مختارات من:

قراءة نقدية .. في قصص عبدالحميد أحمد

عبدالله أبوهيف

عبدالحميد أحمد مثال طيب لسعي القاص العربي لتحديث فنه القصصيي وامتلاك أدواته الفنية إذ تعتمل تجربته الممتدة على مدار عقدين من الزمن بالنزاع بين التقاليد والتحديث في ممارسته الفكرية والفنية. وتقدم هذه الدراسة قراءة نقدية لمجموعتين قصصيتين هما "السباحة في عيني خليج يتوحش " 1982 و"البيدار" 1987.

يعكس القاص الإماراتي عبدالحميد أحمد في إنتاجه ذلك القلق الأصيل الذي يلتم على دواخل الفنانين الذين تؤرقهم مسارات التجربة في تاريخها الخاص والعام، فهو مدرك لمكانة القص في الأدب العربي الحديث، ولدلالة التطوير الوحيد والمتنوع في آن معا لعمليات تشكل الأجناس الأدبية الحديثة، ومنها النثر القصصي، رواية وقصة، وقصة قصيرة وغير ذلك من أشكال. فعلى الرغم من عدم انتظام تطور القصة العربية الحديثة بين قطر عربي وآخر، إلا أن ثمة وحدة تماثل بين التجارب القطرية فتغني بتنوعها التطلع المشترك لتحديث القص. وإذا كان الصراع طويلا بين التقاليد والتحديث في بعض الأقطار العربية كمصر وسوريا ولبنان والعراق وتونس، فإن الأقطار العربية الأخرى لا تخرج عن طبيعة هذا الصراع المتصل أساسا بالهوية من جهة، وبالتبعية من جهة أخرى. وتشير الدراسات المتأخرة عن القصة في أقطار الخليج العربي إلى الملامح نفسها، وإن تفاوتت فترات التطور، أو تباينت خصائصه، فليس ثمة اختلاف بين تطور القصة العربية في السعودية عنه في سوريا أو في الجزائر من حيث تشكل فن القص في خضم صراعه من تقليد الموروث إلى تقليد الغرب، إلى تأصيله في الأدب العربي الحديث ولئن تأخر مثل هذا التطور في الإمارات العربية، فإنه يحمل الملامح إياها باتجاه التحديث، مختصرا المراحل كلها في فترة اقصر نسبيا قياسا إلى تطوره الحديث في الأقطار العربية. ولعل انطلاقة عبدالحميد أحمد في مطلع السبعينيات تؤكد مثل هذا الزعم، فتتقاطع تجربته القصصية مع تجارب عربية عديدة، وتنشغل بالهواجس نفسها حول الموقف من التقاليد والتحديث في القصة العربية. ماذا كان هذا القاص قد حظي بنقد عربي رفيع، إثر الندوات العلمية حول القصة الخليجية، ولا سيما القصة في دولة الإمارات العربية المتحدة، فإن ثمة ما يقال أيضا في هذه التجارب الغنية مما لم يتناوله هذا النقد، وإن أشار إلى بعض دلالاته. وأتوقف في قراءتي لقصص عبدالحميد أحمد عند نقطتين، إضاءة لبعض جوانب النزاع بين التقاليد والتحديث، الأولى هي الموقف من فكرة القصة، والثانية هي تطويع السرد لحاجات اتصالية راهنة، ففي الأولى، نعاين مدى الجهد المبذول في صوبخ تركيب قصصي خاص، وفي الثانية، نعالج صلة هذا التركيب القصصي الخاص ببيئته الثقافية والفنية والشخصية.

الكاتب وجماعته المغمورة

ارتبطت فكرة القصة منذ طفولتها لدى غالبية الشعوب بأنماط أدبية وشعبية، كان المعول فيها دائما هو الحكائية أو المبنى الحكائي، ومن الحكائية أو المبنى الحكائي تعددت أنماط القصة العربية، ذلك أن القصاصين العرب في أوائل النهضة في القرن التاسع عشر انقسموا إلى تيارين، الأول غلب تقليد الموروث القصصي، والثاني غلب تقليد الغرب، ثم مضى وقت طويل حتى أفرزت الممارسة القصصية وعيا فكريا وفنيا بفكرة القصة في مراحل احتدام الصراع مع الغرب في الخمسينيات والستينيات على وجه الخصوص.

