من الذي يدفع ثمن حماقات العتاة في العدوان؟ دائما العناصر الأكثر براءة وهشاشة لأن فطرتها السوية والرقيقة تضطرب بشدة لفرط لامعقولية العدوان، إنهم الأطفال أكثر من يدفع الثمن، يدفعونه من رصيد الطمأنينة في نفوسهم، ومن رصيد التحليق في مخيلاتهم، وهو ثمن فادح تشير إليه هذه المقالة التي تعتبر دراسة حالة لأطفال تحت النار، وإن كان الطفل الكويتي هو مادتها إلا أنها تشير إلى مأساة الطفولة بشكل عام
يمثل العدوان العراقي على الكويت في الثاني من أغسطس 1990 للمواطن الكويتي بجميع فئات العمرية موقفا صادما - عصبيا - ومفاجئا انتقل فيه المواطن الآمن من حالة الراحة التامة والاستقرار في منزل ووطنه إلى حالة من اغتصاب حقه في الاستقرار والاطمئنان في منزله وأرضه، إن الكبار يلجأون في مواجهة حادثه كأزمة الغزو العراقي إلى تكوين (ميكانيزمات، الدفاع النفسي أو حيل لا شعورية للتكيف - مع الغزو كالكبت - المواجهة اللفظية أو التبرير- الإسقاط - الإشباعات الاجتماعية "كالزواج مثلا"، أما الـطفل فهو لا يملك القدرة الفعلية على تكوين تلك الوسائل أو التفسير أو الفهم والربط وإدراك العلاقات بصورة منطقية، كما أنه لا يملك القدرات الأساسية لمواجهة الأزمات وإنما يلجأ إلى الكبت غير المنطقي، هذا الكبت الذي قد يؤدي في كثير من الحالات إلى تكوين اضطرابات انفعالية ونفسية وخوف عام وحركات عصبية وعجز عن التنبؤ بالمستقبل وفقدان الشعور بالأمن النفسي والمادي بالأسرة خاصة عندما لا تفهم أو تقدر أو تمتص الأسرة هذه المشاعر السلبية.
الأطفال تحت الغزو
بما أن الطفل الكويتي لم يعتد على سماع أصوات طلقات النار والمدافع أو تعرضه للتفتيش عند نقاط السيطرة العراقية والرشاش موجه إلى رأسه، فقد كنا نلاحظ بأن كثيرا من الأطفال كانوا يقومون بتخفيض رءوسهم خلال وجودهم مع أهليهم بالسيارة خوفا من أن يحدث إطلاق نار يصيبهم، كما أنهم مقتوا الكثير من تصرفات الوالدين وأيدوا غضبهم تجاههم بسبب عدم معرفتهم بأسباب ومبررات بعض تصرفات الأهل كدفن الأسلحة خلال الغزو في حديقة المنزل، وحرمان الطفل من أداء الواجبات اليومية والاجتماعية كالذهاب إلى المدرسة واللعب مع الأطفال وتزويدهم بالحلويات. وغير ذلك. وانعكس جو الأسرة المشحون بالغضب والخوف من الاعتقال - الموت - المطاردة سلبا على الطفل بحيث أصابه بالقلق والخوف خاصة عندما تكون تفسيرات الأهل للأزمة ناقصة وغير منطقية أو غير مفهومة مع استيعابه العقلي والعمري، فيلجأ الطفل هنا إلى الكبت، على الرغم من كذلك ليس كل شيء مكبوت يبقى كذلك لأن العناصر المكبوتة لا بد أن تطفو على سطح الوعي بقوى رمزية كاضطراب القدرة على التعبير اللفظي والقلق والخوف صعوبات التركيز والعزلة والخوف من مصادر لم تكن تسبب للطفل الخوف أصلا، وفقدان الشهية والصراخ والبكاء المستمر.
هذه الأعراض النفسية للطفل تهدف إلى تحقيق مكسبين لا شعوريين وهما تخفيض القلق الذي سببته أزمة الاحتلال إضافة إلى كسب محبة وعطف الوالدين لإعادة التوازن النفسي المفقود بين الأطفال، وكنتيجة لرؤية آبائهم يشتمون ويضربون ويعذبون عند نقاط السيطرة العراقية، فقد أدى ذلك إلى تشوه الصورة المثالية للأب كرجل قوي وخارق، كما أدى إلى حديث اضطرابات بالنوم وكـوابيس مزعجة للأطفال.
الغزو وسماته النفسية
1- الحرمان شبه المستمر من بعض المواد الغذائية التي اعتاد الطفل على تناولها "الشيكولاتة - الآيس كريم.. وغير ذلك" وعدم حصول الطفل على تفسير منطقي من الوالدين يبرر هذا الحرمان يجعله يشعر بعدم العدالة - الظلم وبالتالي الغضب لكبت حاجاته المادية والنفسية.
2- عجز الطفل عن تفسير سبب قيام جيش عربي مسلم "العراق" بالعدوان على بلده وأهله سبب له اضطراب مفاهيمه العقلية السابقة تجاه معنى العروبة - الإسلام - الصداقة - الحب.
3- اضطرار الطفل للتكيف بشكل يومي على اقتحام الجنود العراقيين للمنزل في ساعات متأخرة من الليل أو الفجر للتفتيش عن الأسلحة أو الأفراد - إطلاق النار- أصوات المدافع سبب له شعورا عاما بالفزع - الخوف والارتباك الذهني.
