لاتزال كلمات مدرس الرياضيات الذي كان يعدني لاجتياز امتحان شهادة الجي سي إي (GCE) في أواخر الثمانينيات عالقة بوضوح في ذهني، حيث أصاب الأستاذ سيد وابلاً من الدهشة الشديدة حين شاهد بحوزتي أدة هندسية بسيطة من البلاستيك المرن تستخدم لرسم المنحنيات الهندسية.
ولما كانت تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها المدرس الشاب مثل هذه الأداة «المذهلة»، خرجت من فمه الكلمات التي لازلت أتذكرها جيدًا، حيث قال بلهجة محاكاة للصعيدية المصرية التي يقدمها التلفزيون المصري (بسطحية أحيانًا) في المسلسلات: «العلم اتجدم (تقدم) يا ولاد».
أتذكر كلمات الأستاذ سيد كلما شهِدتُ تطورًا تكنولوجيًا جديدًا في مجال وسائط المعلومات، فماذا يقول مَن أذهلته تلك الأداة البسيطة عن عالم تكنولوجيا المعلومات والإنترنت؟ ماذا يقول - مثلاً - عن البريد الإلكتروني الذي لا نفكر فيه كثيرًا الآن، بل لا نتوقف عنده ونعتبره شيئًا عاديًا؟ ماذا يقول عن شاشات التلفزيون ثلاثية الأبعاد؟ بل ماذا يقول عن شاشات التلفزيون رباعية الأبعاد؟ ماذا يقول الأستاذ سيد عن الكتاب الإلكتروني؟
الكتاب الإلكتروني أو الكتاب الرقمي تعبير يطلق على مطبوعة تُنشر وتُقرأ عبر وسيلة رقمية كالكمبيوتر أو أجهزة المساعدة الشخصية الرقمية PDA) Personal Digital Assistant) أو حتى التليفون المحمول، ولكن غالبًا ما تقرأ هذه النوعية من الكتب على جهاز قارئ إلكتروني معد خصيصًا لهذا الغرض.
وفكرة الكتاب الإلكتروني ليست بالحديثة، فقد بدأت في أوائل السبعينيات من القرن الماضي وتحديدًا في 1971 حين بدأ طالب أمريكي في جامعة الينوى في رقمنة بعض الكتب التي رأى أنها ذات فائدة عظيمة للبشرية، وعُرف هذا المشروع الذي بدأه الطالب مايكل هارت بمشروع جوتنبرج Project Gutenberg ولايزال هذا المشروع قائمًا حتى اليوم، حيث يحتوي موقعه على الإنترنت www.gutenberg.org على أكثر من 33000 كتاب إلكتروني، كلها قابلة للتحميل من دون مقابل. وفي مقدمة هذه الكتب مغامرات شرلوك هولمز، والأعمال الكاملة لكبار الأدباء العالميين أمثال تشارلز ديكنز ووليام شكسبير ومارك توين وأوسكار وايلد وجين أوستن وليو تولستوي وادجار آلان بو وغيرهم.
ولكن هل يقرأ الناس فعلاً على شاشات الكمبيوتر؟ وما مدى انتشار ثقافة الكتاب الإلكتروني؟ إجابة هذين السؤالين تعتمد بدرجة كبيرة على عمر المتلقي وثقافته وموقعه الجغرافي من العالم، إذ أنه مما لاشك فيه أن القراءة الإلكترونية أوسع انتشارًا في المجتمعات الغربية عنها في المجتمعات العربية، وذلك لأسباب عدة منها - مثلاً - انتشار ثقافة القراءة بشكل عام (ورقية كانت أو إلكترونية) في الغرب مقارنة بالمجتمعات العربية، ومنها انتشار استخدام الكمبيوتر والإنترنت بصورة يومية في الغرب بين شرائح المجتمع المتعددة عنه في المجتمعات العربية، أضف إلى ذلك مشكلة الأمية التي لاتزال تعصف بالعديد من البلاد العربية في حين تخلص منها الغرب منذ زمن بعيد. وبالرغم من ذلك، فإن ظاهرة القراءة الإلكترونية قد بدأت في الانتشار بين جيل الشباب في البلاد العربية، وهو الجيل الذي شبّ وترعرع في زمن الكمبيوتر والإنترنت، وتأثرت حياته الاجتماعية وصداقاته بـ«الفيس بوك» Facebook والمدوّنات والرسائل المقتضبة على «تويتر» Twitter.
ومما ساعد على انتشار القراءة الإلكترونية حول العالم وجود حوالي خمسة ملايين كتاب إلكتروني على المواقع المختلفة على الإنترنت، منها ما يقرب من ثلاثة ملايين كتاب إلكتروني متاحة للتحميل المجاني وبصورة قانونية حسب قوانين الملكية الفكرية. من هذه الكتب المجانية ما يعود تاريخ نشره لما قبل العشرينيات من القرن الماضي، وبالتالي سقطت عنه حقوق الملكية الفكرية الخاصة، وأصبح ملكية عامة، ومنه ما يصرح مؤلفوه بالنشر الإلكتروني المجاني أملاً منهم في اكتساب القرّاء، وهؤلاء عادة ما يكونون من شباب الكُتّاب والمبدعين الذين يعملون على انتشار أسمائهم واكتساب سمعة أدبية على حساب الربح المادي. فمثلاً موقع أرشيف الإنترنت www.archive.org يحتوي على ما يزيد عن مليونين ونصف مليون كتاب إلكتروني مجاني، وموقع المكتبة المفتوحة www.openlibrary.org يحتوي على ما يزيد على المليون كتاب مجاني، وهكذا.