إن القضية برمتها تبرز في قصص عبدالحميد أحمد، حيث فكرة القصة قيد الشغل، فتتجاور في هذه القصص أشكال القص، وتختلف فيها أنماط السرد، وعلي في هذا المجال أن أوضح بعض أشكال القص كما تبديها الحوافز المتنوعة، وبعض أنماط السرد المعززة بمستويات إدراكية ومعرفية من نوع السرد، أو تنشغل بارتباطات ذهنية.

تنتمي غالبية قصص عبدالحميد أحمد إلى مأثور فكرة القصة في أزهى صيغها الحديثة، ومفادها أن القصة القصيرة تعبير حكائي أو سردي شديد التكثيف عن مشكلات جماعة مغمورة، ومن الميسور أن نجد توصيفا لمثل هذه الجماعة لكل كاتب قصة جيد، فهم الأطباء والموظفون عند تشيخوف، وهم الكادحون من ساكني أطراف المدن أو قاع المدينة عند يوسف إدريس، وهم أبناء الطبقة المتوسطة الذين تحطمهم التغيرات الاجتماعية عند نجيب محفوظ، وهم العمال المقموعون المهددة أصالتهم أو المهدد أمنهم عند زكريا تامر.. وغير ذلك.

وعند الكتاب الجدد في السبعينيات والثمانينيات، مضت القصة العربية إلى التجريب، وأوكلت في اختراق فكرة القصة باسم نزوعات الحداثة وما بعد الحداثة، فمازجت القصة أنماط أدبية أخرى تجافي الحكائية أو السرد، ولا سيما الشعر والأسلوبية الشعرية. أما لغات الفنون الأخرى، كالسينما أو المسرح أو التشكيل، فأغرقت القصة، مما أبعدها عن طبيعتها. ولاشك أن تحديث أدوات القص مشروع، وأن الأدب الحديث قد شرع أبوابه عريضة واسعة لتعميق أواصر اتصاله بالفنون الأخرى واستخدام أدواتها وتقنياتها في بناء القصة. غير أن ما يميز فن القصة ينبغي أن يظل رافدها الرئيسي: حكائيتها وتنامي "التحفيز" فيها تعبيرا عن جماعة مغمورة.

تجسد قصص عبدالحميد أحمد، مثل كثيرين من القصاصين من جيله، هذا النزاع بين التقاليد والتحديث في الأمانة لفكرة القصة: شيء من التقاليد يخالطه تطلع واضح إلى رؤية حديثة بالاستناد إلى تحديث الأدوات والتقنيات، ويتبدى ذلك بالدرجة الأولى في حفاظه على انبثاق موضوعه، وهو جماع المشكلات الاجتماعية والإنسانية، من أنساق حكائية تقليدية تستعين على إبلاغيتها بمعطيات تقنيات حديثة، وتصوغ جماليتها من محاورة واقع الجال، فثمة حرص على المشهدية، في الوقت الذي تميل فيه إلى لغة الشعر التي لا تهدد طبيعة القص في بعض القصص، وثمة توظيف لتقنيات السينما والتشكيل إلى حد رسم لوحة في الوقت الذي نشم رائحة الواقع، وثمة إظهار لرؤى حالمة تعزز عمل الذاكرة واستبطان الوجدان الجمعي، وهي استلهام لموروث شعبي في الوقت الذي تتفارق "من المفارقة" فيه هذه الرؤى مع هذا الواقع المثقل بالاستهلاك وإحباط الروح، وثمة تجاور واضح بين شعرية القص ونثر اللحظة المحكي عنها.

ولعل تفصيل القول في بعض معالجة عبدالحميد أحمد لقصته ما يوضح هذا الرأي.

الضمير الصامت في الخليج

نلاحظ عند عبدالحميد أحمد أن الجماعة المغمورة هي من العمالة الأجنبية في الخليج، ومنهم العرب الآخرون كما في قصتيه "أشياء كويا الصغيرة" و"الأرصفة العربية"، أو البسطاء من الخليجيين الذين داهمتهم قيم مجتمع النفط كما في بقية قصصه، فتبدو القصص بعد ذلك نوعا من صوت الضمير الصامت على جسامة التغير الاجتماعي على ناس الخليج من خليجيين وغيرهم.

