مختارات من:

من المكتبة الأجنبية: لعبة الشيطان!

روبرت درايفوس

هذا كتاب صادر بعد أربع سنوات من أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 الشهيرة، أي أثناء فترة إدارة جورج دبليو بوش الأولى، وفي خضم ما أطلق عليه مرحلة الحرب على الإرهاب، وغزو أفغانستان والعراق، وخطاب «نحن وهم»، و«مَن ليس معنا فهو ضدنا»، و«لماذا يكرهوننا؟»، وهو كذلك كتاب يراه كثير من المحللين معبرًا عن توجه شجاع داخل الولايات المتحدة، حيث يكشف ويعارض السياسة الرسمية للبلاد.

يوضح الكتاب بداية كيف كانت بريطانيا هي الأسبق إلى استخدام «فكرة الإحياء الإسلامي» لتحقيق حلمها الإمبراطوري، وذلك بفضل عشرات الملايين من رعاياها المسلمين في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا. بدأت القصة في عام 1885، بلقاء بين جمال الدين الأفغاني ومسئولين في المخابرات والخارجية البريطانية في لندن، تساءل فيه الناشط السياسي الرحّالة عما إذا كانت بريطانيا مهتمة بتنظيم وقيادة تحالف إسلامي شمولي يضم مصر وتركيا وفارس وأفغانستان ضد روسيا القيصرية. وبينما كانت الصيغة شبه الحداثية التي وضعها الأفغاني للأصولية الإسلامية غامضة وفشلت في الوصول إلى الحركة الجماهيرية، فإن تلميذه محمد عبده استطاع أن يكون أكثر ارتباطًا بحكام مصر البريطانيين، وأن يضع القواعد الأساسية للإخوان المسلمين التي عمّت اليمين الإسلامي في القرن العشرين، وساعد البريطانيون الشيخ محمد عبده، حتى أثناء انشغالهم بمشروعين سابقين على الحرب العالمية الأولى لاستثمار الحماسة الإسلامية لصالحهم. ويتابع الكتاب بعد ذلك كيفية استغلال بريطانيا للحركة الإسلامية بحكم خبرتهم في المجال السياسي الديني والقبلي، وصولاً إلى النشاط المحموم للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية لملء الفراغ القائم في الشرق الأوسط، قبل أن تقوم روسيا بذلك، كما جاء في رسالة إيزنهاور للكونغرس عام 1957. كانت المملكة العربية السعودية في نظر الرئيس الأمريكي «جائزة ثمينة» حيث يوجد بها ربع الاحتياطي العالمي من البترول، والأهم من ذلك أن دورها الإسلامي كان يمكن أن يستثمر كسلاح ضد الاتحاد السوفييتي والقوميين اليساريين، وبناء على ذلك شكّل أعضاء مجلس الأمن القومي لجنة عمل خاصة بالمنظمات الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، العاملة في المجالات الاجتماعية والثقافية والدينية، التي يمكن أن تستهدفها بدعايتها وكالة الاستعلامات الأمريكية.

في الستينيات، عزّزت الولايات المتحدة تحالفها مع السعودية وكانت المساعدات الأمريكية للمملكة على سبيل المساندة للجهود الضخمة التي بذلها الملك فيصل على المستوى الدولي، ليجمع حوله المسلمين في الحرب الباردة. ففي جولة «أخوية» له في البلاد الإسلامية لحشد حلفاء، وصف الماركسية بأنها «عقيدة مخرّبة» وأعلن أنه بات «أكثر إصرارًا على القضاء عليها». وشارك شاه إيران دعوته لإنشاء حلف إسلامي، كما زار الأردن وباكستان والسودان وتركيا والمغرب وغينيا ومالي عام 1966 طلبًا للمساندة. وفي الأردن قال إن قوى الشر كانت تخطط لشن حرب على الإسلام والمسلمين، وفي السودان قال «إن الشيوعيين يهاجموننا»، لأن «الحركة الإسلامية سوف تؤدي إلى تدمير كل ما تعمل الشيوعية من أجله وبشكل خاص الكفر بالله سبحانه وتعالى»، وفي باكستان أصدر نداء من أجل تشكيل كتلة إسلامية.

وبعد هزيمة 1967، ضاعف الملك جهوده مع ترحيب من لندن وواشنطن، فواصل زياراته لبلاد بعيدة مثل إندونيسيا والجزائر وأفغانستان وماليزيا، يقول ديفيد لونج (محلل سياسي عمل في مكتب المخابرات والأبحاث التابع للإدارة الأمريكية): «في أواخر الستينيات، كنا لانزال نحارب الشيوعية، ومن ثم فقد دعمنا مساندة الملك فيصل للإخوان المسلمين والشمولية الإسلامية، كنا نريد أن نضعهم في مواجهة أي حلفاء قد تكسبهم موسكو، وإذا كان بإمكان السعودية أن تنشئ إجماعًا مؤسسيًا، فإن ذلك يكون أفضل».