وحتى عندما تُباع الكتب الإلكترونية، فإن أسعارها تعتبر زهيدة جدًا مقارنة بالكتاب المطبوع ورقيًا، وذلك لأسباب عدة، فالنشر الإلكتروني لا يتكلف مصاريف الطباعة والورق والشحن والتخزين وما إلى ذلك، وبالتالي فإن أحدث الإصدارات العالمية حين تتكلف نسختها الورقية 30 - 50 دولارًا والنسخة المجلدة قد تتعدى المائة دولار، فإن النسخة الرقمية القابلة للتحميل الفوري في أي مكان بالعالم لا تتعدى تكلفتها 10 - 15 دولارًا في أغلب الأحوال.
وربما كان من أهم التطورات التي ساعدت على انتشار القراءة الإلكترونية عالميًا اختراع أجهزة القراءة الرقمية. وقد بدأت هذه الأجهزة بجهازي Rocket ebook وSoftbook في عام 1998، وتلاهما جهاز Cybook في العام نفسه. وبعد ذلك أدركت كبرى شركات الإلكترونيات أن القراءة الإلكترونية مجال شرِه للتوسّع فأنتجت شركة مايكروسوفت جهازًا خاصًا بها في عام 2000، وتلتها شركة سوني بجهاز آخر في 2004.
وربما كان أهم هذه الأجهزة جهاز القارئ الخاص بشركة أمازون Amazon والمسمى بجهاز كيندل Kindle، والذي بدأ إنتاجه في عام 2007 وطُرح أحدث إصداراته في عام 2010.
أضف إلى ذلك جهاز iPad الذي طرحته شركة أبل في أبريل 2010، وباعت منه سبعة ملايين جهاز في ستة أشهر.
وللحق فإن لهذه الأجهزة سحرها ومذاقها الخاص، فأنا أذكر أنني في عام 2007 كنت على متن طائرة في طريقي إلى الولايات المتحدة الأمريكية وجاءت جلستي بجوار سيدة في منتصف العمر, ما لبثت أن أخرجت من حقيبتها كتابًا مغلفًا بغلاف من الجلد الفاخر، وبما أنني قارئة نهمة فقد التفت من دون وعي لأرى ماذا تقرأ هذه السيدة، فإذا بها تفتح الغلاف الجلدي الفاخر لتبدو من ورائه شاشة صغيرة في حجم الكتاب من القطع المتوسط، وكان هذا هو جهاز Kindle الذي كانت شركة أمازون قد طرحته في الولايات المتحدة منذ أقل من شهر آنذاك، وبطبيعة الحال، سألت السيدة عن رأيها في الجهاز، فأخبرتني أنها كانت تنتظره بفارغ الصبر وقامت بحجزه من على موقع أمازون قبل إصداره، حيث تعجبها جدًا فكرة أنها تمسك بين أيديها بأكثر من 3500 كتاب في هذا الجهاز صغير الحجم، ليس عليها انتظار الكتب التي تطلبها الآن، حيث تستطيع بنقرة صغيرة على جهاز الكمبيوتر تحميل الكتب الحديثة فور إصدارها.
استأذنتها في تجربة الجهاز، فكان أول ما لفت نظري وضوح الخط الذي أمامي، وحين علقت على ذلك بادرت السيدة باطلاعي على كيفية تغيير الخط وتغيير الحجم للنص الذي أمامي، وتيقنت أن تلك تعتبر ميزة كبيرة، ربما لكبار السن أو لضعاف النظر حيث يتحكم الفرد في حجم وشكل النص المناسب له. والأجهزة الحديثة من القارئ الإلكتروني بإمكانها أيضًا قراءة الكتب المسموعة أو ما يعرف بالـ Audio book حيث يتصل الجهاز بسماعة صغيرة مما يؤهل متحدي الإعاقة البصرية لقراءة ما يودون من تلك الكتب والتي يمكن أيضًا تحميلها ببساطة من المواقع الإلكترونية.
وللكتب الإلكترونية مميزات أخرى. حيث يستطيع الشخص أن يبحث إلكترونيًا عن معلومة معينة عن طريق محرك بحث مزود على جهاز القارئ، كما يستطيع تدوين أي معلومات إضافية أو خواطر شخصية على الهامش كما يفعل في الكتاب المطبوع، ولكن الكتاب الإلكتروني يتيح للشخص أيضًا التحكم في حجم الهوامش وإمكانية إخفائها أو إظهارها كما يريد، كما أن تدوين الخواطر إلكترونيًا يتيح الاحتفاظ بالنص الأصلي خاليًا من أي كتابات إضافية عند الحاجة. ويتيح هذا القارئ دمج وسائط إعلامية عدة، إذ يمكن للنص الإلكتروني أن يتفرع بقطعة موسيقية أو بمقطع من الإعلام المرئي (Video).