يبتعد عبدالحميد أحمد عن التجريب الشكلي المحض والتزويق الزائف لينشغل أساسا بمشكلات جماعته المغمورة، وهنا مكمن أمانته لفكرة القصة كما مارسها أفضل كتابها، فلا نجد في قصصه دورانا على إنشاء لفظي أو بديعي، إنه يعتمد أساسا على المفارقة الناتجة عن قسوة الضغوط الاجتماعية أو وطأة تحولاتها وتوضح قصة " أشياء كويا الصغيرة " أسلوبيته برمتها ، لاسيما تضافر الحوافز فيها، مما يشكل المبنى الحكائي والحافز في المصطلح هو أصغر وحدة حكائية، والتحفيز هو النسق الحكائي، الذي يربط هذه الحوافز.

لقد اعتنى عبدالحميد أحمد بالمفارقة، شراء هدية لزوجته تصر إلى هدية لوليده غير أنه لا يجد من يشتري اللغة - الهدية في هذه المدينة الكبيرة.وما عدا ذلك، فالقصة تتوفر على حوافز بسيطة تحيط بالمفارقة وتؤطرها، وتمهد لها. شرب عبدالله كويا استكانة شاي وجلس صافيا، واستدان مائة درهم وخرج إلى السوق واشترى هدية لزوجته، فقد ولدت له صبيا بعد انتظار أربعة عشر عاما، وكانت من قبل ولدت له ثلاث بنات وولدا واحدا مات في قطار.

يسكن كويا مع عمال آخرين، ويحدث زملاءه عن الوليد ولا يهتمون، و"يبقى وحيدا عارضا بضاعته للهواء، يضج من الغضب والحزن والقساوة". "ص 11".

أفلح عبدالحميد أحمد في صوغ مبناه الحكائي من خلال إدراج حادثة، هي حافز بسيط، في متوالية فنية تعتمل ببناء نسقها الحكائي الخاص: الاقتصاد التعبيري واللغوي والتركيز على تنامى الفعلية فيما يسمى نسق التحفيز بعد ذلك، وهو غالبا تحفيز واقعي يحيل إلى قوة المرجع في الواقع، وقوة دلالته في الوقت نفسه. ولعل التوهم في قصة عبدالحميد أحمد ناتج عن نفاذ الصدق التاريخي، حيث مشكلة العمالة الأجنبية في الخليج ضاغطة ومؤرقة اجتماعيا وانسانيا.

ونلمس تنويعا آخر لاستخدام مثل هذا الحافز في قصة "الأرصفة العربية"، التي تتعرض لمشكلة العامل الفلسطيني، وقد باشر القاص مقاصده، وضاق ذرعا بالظلم الواقع على هذه الجماعة المغمورة، حين ضيق المنظور السردي إلى حدود التصريح بخطابه القصصي فسب الشمس: "أنت عاهرة لأنك تشرقين فوق مدن لا تستحق النور والضياء" "ص 20 "، وقال: "عشرون عاما خارج الوطن فوق الأرصفة، في هذه المدن العربية، ترفع سيوفها الخشبية، تهادن، لا تقاتل " "ص 21".

والمفارقة في أن أبا محمود الفلسطيني الذي يعاني وأسرته مما يحدث في هذه المدن العربية سوف يستقبل أخاه أبا سليم، ولكنه يؤكد لنفسه أن أخاه سيعود. ولم يترك أرضه، بينما تغطي المنظور السردي أخبار الانتفاضة والشهداء من جهة وأخبار مبادرات التسوية والتصفية من جهة أخرى.

تلجأ القصة إلى نسق حكائي متداخل يستفيد من اللغة البصرية في توازي اللقطات وإرجاعها أو تأخيرها، ومن لغة التشكيل حيث تعدد المستويات السردية، فالراوي المضمر العارف يسرد القصة، ثم ينتقل من العامل، إلى طفلته ندى، إلى الإذاعة التي تنقل الأخبار.

هناك استفادة واضحة من تقنيات حديثة، ولا سيما انحياز الراوي، أو وجهة النظر، إلى تعزيز المفارقة الجارحة: أن الانتفاضة الفلسطينية سبيل الخروج من المعاناة ووطأة العيش، فيختتم القصة بالعبارة التالية: "يخرج من التاكسي، يدخل قاعة المطار، أبو سليم سيحكي له عن انتفاضة الشعب في الداخل: مظاهراتهم، احتجاجهم الفعلي، انتفاضاتهم الغاضبة الهازئة من ضجيج المدن النائمة وسكانها المتخمين.. يحلم بالحليب كالطوفان، بالأطفال، الزهور، يصطف منتظرا خروج أبوسليم من الجمارك " "ص 26 ".