بعد رحيل عبدالناصر (1970) سيقوم السادات «بتغيير مسار التاريخ»، كان مجيئه بمنزلة نعمة، حيث عمل على تقوية دعائم نظامه المتداعي بإطلاق قوى التطرف الإسلامي، واستخدامها مطرقة ضد اليسار. بعدها كانت حرب 1973 معلمًا بارزًا يرمز إلى إعادة ميلاد الحركة الإسلامية وصعود الإسلام السياسي. كما يرى المؤلف أن الإدارة والمخابرات الأمريكية فشلتا في إدراك التغييرات الجذرية الانتقالية التي طرأت على اليمين الإسلامي في السبعينيات، حتى بعد سلسلة الأعمال الصادمة «الثورة الإيرانية وأحداث الحرم المكي واغتيال السادات ومقتل المارينز في لبنان»، كانوا مازالوا ينظرون إلى اليمين الإسلامي باعتباره حليفًا، خاصة خلال الجهاد الأفغاني ضد السوفييت.

العمود الفقري للتمويل

أحد الأسباب التي تفسّر استمرار الغرب في القبول بالإسلام السياسي، كان بروز الإسلام الاقتصادي في السبعينيات. جزء كبير من الثروة الهائلة التي تصب في الدول العربية المصدّرة للبترول، كان يتدفق إلى شبكة واسعة من البنوك وشركات الاستثمار الخاضعة لسيطرة اليمين الإسلامي والإخوان المسلمين، هذه البنوك كانت أكثر من مجرد مصارف، حيث كانت تقوم - بشكل علني وأحيانًا سرًا - بتمويل السياسيين والعسكريين المتعاطفين والأحزاب السياسية والنشـطاء وشركات الإعلام التي يسيطر عليها الإسلاميون، والمؤسسات الرأسمالية التي تسيطر عليها «الإخوان المسلمين». بداية من عام 1974 فصاعدًا، سيكون هذا النظام البنكي الإسلامي بمنزلة العمود الفقري التمويلي لليمين الإسلامي، وخلال عقدين سيصعد إلى ذروة القمة العالمية، كان يعتمد بشكل رئيسي على الاستشارات والمساعدات التقنية التي يتلقاها من مجموعة المؤسسات الأمريكية والأوربية، بما في ذلك بنوك ضخمة مثل «سيتي بنك». ومن وجهة نظر المسئولين التنفيذيين للبنوك وصندوق النقد الدولي ومنظري السوق الحرة، كانت البنوك الإسلامية تبدو مثالية، فاليمين الإسلامي أوضح بجلاء أنه كان يفضل الرأسمالية على الشيوعية الإلحادية. مثلها مثل حركة الإخوان المسلمين، وُلدت البنوك الإسلامية في مصر، وموّلتها دول الخليج ثم انتشرت في أركان العالم الإسلامي، في البداية كانت تبدو نظامًا شرقيًا للسوق الحرة، ثم سرعان ما عبّرت الحركة البنكية الإسلامية عن أبعادها السياسية، وأصبحت محرّكة ليس فقط لتصدير الإسلام السياسي، بل وراعية للعنف وتمويل عمليات التحوّل السياسي اليميني في مصر والسودان والكويت وباكستان وتركيا والأردن، ووجدت البنوك الغربية الكبرى في ظهور الحركة البنكية الإسلامية فرصة لا تعوّض، فدخلت لتقديم الخبرة والتدريب من أجل تسهيل توسّع القوة البنكية لليمين الإسلامي.

