دار الكتب المصرية في القاهرة).
التنزيه والتشبيه في أصول المنمنمة
ذكرت المنمنمة في الشعر العربي والأدب عامة كمخرمات ورقية أو كرتونية، يستخدم في صناعتها المقص، ولكنها مع الأيام تحوّلت إلى تقاليد رهيفة في الرسم والتلوين ترتبط بزهو صناعة الورق وأنواعه وقياس صفحات المخطوطة وإخراجها وعادة رسم هوامشها الذي تخترقه بعض العناصر مثل شجرة الحياة (أو الفردوس) أو بعض الغيمات في الأعلى أو مشربية معمارية، وعادة الخروج من حدود الصفحة إلى مطلق فراغ الهوامش مستعارة من تقاليد التحليات القرآنية، بما تحمله من معنى رمزي للفراغ الروحي (أو البصيري) كما سماه أبي حامد الغزالي في كتاب «مشكاة الأنوار» مؤكدًا أن للبصر عيوبًا تصححها البصيرة، التي تعتمد على التجلي الداخلي العرفاني أو الحدسي (الإشراق الصوفي). إن تحليل هذه الأخطاء الحسيّة يهدينا إلى تثبيت تقاليد رسم المنمنمة، ويساعدنا خاصة على فهم المنظور العمودي فيها الذي يجعل القريب والبعيد بسلّم النسب والقياس نفسه. بمعنى آخر لا توجد ظلال في المنمنمة ولا أفق ثابتًا للنظر، لأن الفراغ فلكي كوني يرتبط بالرؤيا البصيرية من زاوية قلب الفلك، والمنظورة من عين الصقر أو بالأحرى من عين طائر المعراج الصوفي: (العنقاء أو السيمورج). كثيرًا ما صوّرته منمنمات المخطوطات الفارسية في آسيا الوسطى بقيادة مدرسة هيرات وتبريز وبخارى بعد بغداد. الأشكال إذن مسطحة تقتصر على بعدين، لأنها غير مكتّلة أو محجّمة، ولا نعثر بالتالي على مصدر أحادي للضوء، أو أي تحديد زماني، فالحدث يجري خارج خصائص الليل والنهار وتمايز الفصول. أما منطق الألوان فهو شطحي غير واقعي يقترب من الحساسية الموسيقية في الإنشاد الصوفي، وفق مفهوم السهروردي والغزالي للسماعي القلبي. في القلب تلتقي رهافة السمع والبصر معًا أو بالأحرى البصيرة بالسماعي فتنتج ألوانًا فردوسية مغتبطة أقرب إلى النوتة والسلم الموسيقي. في هذا التوحّد العرفاني أو الذوقي نعثر على سيطرة مفهوم التنزيه على التشبيه (المكروه في الرسوم الإسلامية) حتى ولو كانت المخطوطة علمية. ولو راجعنا - مثلاً - الرسوم البالغة الأهمية لمخطوطة مهندس بلاد الشام في نهاية القرن الثالث عشر وبداية الرابع عشر في علم الميكانيك للجزري (يسميها الحيل الهندسية) لوجدنا أن تمفصل الأشكال وسياقها المعبّر عن تحولات الطاقة أقرب إلى الترميز والتلغيز الخيميائي أو السيميائي منه إلى الوصف الميكانيكي، فهو أبلغ مثال على التنزيه (بمفهومه العرفاني) من التشبيه المرذول بمفهومه المادي أو الفيزيائي. لو راجعنا بعض الرسوم والتكوينات اللونية للفنان العباسي الشهير محمود بن سعيد الواسطي (المنتصف الأول من القرن الثالث عشر) لوجدناه متجاوزًا لميتافيزيقية الموضوع السردي في مقامات الحريري، مترصدًا الجوانب الشطحية في العلاقات اللونية، والأقرب إلى حساسية النوتة البصرية، من أبلغ أمثلتها رسم صفحة: «السائس» الذي يقود سربًا من الجمال المصبوغ بألوان شطحية موسيقية تقع ما بين البنفسجي والأزرق، مرورًا بالبرتقالي، مستبعدًا في شتى هذه الاختيارات اللون الواقعي للجمال من العسلي إلى البني وغيرهما. بعد ثلاثة قرون من تاريخ الواسطي وابن جنيد نشهد ذروة فن المنمنمات على يد نقيب صناعتها الذي أسّس أشهر مدرستين في هيرات وتبريز وهو بهزاد، يقع نشاطه ما بين النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي والنصف الأول من القرن السادس عشر.
