هناك لوحات تتطلب من المشاهد أن يقف أمامها بعض الوقت كي يكتشف مدى أهميتها، مثل صورة الدوق ليوناردو لوريدان التي رسمها جيوفاني بيلليني في العام 1501م، أي في الوقت نفسه الذي كان فيه ليوناردو دافنشي يرسم «الموناليزا».
وُلد بيلليني في البندقية عام 1431م، وتعلَّم تقنية الرسم بالألوان الزيتية الجديدة آنذاك من أنطونيو دي ميسيتا، وتحوَّل بسرعة إلى مؤسس لمدرسة خاصة في فن الرسم هي مدرسة «البندقية» التي استمرت ريادية وطليعية لثلاثة قرون.
ففي العام 1506م، قال الرسام الألماني البريخت دورر بعد زيارته للبندقية إن «بيلليني هو أفضل رسام في المدينة».
وفي العام 1501م، تم تنصيب ليوناردو لوريدان دوقًا على البندقية، ليقودها بحنكته السياسية على مدى عشرين عامًا كواحدة من أقوى دول أوربا. وكان من الطبيعي أن يتصدَّى «أفضل رسام في المدينة» لرسم صورته الشخصية التي نقف أمامها هنا، والتي لا يمكننا في هذا المجال إلا تعداد عناوين بعض ما يصنع عظمتها.
إنها لوحة صغيرة الحجم جدًا بالنسبة لصور الحكام والملوك (61 × 45 سم)، ومع ذلك نشعر فورًا بأننا أمام شخصية مهيبة. فالدوق يرتدي الزي الرسمي الموحد لدوقات البندقية في الاحتفالات الرسمية، بما فيه القبعة المميزة والمعطف بأزراره الكبيرة. واستطرادًا كان بيلليني في رسم هذا الزي رائدًا، إذ لم يسبق لا لليوناردو ولا لغيره أن رسم القماش المطرز (البروكار) بمثل هذا الإتقان الفوتوغرافي، ولم يصل أحد إلى مثل هذا الإتقان في هذا المجال قبل مرور نصف قرن تقريبًا بعد هذه اللوحة، كما أن رسم الوجه، من خلال تعاقب الضوء والظل بسلاسة من دون خطوط فاصلة، كان أيضًا من معالم ريادة بيلليني، الذي رافق دافنشي في هذا المجال ولم يأخذ عنه. ومع ذلك، ففي هذه اللوحة ما هو أهم من كل ما تقدَّم.
لم يكن دوق البندقية حاكمًا مطلق الصلاحية، بل كان يُنتخب من قبل 41 أرستقراطيًا من المدينة، وكان عليه من الواجبات أكثر بكثير مما له من حقوق. فهو من جهة يخضع للمحاسبة والتفتيش، ومن جهة أخرى عليه أن يقود سياسة الجمهورية واقتصادها وأحوالها الاجتماعية. وبعبقريته الفذة استطاع بيلليني أن يرسم السمو الملكي بأبسط لغة تعبيرية، فقد جرَّد لوحته من كل الزخارف والإكسسوارات التي تروي العظمة، واكتفى بخلفية زرقاء داكنة لا شيء فيها غير اللون الملكي، ونجح في أن يجمع واقعية ملامح الوجه، إلى النظرة المتأملة والمفكرة وما تشي به هذه النظرة، والعنق النحيل الذي يقول إن هذه هي حقيقة هذا الرجل، ويقول أيضًا إن عظمته لا تحتاج إلى تجميل الواقع.
التعظيم الوحيد جاء بريشة الرسام همسًا، وهو في الحاجز الرخامي (الذي يحمل توقيعه) ويجعل من صورة الدوق صورة نصفية مستوحاة، وبشكل طليعي أيضًا آنذاك من التماثيل النصفية الرومانية. وفي هذا همس يدعم مزاعم عائلة لوريدان بأنها تتحدر من سلالة بطل روماني كان يُدعى كايوس موكيوس سكافولا.
ولأنه لا يوجد رسامون يستطيعون أن يقولوا في صورة شخصية قدر ما يقوله بيلليني وبمثل هذا الحد الأدنى من العناصر، يذهب البعض إلى وضع هذه الصورة في مصاف «الموناليزا» كواحدة من أفضل الصور الشخصية في تاريخ الفن، رغم أنها أقل شهرة، ولكن ليس بكثير.