الاستجابة الحضارية لزمن النفط

أما من داهمهم مجتمع النفط، وهز أخلاقياتهم، فتحتل مشكلاتهم غالبية القصص، وتتراوح الاستجابة الحضارية لضغوط التغيير من إظهار الحنين إلى قيم أصيلة تندثر خلل شعرية القص التي تتغلب على مستويات السرد إلى هجاء المدينة وكراهية ما يشين كرامة الإنسان.

في قصص النوع الأول، تبرز قصتان هما "حالة غروب " و"هدهدة"، يدفن مبارك نفسه عند البحر في قصة "حالة غروب " فقد سرق البحر "عفراء".من الواضح أن القصة تعتمد على الترميز بين البحر والبر، هذا البحر الذي يسرق الأحبة، ويحطم الماضي أو الإرث كله، فمضى مبارك إلى "عفراء " وكان فقد عقله، وصار يردد الشعر الشعبي.

"راعي الهوى مستأنس إلا الصدر محروق كله من البهانس الدوخة والنشوق " "ص 91 ".

يؤثر عبدالحميد أحمد في صياغته لهذه القصة تحفيزا جماليا، ينفر فيه من الحدث وتفاصيله، ويستعيض بتنامي الفعلية عن التوهم وإدخال عناصر مجازية كما هو الحال مع الخاتمة!

"كان الرمل الناعم قد دفن جسده، لكن يده امتدت من تحت التراب وخرجت إلى الفضاء وكأنها تطاول "عفراء" المطلق " "ص 91 ".

ثم يتسع الترميز في قصة "هدهدة" على سبيل كامل التوهم في نسق حكائي ممعن في البساطة، الطفل حمدون يحب البحر، ولكن أباه يضربه ويعيده إلى البيت، بينما يغفو حمدون من التعب ويحلم بالطاسة يحملها المد بعيدا في الماء.. وكما أشرت إلى هذه القصة في تحليلي لمقاربة الحداثة في القصة الخليجية، فإن هذه القصة من أرق القصص وألطفها عن النقاء الإنساني الذي تطحنه ضغوط الحياة اليومية. وقد لجأ عبدالحميد أحمد في هذه القصة إلى عناصر الحلم في التوازي مع فعل "حمدون " الاعتيادي من البيت إلى البحر، وإذا كانت القصة نوعا من التوهم الجمالي برمتها، فإن الوظيفة التفسيرية للسرد لا تقلل من قوة شعرية القص بل تضفي عليها إضاءة شديدة التأثير، كما في الشاهد التالي:
"وبينما كان حمدون غارقا في النشيج والبكاء، قالت أمه:
- ماذا أصنع له، إنه يحب البحر، لماذا لا تأخذه معك؟
- آخذه معي؟! وهل لدي وقت لأسليه لك، أم أن وقتي من أجل أن أطعمك وإياه؟ " "ص 74".

ونختار من القصص الأخرى التي تهجو المدينة، وتعلن موقفا رافضا من التغيرات قصتين هما " الفأس " و"صفعتان "، حيث التحفيز واقعي يباشر أغراض السرد ويومىء بالصدق الواقعي من باب نمذجة الحالة الإنسانية المعروضة، وهذا التحفيز يؤدي بعد ذلك إلى الارتفاع بالنقد الاجتماعي إلى رؤية معمقة وشاملة للمآل الإنساني. وقد اختار عبدالحميد أحمد موقفين لهجاء المدينة، أولهما يتناسب مع نظرته في إدانة ما يهدد القيم الأصيلة، ويظهر ذلك جليا في قصة " الفأس "، حين يعزز المفارقة بإيحاء رمزي بسيط بكلمته "الأرض تتحرك بضرب الفأس " "ص 155" ، وأن زهرة "مثل الأرض تماما" "ص 56 ".