عبقرية بهزاد
يعود إلى العبقرية وروحانية المصوّر بهزاد فضل استرجاع الثقافة الذوقية الإسلامية في تقاليد المنمنمات، واتصال نواظمه اللونية بموسيقى السماعي، وذلك بتصدّيه للثقافة الاجتياحية المناقضة وهي ثقافة التصوير الصيني التي حملها المغول، هي الثقافة التي تعتمد على التقاليد الطاوية في الرسوم المائية على لفافات (روليوهات) الحرير منذ القرن الثاني الميلادي، بشّر بها طاو في تلك الفترة مثتبًا حكمته عن بداية الخلق قائلاً: «في البدء كان الخط»، يقابله بهزاد ليثبت عرفانيته الشطحية: «في البدء كان اللون».
من أشهر آثاره رسوم كتاب الملوك للفردوسي وسفر نامه ثم معراج نامه وغيرها. تتدرّج روحانية «الطوبوغرافية» التشكيلية البصرية في منمنمات المعلم بهزاد من الذاكرة الميثولوجية الفارسية إلى التصور التنزيهي القرآني باتجاه تثبيت التقاليد الروحية في رصف ألوان المنمنمة واتصال نواظمها بالنوتة السماعية للموسيقى العرفانية. كان يخط المنمنمة بوضع عمودي ثم يقلّبها ليرصف الألوان كما هو تلوينه لجملة العمائم أو الصحون أو العمارة، خاصة في رسم «يوسف وزليخة، وذلك من أجل تسهيل العثور على النوتة اللونية بمعزل عن المعاني السيميولوجية للشكل. وهنا ندرك المعنى العميق لخصائص الرسم الإسلامي، والتحوّل من ثنائية الفن الغربي: «التجريد والتشخيص» إلى ثنائية الفلسفة الإسلامية: «التنزيه والتشبيه». فسلم التنزيه لا يرتبط بدرجة تجريد الشكل (خاصة الهندسي) وإنما بدرجة شطحه وشروده عن مماثلة الواقع، فصورة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قد تكون أشد تنزيهًا أو مخالفة لمماثلة الواقع (لأنها تستحضر ما يجب أن تكون عليه صورة الإمام علي في اللاشعور الجمعي الشيعي) مقارنة بأي نجمية هندسية أو توريقية في الأرابسك أو التحليات. هي التقاليد التي انتقلت بفضل تلاميذ بهزاد إلى أكرا (الدولة المغولية في الهند) عن طريق أمثال شيخ زادة أو إلى قونيه واسطنبول (البلاط والمكتبات العثمانية) بفضل حمل هؤلاء مع الغزوات العثمانية على هيرات وتبريز ثم تطورها مع خيال الظل العثماني (كراكوز وعواظ).
التواصل بين الألوان والموسيقى
إذا كانت العلاقة الرهيفة والروحية في ألوان صناعة السجاد والسيراميك (ما بين الأناضول وإزنيخ وسمرقند) والزجاج المعشّق (الشمسيات النجمية) تتفوق في الفن الإسلامي على شتى الحضارات الإنسانية، فإن فن المنمنمات بشتى مدارسه وتحوّلات طرزه في المكان والزمان داخل خارطة المحترفات العربية والإسلامية يتفوق في بحوثه اللونية على شتى أنواع الصناعات الأخرى، خاصة عندما تحول في عهد بهزاد إلى وسيلة اتصال برزخية مع موسيقى السماعي الصوفية، وبهذا المعنى يثبت الفنان الفرنسي هنري ماتيس اكتشافه لهذه الحقيقة الذوقية في بداية القرن العشرين مع معارض المنمنمات والسجاد الإسلامي في لندن للمرة الأولى يقول إن «الفنون الحضارية الإسلامية هي التي تتميّز في تاريخ الفن باعتمادها على اللون، وعلى اللون فقط»، ثم جاء بعده بول كليه في الأربعينيات ليقرر في كتابه ما معناه بأن اللون يمثل الجانب التواصلي مع الموسيقى، ومادام هذا التواصل يمثل الهاجس في الفن الإسلامي فهو الميزان الوحيد للكمون الروحي في اللوحة المعاصرة. وأيّده مكتشف الفن التجريدي عام 1909م واسيلي كاندينسكي ليصمّم من جديد «الأورغ الملوّن» بناء على السلالم اللونية الموسيقية التي تحدث عنها الشاعر الألماني جوتيه في كتابه: «مبحث في اللون»، باعتبارها رديفة للفن الإسلامي في صناعة المنمنمات.
