لم تشكل أعمال سعيد عقل حتى الساعة موضوع تحقيق منتظم ومعمّق من قبل النقد الأدبي والجامعي. إذ باتت الآراء حول شعره والمكان الذي يشغله في الشعر العربي المعاصر مبهمة وذاتية.
بين مديح مغال واتّهام جارح، لم تجد أعماله مكانتها المناسبة. ما يعني أن أعمال سعيد عقل هي الوحيدة ربما التي اختلفت آراء النقاد حولها، ولكنّ لهذه الآراء المتناقضة أسبابا موضوعية وذاتية معًا.
كاتب جدي مثل أدونيس الذي يصنف سعيد عقل على عجلة في تيار الرومنطيقية الشكلية، لم يجد شيئا يقوله حول أعماله، سوى أنها تحتل مركزًا بارزًا وحاسمًا في تنقية اللغة الشعرية، وآخرون أكثر جزمًا منه رأوا فيه ممثلا لنوع من الرمزية، أما إيليا حاوي، الأكثر دقة، فيجد أن شعر سعيد عقل رومنطيقي مصبوغ بتصنع ذهني، وفي الخط عينه، يصف يوسف الخال، إمام حركة الحداثة في لبنان، ورئيس تحرير مجلة «شعر»، شعر سعيد عقل بالرومنطيقية المصبوغة برمزية القرن التاسع عشر الفرنسي. وأخيرًا، يتردد كمال خير بك في تعيين موقعه ما بين الرمزية والرومنطيقية. في جميع الأحوال، فالتحير الذي يسم موقف النقد تجاه الانتماء الحقيقي لسعيد عقل إلى مدرسة أدبية محددة، رومنطيقية أو رمزية، يقابله موقف قاطع لجهة عدم الرغبة في تصنيفه من بين الشعراء المحدثين، على الرغم من أن أعماله أثّرت في كوكبة من الشعراء الشبان مثل جورج رجّي، جورج غانم، شوقي أبي شقرا، جوزيف نجيم، الذين كانوا في عداد جماعة «شعر». حتى أن يوسف الخال نفسه تأثّر باكرًا بنظرية سعيد عقل في استعمال اللغة المحكية والتخلي عن «الفصحى»، بذلك أصبح شعر سعيد عقل ظاهرة غير قابلة للتصنيف، تحاكي فرادتها شخصيته الفذة.
عقل والحداثة: تزامن أم لقاء؟
يرجع هذا الالتباس في الأعمال والمكانة التي تشغلها إلى عوامل ملازمة لها وأخرى خارجة عنها، وعلينا في سياق العوامل الخارجية عدم الاستخفاف بالتطابق الزمني. في الواقع تمتدّ المرحلة الخصبة لنتاج سعيد عقل، والتي أسست لشهرته، بين 1950 و 1974، وهي مرحلة دعوناها غنائية. تتطابق هذه المرحلة تمامًا مع بدايات الشعر الحديث في لبنان وفي العالم العربي. إلا أن علاقة سعيد عقل بالحداثة الشعرية لم تكن علاقة اندماج أو ذوبان، لقد أنتج هذا التطابق توازيًا لا يقبل الجدل، وعلى الرغم من التقاء نتاج سعيد عقل بنتاج المحدثين في بعض النقاط، إلا أن الواحد بقي بلا منفذ إلى الآخر، ويرجع هذا بدوره إلى عدّة عوامل.
إن تزامن ظهور أعمال سعيد عقل الشعرية مع محاولات المحدثين الأولى، لم يشكّل سببًا كافيًا لتشابه المصادر والاهتمامات والمرامي، ففي الوقت الذي خطا فيه جيل الشعراء الشباب، مثل نازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب وعبدالوهاب البياتي في العراق وصلاح عبدالصبور في مصر وفدوى طوقان في فلسطين ويوسف الخال وأدونيس في لبنان، الخطوات الأولى في مجال الشعر وكانوا شبه مغمورين، كان سعيد عقل يتمتّع بشهرة أكيدة نتيجة الأعمال التي قدمها منذ سنة 1935: وهي «بنت يفتاح» (1935) «المجدليّة» (1937) و«قدموس» (1944) التي رسّخت شهرته، وكان يتحضّر في سنة 1950 للبدء بتجربة شعرية جديدة.
لم يكتب لهذا التزامن أن يتطور إلى لقاء، إذ لم يستطع الشاعر الكبير الذي كان أربعينيًا أن يتصادق مع جيل شباب حديثي العهد من المترددين والمتحيرين، وذلك لأن فارق العمر واختلاف الاقتناعات والانتماء إلى جيلين مختلفين كان أقوى من مصادفة جمعتهم في زمن واحد وعلى درب الشعر الواحد... إذ كان سعيد عقل مكملاً للماضي، وبالتالي محافظًا بحيث لم يكن ليُعجب جيل الشباب، ومع ذلك التقت أعمال سعيد عقل في بعض أوجهها مع محاولات المحدثين حتى أنها سبقتها في بعض الأحيان. لقد ركّزنا في تحليلنا للبنى العروضية على رغبته في الانعتاق من النموذج العروضيّ التقليدي: تلاعب بالأوزان والتفعيلات، اعتماد الرّجز، استعمال البحور القصيرة التي كان الشعر التقليدي نادرًا ما يستخدمها، إضافة إلى خلط إيقاعات مختلفة في القصيدة نفسها. هذا الغليان التحديثي الذي ظهر في «رندلي» وعمّم في «أجمل منك؟ لا» (1960) و«قصائد من دفترها» (1973) سيهدأ في «دُلزي» لسيترجع مجددًا الأشكال العروضية التقليدية في «كما الأعمدة».