إن زهرة زوج سليمان الخمول، تطبخ له العدس. دائما، بينما تطبخ الدجاج لعشيقها من المدينة، وعلى الرغم من نكرانها، فإنه متأكد من خيانتها. "ويحمل الفأس ليست للأرض دائما" "ص 64 " ويمضي إلى زهرة، وتنتهي القصة محملة بتوسيع الدلالة إلى إطار شمولي لا يخفى: "ومشى خارجا من الحقل صوب البيت، وكان كلما رنا شم رائحة الشواء، فسارع الخطى بهمة شاب والفأس في يده، يقبض عليه بقوة كما لو أنه سيهوي به على الأرض ليشق به مجرى للماء" "ص 64".

لقد جعل عبدالحميد أحمد المدينة تلتهم الأصالة والشرف والكرامة، وتخطف روع البسطاء، ثم ارتفع بوجهة نظره إلى رؤية موضوعية عن فاجع اجتماعي تختنق في مداره قيم هذه الجماعة المغمورة من البسطاء المعتزين بأصالتهم، وفي هذا الإطار توجه قصصه عنايتها لنماذج إنسانية واجتماعية في بيئتها، وليست لتحليل الشخصية بحد ذاتها، أى أن عنايته موجهة للتأزم الاجتماعي وليس للتأزم الشخصي، وهذه النمذجة هي أفضل تعبير عن الدلالة الواسعة لمشكلات جماعته المغمورة.

ومن الواضح، أن القاص لا يتعمق بتحليل حالات نفسية وانفعالية إلا بالقدر الذي تتوضح فيه مشكلات هذا النموذج من جماعته المغمورة.

هجاء المدينة

وفي قصة "صفعتان " لا تبدو اللقطة مناسبة في التعبير عن اللحظة الحضارية أو النموذج الاجتماعي، فقد خرج المروي عنه من خورفكان القرية الجبلية الساحلية إلى المدينة نافرا من رتابة الريف وصرامته وتجهمه إلى رحابة المدينة وحريتها ونسائها وأضوائها، ويختار القاص للمفارقة أن يدعو المروي عنه امرأة في الشارع إلى ممارسة الجنس معه فتصرخ ويقتاده الشرطي، ولا تسامحه، فنال سجن يوم وصفعتين ويخرج في اليوم التالي إلى خورفكان على الفور.

لعل هذا الاختيار غير موفق في هجاء المدينة. أما وجهة نظر الراوي التي توحي بوجهة نظر المروي عنه وربما وجهة نظر المؤلف فتذهب إلى مذاهب شتى لا ثشي بالدلالة، لأنها ناتجة أساسا عن معاكسة امرأة في الشارع وأعتقد أن غرض القصة ملتبس وهو ما تؤكده الخاتمة.

"انسابت به السيارة في الليل عبر الصحراء تاركا خلفه المدينة بصخبها وضوضائها وناسها المزركشين بالثياب والسيارات والساعات الفاخرة، تفوح من ثيابهم روائح حلوة، تشي مظاهرهم بالفخامة ، لا شيء في رأسه يفكر، ليس- يستطيع، لكنه أحس وهو يتحسس وجهه المصفوع، المدينة صفعته صفعة قوية على غير ما توقع وبأنها ليست إلا كالمرأة التي خاطبها جميلة جدالكنها غبية جدا لا تملك في داخلها غير الصراخ الأهوج " ص 4" وعلى وجه العموم فإن هجاء المدينة يعكس في ثناياه موقفا صارما من قيم مجتمع النفط تكاد قصة "البيدار" تلخص ذلك الموقف كله ففيها إلغاء كامل للإنسان تحت وطأة التنظيم الاجتماعي الجديد..

إحالات شعبية وأسطورية

وعلى هذا تحفل قصص عبدالحميد أحمد بالإحالات الشعبية والأسطورية والذاكرة الجماعية وبوصف البيئة وحضورها الطاغي، وهذا ما ساعد على تطويع سرده لحاجات اتصالية راهنة، فقد ثمر إحالاته ورموزه تثميرا طيبا في احتضان القصة لبيئتها من جهة، ولشواغل جماعتها الإنسانية المغمورة من جهة ثانية، مثلما عززه سرده بوظائف متعددة نهض الإبلاغ فيها إلى مقدرة تفسيرية للمتن الحكائي لم تأخذ القص إلى وهدة الذاتية أو مباشرة القصد.

عبدالله أبوهيف مجلة العربي اكتوبر 1993

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016