4- اضطراب أو توقف واجبات الطفل اليومية كالذهاب إلى المدرسة - الحدائق - مدينة الملاهي - الالتقاء مع أقرانه - اللعب خارج المنزل يجعل الطفل عاجزا عن تفسير سبب هذا التوقف أو تحمل هذا النمط من السجن الإجباري مما يدفعه إلى تكوين أنماط من السلوك العدواني تجاه العالم الخارجي الذي حرمه من فرص إثبات ذاته والتمتع بأبسط حقوقه الإنسانية، يبدأ الطفل في طرح هذا السؤال: من المسئول؟ هل الجيش العراقي المسلم أم الأهل وخوفهم المبالغ فيه أو سوء الحظ أو عقاب مفروض على الطفل دون أن يدرك سبب هذا السخط عليه؟ إن المنازل ومحلات الألعاب المحروقة - مشاهد الجثث الملقاة - السيارات الجميلة المفككة والمحروقة مناظر يعجز الطفل عن استيعابها، فلماذا يحرق ويقتل كل شيء جميل؟
5- لماذا يفرض على الطفل أن يعيش في سرداب المنزل لمدة أسابيع طويلة دون أن يخرج تحت قصف المدافع لماذا يحرم من حب الاستطلاع والحركة والنشاط، وكيف له أن يتحمل هذا الضغط الجسدي والنفسي؟
في إحدى الدراسات المسحية التي أجرتها منظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة على 45 طفلا كويتيا "إناثا + ذكورا" للفئة العمرية 5 - 13 عاما في إحدى المناطق اتضح عن نتائج الدراسة ما يلي:
(أ) 62% من الأطفال تعرضوا لصدمات نفسية شاهدوا جثثا ملقاة على جانبي الشارع لأشخاص لا يعرفونهم وأحيانا لأشخاص يعرفونهم.
(ب) 20% من أطفال العينة العشوائية فقدوا أقرباء لهم بواسطة القتل أو الأسر.
(جـ) 50% تعرضوا لاضطرابات نفسية من جراء الغزو كالأحلام المزعجة والكوابيس والخوف المستمر من كل شيء.
(د) اتضح أن جميع الأطفال الذين خضعوا للدراسة خاصة في المرحلة العمرية (6) سنوات يخافون الخروج من المنزل وكانت رسوماتهم تعبر عن الألم المكبوت كأن يقوموا برسم صور الجثث - الدم - الطائرات وكل ما له علاقة بالغزو العراقي.
مشاكل النزوح الجماعي
إن اللحظة التي قرر فيها بعض الأهالي النزوح من الوطن تحت ضغط التهديد المستمر من العراقيين أو المطاردة المستمرة لهم قسرا عن طريق الصحراء كانت تلك اللحظات تمثل صدمة نفسية ومادية للطفل الكويتي.
فالسفر عن طريق الصحراء فيه الكثير من عوامل الخطر والتهديد للأمن النفسي والمادي للطفل "المطبات الشديدة بالصحراء - تعرض بعض الأسر لإطلاق النار من قبل الجنود العراقيين - نقص الماء والأكل - تعرض بعض الأسر للضرب وأحيانا للاغتصاب أمام الطفل" كل تلك العناصر كانت مرعبة للطفل، إن الجهاز النفسي والعقلي للطفل لا يستطيع تفسير لماذا يضطر أن يعاني كل هذه المعاناة، ويتساءل لماذا يعاملني أشخاص يفترض فيهم الحب والرحمة لي بهذه الطريقة البشعة من متاعب الرحلة والحرمان والخوف.
عندما يصل الطفل مع أهله إلى البلد المراد الإقامة به تبدأ بعد فترة من الإقامة هناك تظهر لديه أعراض نفسية مؤلمة كالسرقة من حاجيات الأهل - عدوان غير منطقي أو دون سبب موجه نحو إخوته أو والدته، إصرار على طلب حاجيات معينة وإذا لم تنفذ رغبته يقوم مثلا بضرب رأسه بالحائط أو يجبر والدته على أن تحضر له وجبة عشاء آخر الليل، إن هذه الأنماط من السلوك تتخذ صفة عدوانية موجهة نحو الآخرين بهدف التفريغ الانفعالي لغضبه المكبوت.
كما ينتاب الطفل شعور عام بالغربة "اغتراب حضاري - بيئي - نفسي" فالمنزل - أو الشقة - الذي يعيش به مختلفة لديه من ناحية الشكل والتصميم والمساحة لمنزله بالوطن، يرى والدته تقوم بأعمال منزلية ووالده يقضى معظم ساعات يومه بالشقة ولا يفهم أين الخادمة ولماذا لا تعمل!!
الخلاصة
إن تجربة المواطن الكويتي بالداخل على وجه الخصوص وبالخارج تجربة فريدة من نوعها في الطلب النفسي، فالأزمات والكوارث الطبيعية كالأعاصير المدمرة وحوادث سقوط الطائرات، أفردت لها بحوث الطلب النفسي الكثير من المقالات من ناحية انعكاساتها السلبية على شعوبها وكيف أن تلك الصدمات المدنية كانت تزيد من نسبه الانتحار لدى تلك الشعوب أو حالات الاكتئاب إلى آخر قائمة الأمراض النفسية.
إن ما حدث في الكويت لم يذكر في قواميس الطب النفسي، فلا يوجد مصطلح في أي قاموس طبي أو غير طبي يصف ما تعرض له شعبنا من تعذيب وقتل وتشريد وأسر دام أكثر من سبعة شهور، والغريب في الأمر أن شعبنا خرج من الأزمة وبدأ بسرعة مذهلة العمل - التطوع - ممارسة حياته الطبيعية، والأغرب من ذلك أن نسبة المترددين على مستشفى الأمراض النفسية أو العيادات الخاصة أقل بكثير من هؤلاء قبل الغزو.