.. الغرفة باردة بعض الشيء.. ولا تسمع بالخارج سوى نباح الكلاب الجائعة التي تعوي دون كلل أو ملل, وبعض الصياح المتقطع لتلك الفئة من الناس التي تشتري النسيان بكأس يبعدها كل البعد عن واقعها التعس, كي لا تستيقظ الآلام فتهوي على القلب تمزّقه بسكاكين الذكرى.
كم هو رهيب هذا الليل, ليل السواد الموحش, وصفير الرياح تئن بين فينة وأخرى, وكأنها تنذرك من الخوض في ظلمته, وكم هي الوحدة قاتلة, وكم هي الذكرى أليمة.
أصبحت نفسي منكسرة أكثر من ذي قبل, وارتويت مرارة الإحباط, وضياع يلف كامل جسدي, فتندفع الأوجاع, وزفرات الأنين تصعد كأنها رحلة الزمن الأخير.
تقدمت بي الأحزان حتى صرت طاعنة في السن رغم شبابي, فأخذت كل قيم الألم, ومبادئ الذكرى, وحلمت بأسطورة النسيان.
- ليس المرء في حاجة إلى غيره.. مادامت نفسه خربة -
فقد تسوّست نفسي, وبقيت مجرد حطام, ووجهي اكتسته تفاصيل شبح اسمه (الذكرى) ليرحل بي خلف قبور الواقع التي أضحت شواهدها تغرز في قلبي, فصارت دموعي, كدموع الصبايا الحائرة التي تزداد كلما زاد شعور الغربة عن الأشياء, لكن دموعي الصبية قد غاب عنها مَن يمسح الأحداق من بللها, ويلف العين بحرارة حتى تذوب في صدره.
لعبت الأقدار لعبتها, فما كان لي إلا أن أرضى بنصيبي الذي كمن في جلسة دائمة, لا يسليني غير النظر إلى الكلمات, ومن خلالها أطير محلقة إلى عوالم أخرى لأعيش بعيدة عن واقعي المؤلم, وفي أحضان الرحلات التي أقضيها وأنا في مكاني لا أتحرك, وما ذنبي إلا أنني أحببت بعمق.. حتى النخاع!
وفي هذا الليل, وكعادتي رحت أسترجع الذكريات, وأتأمل الأحداث, ولا شيء يشدني في هذا الكتاب المليء بالألم غير ذلك الطيف الذي زارني في حديقة بهجتي, وذهب دون رجعة, دون وداع.التهبت المشاعر ساعتها, والتقطت من العمر أجمل أيامه, وهأنا اليوم في حزن دائم أقدّمه قرباناً في معبدالحب للحظات سعيدة عشتها بحرارة.
التقيت (محمود), هزّني فيه تواضعه, طيبته, صدقه, غربته, فأنبت في قلبي زهوراً يافعة من المحبة التي أحيت مشاعري وأخرجتها برائحة نرجسية إلى عالم الربيع الرحب, فرأيت كل العالم سيمفونية يعزفها الحبيب بأشواقه المشتعلة, وهنا, وبهذا الجسد المتعب كانت تتوقد شموس الحلم, والأمل.وعند البحر, وفوق رماله الناعمة, حدقته بنظراتي, وقبلته بها, وتجسست عن مقدار حبّه علّني أبرّد نار الشوق, كانت تتأجج في نفسي حينها أحاسيس غريبة أجهلها, لكن لم أعر ذلك اهتماماً بالغاً.
وفي صباح أحد الأيام الصفراء الكئيبة, هبّت الأنباء تحكي عن الاغتيال الذي حصد مجموعة من الشباب بالمدينة كان محمود ضمنها.
إنه الإرهاب, كلمة تقتل الملايين, تخرج الزفرات والآهات, ولا ينطقها اللسان دون أن تقشعر لها الأبدان, كلمة سوداء, فيها الظلم والاحتقار, وقدرة جنونية على هدم كل القيم, وما إن طرقت الأخبار مسمعي حتى قفزت من الطابق العلوي ليدركني مصيره.
وبين أيام الحزن الطويلة, أردت النهوض من سريري المبحر في الدموع, فلم أستطع ذلك وكأن كل الأثقال قد وضعت على ساقي فتوقفتا عن الحركة لأنهما أصبحتا في حداد أبدي.