اللعبة الشيطانية

كانت لعبة شيطانية أن ترتكز الامبراطورية الأمريكية «المراد إقامتها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ووسط وغرب آسيا» في أحد جوانبها على قاعدة الإسلام السياسي. أثناء الحرب الباردة كانت الولايات المتحدة تقوم بتشجيع وتمويل اليمين الإسلامي، كانت - على مدى عشرات السنين - تزرع الإسلاميين وتستخدمهم وتسيء استخدامهم، لتكتشف متأخرًا خطأ حساباتها الاستراتيجية. وخلال الحرب الباردة لم يكن العدو هو الاتحاد السوفييتي فقط، وإنما كل الزعماء الوطنيين الذين لا يؤيدون الأجندة الأمريكية تأييدًا مطلقًا أو يتحدون سيادة الغرب وخاصة الولايات المتحدة. كانت كل الأفكار والأيديولوجيات التي تغذي أولئك القادة، مثل الوطنية والإنسانية والعلمانية والاشتراكية، أفكارًا مشبوهة، هذه الأفكار نفسها هي ما تخشاه قوى الإسلام السياسي الناشئة، لذا، كان الإسلام السياسي شريكًا «مريحًا» للولايات المتحدة في كل مراحل بناء إمبراطوريتها في الشرق الأوسط، وتغلغلها وتوسعها العسكري في المنطقة. ومع تراجع حركة القومية العربية في السبعينيات بعد رحيل عبدالناصر، أصبح الإسلاميون سندًا للعديد من الأنظمة المرتبطة بالولايات المتحدة، في الثمانينيات كثّفت المخابرات المركزية جهودها من خلال الصفقات السرية لاستخدام الأصولية الإسلامية أداة هجومية ضد الاتحاد السوفييتي بدءًا من أفغانستان إلى آسيا الوسطى، وبحلول عقد التسعينيات ونهاية الحرب الباردة، أصبحت مسألة استخدام اليمن الإسلامي تستوجب إعادة النظر، فبدأ بعض صنّاع القرار في الولايات المتحدة يرون في الإسلام السياسي تهديدًا جديدًا ويحلونه محل الشيوعية باعتباره المنافس العالمي للولايات المتحدة، وفي هذا العقد نفسه واجهت الولايات المتحدة سلسلة من الأزمات في تعاملها مع قوة الإسلام السياسي، وظهر الارتباك في الموقف الأمريكي، ففي الوقت الذي كانوا يتعاطفون فيه مع القوة الصاعدة للإسلام السياسي، كان الأمريكيون يؤيدون الحكومة الجزائرية في تصدّيها العنيف للجماعات الإسلامية ويواصلون محادثاتهم مع الإسلاميين الجزائريين الذين تحوّلوا إلى العنف المسلح. وفي مصر، حيث كانت جماعة الإخوان المسلمين والحركات العنيفة التي خرجت من عباءتها تمثل تهديدًا للنظام، ظلت الولايات المتحدة تتخذ من مسألة دعم الإخوان لعبة تتلاعب بها. وفي أفغانستان التي تمزّقت بعد حقبة الجهاد التي كانت ترعاها الولايات المتحدة ضد السوفييت، تمكنت طالبان من كسب دعم الولايات المتحدة.

صدام الحضارات

في آخر فصول الكتاب، يعيد المؤلف طرح سؤال بعض المحافظين عما إذا كانت الحرب العالمية الثالثة «الحرب الباردة» قد انتهت، فهل يعني ذلك أن الولايات المتحدة متورطة حاليًا في حرب رابعة ضد الأصولية الإسلامية؟ كما يطرح من جانبه بعض الأسئلة حول الإسلام السياسي الذي كان ينظر إليه باعتباره حليفًا ثمينًا للولايات المتحدة: هل أصبح هذا التحالف باطلاً أو غير ذي جدوى بعد اختفاء الاتحاد السوفييتي؟ هل يوجه اليمين السياسي غضبته إلى شياطين الغرب العلماني بعد القضاء على العدو الشيوعي؟ هل تواجه الولايات المتحدة الآن وحشًا مثل الهيدرا متعدد الرؤوس، مرتبطًا بشبكة من دول الشرق الأوسط التي يطلق عليها مايكل ليدن (بطل إيران - كونترا) اسم «أرباب الإرهاب»؟

منذ 11 سبتمبر 2001 اكتسب الشعور بأن الولايات المتحدة والعالم الإسلامي يقفان على شفا صدام مصداقية، فهل هو فعلاً صدام حضارات؟ المؤلف يرى أن إطلاق صفة الخطر الإسلامي بتلك المبالغة الشديدة كان المقصود منه اصطناع حجة تستند إليها إدارة بوش وحلفاؤها من المحافظين الجدد لتوسيع الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط الكبير، ويتساءل عما إذا كان الاحتلال الأمريكي للشرق الأوسط يعود إلى أهداف أخرى غير مناهضة الإرهاب، وما إذا كان المقصود منه محاولة المحافظين الجدد أن يبسطوا السيطرة العالمية للولايات المتحدة وزرع العلم الأمريكي في هذه المنطقة بالرغم من أنها تعاني من عدم الاستقرار، أم أن ذلك يحدث لأن حوالي ثلثي بترول العالم يوجد في السعودية والعراق؟ أم بسبب أن الولايات المتحدة تقيم تلك العلاقة الخاصة مع اليمين الإسرائيلي؟