أسرار الباطن في تقاليد الرسم
يطرح هذا الموضوع سؤالاً معرفيًا عامًا حول أسرار «الباطن» وليس «الظاهر» في القسم الأعظم من تقاليد الرسم والتلوين في صناعة المخطوطات الإسلامية عبر أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، وعلاقتها سواء بالتجربة العرفانية الوجدانية - الوجودية - الوجدية الصوفية (بطرقها الباقية إلى اليوم مثل القادرية والرفاعية والشاذلية والملاماتية والنقشبندية والحروفية النسيمية وغيرها) أو أنها نتيجة طبيعية لنظام رقابة النقابات الروحية التي تشكّلت تاريخيًا في المجتمعات الإسلامية منبثقة من روحانية وسلطة هذه الفرق.
إذا كان المعلم بهزاد يعتبر النقيب الأول في القرن السادس عشر، فهل كان انتماؤه الذوقي إلى خارطة وروحانية الطريقة النقشبندية متفوقًا على انتمائه السياسي الشيعي إلى الدولة الصفوية، التي يعمل في بلاطها ومكتباتها؟ لعل مقاومته لتقاليد الفن البوذي الصيني الطاوي وعرفانية تقاليده تجيب عن هذا السؤال. ومهما يكن من أمر فإن الموضوعات الدينية والروحية أو القرآنية ترسّخ هذا البعد الصوفي في طوبوغرافية وتكاوين التصوير الإسلامي، على غرار موضوعات المعراج وأهل الكهف واليوم الآخر (القيامة أو الفردوس وجهنّم) و «تذكرة الأولياء» وخاصة الملاحم الصوفية على مثال «منطق الطير» لفريد الدين العطار، التي رُسمت عشرات المرات. تصوّر لنا الطيور الصوفية الحكيمة المشهورة ابتداء من العنقاء (السيمورغ) التحوّل بشكل دائم من قياس العالم الصغير (المجهري الميكروكوزم) إلى العالم الكبير (الفلكي الماكروكوزم) وبصيغ لونية شطحية، ثم الهدهد والطاووس، في رحلتهما للبحث عن الحق بما تحفل به من مجاهدات ومكابرات، يعثر الهدهد أخيرًا على المرأة رمز الحق ووحدة الوجود ووحدة الحق مع الخلق.
طريق الموسيقى والرقص
إذا انتقلنا إلى موروث منمنمات قونيه في عهد صاحب المولوية مولانا جلال الدين الرومي مؤلف «المثنوية» والذي يقول:
«كثير من الطرق تقود إلى الحق، أما أنا فقد اخترت طريق الموسيقى والرقص» كانت حلقة الرومي تعتقد بأن الموسيقى وألحانها تصدر عن التجلي الاتصالي بأشجار الجنة ذات الأجراس التي تصدر أصواتًا رهيفة وجدية غبطوية، تروي واحدة من الرسوم أن أحدهم أخذته غفوة تجلى متقصيًا لحنًا راود قلبه فأيقظه أصحابه خوفًا عليه فقال لهم: «كنت في الجنة وما تدرون».