إذا كان للكتاب الإلكتروني كل هذه المميزات، فهل يعني هذا أن الكتاب الورقي في خطر؟ في رأيي المتواضع أن هذا ليس صحيحًا، على الأقل في المستقبل القريب: فللكتاب الورقي مذاق خاص وإحساس خاص وألفة معينة نابعة من ملمس الورق ورائحته والشغف الذي يصاحب تقليب الصفحات أثناء قراءة رواية رومانسية حالمة أو كتاب علمي ممتع، وفي واقع الأمر فإن بعض التقارير العلمية - كتلك الصادرة عن مؤسسة فوربز Forbes الأمريكية أو عن مشروع بيو للإنترنت Pew Internet Project - تلك التقارير تشير إلى أن القراءة الإلكترونية تؤدي إلى زيادة القراءة الورقية، فمثلاً حين يقرأ البعض فصلاً من رواية متاحة مجانًا على الإنترنت يقرر اقتناء الرواية في نسختها الورقية، فقد أدت شبكة الإنترنت إلى زيادة الوعي وانتشار الثقافة عالميًا، وبالتحديد ثقافة القراءة والكتابة.
ولكن علينا أن ننتبه - بغير أن نجزع - في الوطن العربي إلى أن أنماط القراءة والكتابة قد اختلفت وعلينا أن نواكب تلك الاختلافات، فالقرّاء عمومًا، والشباب منهم بشكل خاص يقرأون إلكترونيًا في المدوّنات وعلى صفحات «الفيس بوك» ورسائل التويتر نصوصًا قصيرة مقتضبة قد تستدعي التركيز، ولكن لفترات أقل وبشكل متقطع، كما أنهم اعتادوا على إمكانية الرد أو التعقيب على الرأي أو النص المنشور أو فكرة التحوّل الفوري من القراءة إلى الكتابة أو من التلقي إلى إصدار الرسالة، ولابد من أخذ تلك المقومات في الاعتبار حين نحاول اجتذاب الشباب للقراءة الورقية أو الإلكترونية.
في عام 2010 أعلنت شركة أمازون أن مبيعات الكتاب الإلكتروني قد تخطت للمرة الأولى مبيعات الكتاب المجلد Hardcover، وإن كانت مبيعات الكتاب المجلد نفسها قد زادت بنسبة 22 في المائة على العام السابق، في إشارة أخرى إلى أن القراءة الإلكترونية قد تؤدي إلى زيادة القراءة الورقية. وفي آخر رحلاتي إلى الولايات المتحدة منذ شهور قليلة جاءت جلستي بجوار رجل أمريكي في منتصف السبعينيات، كان قد جاء إلى مصر في رحلة سياحية مع زوجته، وعندما أخرج الرجل جهاز Kindle سألته عمّا إذا كان يشتاق لملمس ورائحة الورق. ابتسم الرجل وقال إنه يشتاق إليهما جدًا، ولكنه أصبح لا يستطيع الاستغناء عن القارئ الإلكتروني أثناء السفر والرحلات، حيث يستعيض به عن حمل عشرات الكتب والتي كان يضطر لحملها مسبقًا في أسفاره باعتباره قارئًا نهمًا، ولكنه أضاف أنه لايزال يشتري العديد من الكتب الورقية - حتى إذا كان قد قرأها إلكترونيًا - لأنه يحب أن يراها مصطفة في مكتبته المنزلية، ويتمتع بترتيبها من حين لآخر أثناء انتقائه لأحدها لقراءته «والتمتع بتقليب صفحاته».
وأخيرًا فإن فكرة الكتاب الإلكتروني تحمل في طياتها فرصًا عدة للثقافة العربية، حيث نستطيع من خلالها وبمجهود بسيط زيادة المحتوى العربي على الإنترنت، والذي يعد أقل من 2 في المائة من إجمالي المحتوى على الشبكة، وفي ذلك فائدة كبيرة للثقافة العربية، ليس أقلها إمكانية إمداد الشعوب والجاليات العربية حول العالم بالكتب العربية فور صدورها، والحفاظ على الكتب العلمية والأدبية من التراث العربي شديد الثراء على مر العصور، كما أن للكتب الإلكترونية ميزة أخرى كبيرة هي تخطي حدود الرقابة، حيث لن تستطيع أي حكومة مصادرة كتاب أو منع أجزاء منه كما تفعل بعض الحكومات العربية للأسف حتى الآن. وفي النهاية، فإن الكتاب الإلكتروني فرصة لجذب الشباب من العرب الذين قد لا تستهويهم الكتب الورقية، ولكن تستهويهم شاشات الكمبيوتر والإنترنت وفيس بوك، فالكتاب هو الكتاب سواء كان ورقيًا أو إلكترونيًا، فلنستخدم إذن التكنولوجيا المتاحة لجذب الشباب العربي إلى القراءة ولإثراء المحتوى العربي والثقافة العربية بشكل عام.