هل كانت حربًا على الإرهاب؟

عندما توجه بوش إلى شن حرب على أفغانستان ثم على العراق، وعندما أعلن بدء حرب عالمية على الإرهاب، كان يزعم أنها ليست ضد «المؤمنين بالقرآن»، والحقيقة أنها كانت حجة لتطبيق سياسة راديكالية جديدة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، كانت إدارته متأثرة بأفكار المحافظين الجدد داخلها وخارجها على السواء. وفي كتابهما «الحرب على العراق» كتب كابلان وكريستول: «إن المهمة تبدأ في بغداد ولكنها لا تنتهي هناك، إنها حتى أكبر من مسألة مستقبل الشرق الأوسط والحرب على الإرهاب، إنها تتعلق بنوعية الدور الذي تنوي الولايات المتحدة الاضطلاع به في القرن الواحد والعشرين». كانوا يتصوّرونها حربًا «لإعادة صياغة العالم» بتعبير مايكل ليدن (من المؤسسة الأمريكية للمشروعات). كانت تلك هي سمة الرؤية العالمية للمحافظين الجدد، استراتيجية تم التخطيط لها عام 1996 وتضمنتها مذكرة سياسية لرئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت - نتنياهو - بمشاركة خبراء الإدارة بوصفها سياسة إقليمية شاملة، كانت المذكرة بعنوان «تغيير تام.. استراتيجية جديدة لتأمين المنطقة».

أما الحرب التي شنتها الولايات المتحدة في أفغانستان، فقد شدّت أمريكا لعقود عدة إلى التحالف مع اليمين الإسلامي الأشد رجعية ودفعته إلى مستوى أكثر عدوانية. الإسلام السياسي الذي كان بمنزلة قلعة ضد الاتحاد السوفييتي، أصبح في حرب أفغانستان سيفا، أصبح سلاحًا هجوميًا، مما يشير إلى تصاعد سياسة التعاون مع الإخوان المسلمين في مصر وبعض التنظيمات الإسلامية التي تجد لها دعمًا وتمويلاً من بعض الجهات في الشرق الأوسط وسائر عناصر الإسلام السياسي. الجهاد في أفغانستان أحدث تغيرًا نوعيًا في بنية الحركة الإسلامية نفسها (قوى العناصر الأكثر راديكالية) وخلق كادرًا جديدًا من الإسلاميين يجيد حرب العصابات والتخابر وسائر فنون القتال والسيارات المفخخة، وقوّى العلاقات العالمية بين الإسلاميين في شمال إفريقيا ومصر والخليج العربي ووسط آسيا وباكستان، وفي الثمانينيات تم وضع الأساس لتنظيم القاعدة.

كان من الصعب على الولايات المتحدة أن تُحجّم قوة الإسلاميين بعد الحرب وأن تحفّز قوة المعتدلين والوسطيين والعلمانيين. تقول شيريل بنيارد (خبيرة بشئون الإسلام السياسي وزوج زلماي خليل زاد الذي عمل سفيرًا للولايات المتحدة في كابول): إنهم كانوا يسمحون للمجاهدين بالتخلص من كل القيادات المعتدلة في الموجة الثانية للجهاد التي لا يعرف عنها سوى القليل. سقطت أفغانستان في يد حركة طالبان، ودهمت الجزائر حرب أهلية مع اليمين الإسلامي، وشن الإرهابيون الإسلاميون هجمات مدمّرة في مصر والسعودية ولبنان، ووحّد بن لادن القاعدة. خلال ذلك كله كانت الولايات المتحدة تجاهد لكي تبني سياسة متماسكة تجاه الإسلام السياسي، لكنها فشلت. استمرت نظرتها المعتدلة تجاه اليمين الإسلامي، ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر الصادمة. ويشن المؤلف هجومًا شديدًا في نهاية كتابه على سياسة جورج دبليو بوش، وبطانته من المحافظين الجدد، الذين كانت استجابتهم للأحداث تتسم برؤية إمبريالية، ويرى أن إدارته تتبع في الشرق الأوسط سياسة محسوبة من أجل مضاعفة ثروات اليمين الإسلامي، وتعتمد على الأصوليين الشيعة في العراق لإنقاذ سياستها الفاشلة هناك، كما يطالب عدد كبير من منظّري هذه الحملة الولايات المتحدة - صراحة - بأن تلقي بثقلها إلى جانب آيات الله والإخوان المسلمين.. وتستمر لعبة الشيطان!.

روبرت درايفوس مجلة العربي يونيو 2011

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016