وتروي منمنمة أخرى قصة الرومي عندما نزل مع فريقه السوق ليقوّم دينارًا، أعطاه للحداد وما إن بدأ الأخير بالطرق حتى أخذت بمولانا حضرة موسيقية ورقصية، فطلب منه ألا يتوقف عن الطرق حتى ذاب الدينار واكتملت الرقصة وألحانها. وتروي أخرى دعوة أمير قونيه لمولانا ضمن أعيان القوم، فجاء متأخرًا في هزيع الليل، بما أنه كان من مألوف العادة أن يحمل كل مدعو شمعة، يتنافسون في شدة ضيائها، حمل مولانا شمعته الخافتة، وما إن انبلج الصباح على الجميع كانت كل الشموع مطفأة مستنفدة ماعدا شمعة مولانا متقدة أبدًا، إشارة إلى نور المعرفة المتواضعة الذي لا ينضب.
ويكتشف المتتبع لتطور طرز المنمنمات من خلالها ليس فقط علاقتها العرفانية أو الروحية التصوّفية، وإنما تبدو كأنها مرآة شمولية تعكس تقدم شتى المعارف والعلوم والآداب والنصوص والأساطير والرحلات والفلك والفلسفة.. إلخ. تعاني من مصائب اندثار مخطوطات المكتبات العامة ذاتها (من دار الحكمة في عصر المأمون إلى دائرة المعارف المعاصرة) وخاصة تدمير مكتبات بغداد في العصر العباسي على يد سنابك هجمة مغول هولاكو عام 1258م وإحراقها وإلقاء أعظمها في دجلة حتى تلوّن ماؤه بلون المداد الأسود، وأخذ المغول معهم إلى سمرقند ما بقي في حدود أربعة آلاف مخطوطة زاهية، وكذلك كان مصير المكتبات الفارسية. نكتشف اليوم أن كل ما هو سابق لهذا التاريخ فُقد لأسباب غامضة، منها تدمير مكتبات الأندلس وإحراقها ثم الفترة الاستعمارية ثم الهجمة الصهيونية وغيرها.
لو عدنا إلى طيور العطار، التي مرّ ذكرها لوجدناها غير معزولة الترميز والبعد الروحي عن بقية عصور المنمنمات، يكفي أن نعيد تأمل رسوم «كليلة ودمنة» ما قبل الهجمة المغولية، حتى ندرك تكوينات الغربان (من خلال عدة نسخ تأويلية مختلفة). إن ترتيبها وثيق العلاقة بالنوتة الإيقاعية للألحان المشرقية.
فكلما اقتربت الأشكال البصرية من الألحان والإيقاعات السمعية تصعّدت من حالة التشبيه (مع الواقع الحسّي ودلالاته المشخّصة) إلى حالة التنزيه المعراجية بنواظمها الحدسية أو التجلياتية الغامضة.
استقى إذن المحدثون (بول كليه وكاندينسكي وكوبكا وماتيس) هذه الحقيقة من تاريخ التصوير الإسلامي قبل أن يطبّقوه في الفن المعاصر. نتحدث اليوم عن كتاب المنمنمات الوحيد الباقي والمترجم إلى اللغات الحية. كتبه أكبر خان إمبراطور وفقيه الدولة المغولية في الهند، كان هو نفسه رسامًا للمنمنمات، يذكر واحدة من أسرار صناعتها في القرن السادس عشر وهو ما يسمى بـ«الطرح» الذي يشبه الرسوم التحضيرية للوحة اليوم. ويذكر أن رسامي بلاطه اكتشفوا في الطبيعة أكثر من مائتي جنس من الطيور صوّروها واقعية لتوثيقها. لو راجعنا إعادة عرض نماذجها الفردوسية في المنمنمات المغولية لتلك الفترة لأدهشتنا فنية وروحانية التحريف عن الأصل الواقعي، تمامًا كما مرّ معنا عن الفرق بين الطيور العرفانية في حيز البصيرة والطيور الوصفية المحسوسة في أخطاء الفراغ العيني أو البصري. لعل هذا الفرق أول إثبات وشاهد على البعد الروحي في تقاليد رسوم المنمنمات، والتي تحتاج إلى الكثير من التأمل وإعادة البحث والدراسة لتخليصها من الصور الاستشراقية والأصولية الجاهزة.