هذا التحديث الذي لا يهدم كليًا أسس البنية العروضية الكلاسيكية وهو بالضبط ما حاول أن يقوم به الشعراء المسمّون «مُحدثين». لقد تطرّق ناجي علوش، في مقدمته لـ «الأعمال الكاملة» لبدر شاكر السياب، إلى مسألة استعمال البحور لدى هذا الشعر الطليعي والممثل الأبرز للشعر الحديث في العالم العربي، مظهرًا كيف أن بدر شاكر السياب استطاع أن يستفيد من بحور الشعر العربي، فاستخدم الرجز، مطية الشعراء القدماء والمعاصرين، ليجعل منها حصانًا كما في «أنشودة المطر»، والسريع كما في «رسالة من مقبرة»، والمتدارك في «المسيح بعد الصلب». ففيما يبالغ أكثرية الشعراء المعاصرين في استخدامهم الرجز، وفي اعتمادهم له كبحر مألوف، ينوّع بدر شاكر السياب شعره ويستخدم الكامل والوافر والرمل والمتقارب والمتدارَك.
لقد اعتمد بدر شاكر السياب غالبًا الانتقال من بحر إلى آخر ليستفيد من التنوع الإيقاعي، كما في شعره «المغرب العربي» و«جيكور والمدينة»، وقد نوّع أحيانًا في استخدام التفعيلات كما في «المسيح بعد الصلب» بإدخاله مشتقًا في التفعيلة الأساسية «فعل» بطريقة منتظمة في القصيدة كلها، يمكننا تطبيق هذا التقييم لشعر بدر شاكر السيّاب، الشاعر الأكثر تمثيلاً للشعر العربي الحديث، من دون أي تعديلات على أعمال سعيد عقل:
بحور سعيد عقل
1 - يكثر سعيد عقل من استخدام الرجز، إنه البحر الأكثر استخداما في شعره، وهو أيضًا البحر المفضل في أغلبية قصائد «أجمل منك؟ لا» (1960) و«أجراس الياسمين» (1971) و«قصائد من دفترها» (1973).
2 - لا يحد سعيد عقل شعره ببحر الرجز فقط، وإنما مروحة بحوره واسعة ومتنوعة وتصل إلى أربعة عشر بحرًا.
3 - يستخدم سعيد عقل عدة بحور في بعض قصائده، مثلاً السريع والمتقارب في «ماذا؟ انتهى كل شيء؟».
4 - يستخدم سعيد عقل التفعيلة ومشتقاتها (الـ «فع» الشهيرة) بطريقة منتظمة في بعض قصائده من أجل خلق تنوّع إيقاعي يكسر رتابة البحر الواحد.
وعلى صعيد آخر، وفي مسألة أولوية استعمال البحر الذي تجادل حوله طويلا بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، يمكننا حسم هذا الجدال والتأكيد بأن سعيد عقل قد سبقهما في العام 1944 عندما تصرف بحرية في استعمال «الكامل» في الأبيات الأربعة والأربعين الخاصة بالكورس في «قدموس».
مسألة النموذج العروضي شغلت الشعراء والنقاد الأدبيين، وأصبحت المعيار الذي على أساسه يتم تقييم درجة الحداثة أو التقليدية في كل نتاج شعري عربي، حتى أن ناقدًا بارزًا محدثا مثل عزالدين إسماعيل قد أخذ هو أيضا بسحر هذه الإشكالية، إلا أن ما حاولت دراستا برهنته - وهذا ربما أحد إسهاماتها غير المباشرة - هو أن مسألة الحداثة في الشعر لا يمكن حصرها بهذه الظاهرة الشكلية الوحيدة على الرغم من أهميتها.
وبعبارة أخرى، إذا كان التحرر من النماذج العروضية التقليدية هو السمة الضرورية لأي حداثة شعرية، إلا أنها ليست كافية للدلالة على الحداثة، وفي هذا السياق كان حدس الشعراء النقاد والمنظرين المحدثين حول هذه النقطة بالغ الأهمية، إذ لم يتعرفوا في أعمال سعيد عقل الغنائية على تجربة مشابهة لشعراء الحداثة على الرغم من وجود بعض السمات الشكلية المطابقة، ومع ذلك، لا يعود إلى المضمون أو إلى الموضوعات تعيين درجة الحداثة والتقليد في شعر ما، بل إن هذا التعيين يتم على مستوى العلاقة بين الشكل والمضمون مبينا قيمة العمل، وموقعه في تطوّر التجربة الشعرية.
ضمن هذا السياق، لم يخطئ كثيرًا بعض النقاد المتحفظين تجاه شعر سعيد عقل عندما رأوا في أعماله شكليّة سطحية مرتبطة بمضمون طفولي. أما الآخرون، وهم أقل تحفظا مثل أدونيس، فحصروا إسهامه بتنقية اللغة الشعرية فقط، وعدّوه «ماليرب» الشعر العربي المعاصر، بالنسبة إلى هؤلاء فإن تحرّر سعيد عقل من النماذج العروضية لم يكن له أي وظيفة أساسية وإنما اقتصر على مجرد لعبة شكلية وسطحية.
ما هي دلالة - وظيفة - تفكك البنى العروضية التقليدية في الشعر العربي المعاصر؟ رأى بعض نقاد الفن ومنظريه في اللجوء إلى تهديم الشعراء المعاصرين للبنى العروضية التقليدية الذين عايشوا أحداث 1948، ظاهرة مساوية لسقوط البنى التقليدية في المجتمع العربي. وأدرك ناجي علوش هذه المعادلة في قوله: «لم يكن سقوط المجتمع العربي التقليدي مجرد سقوط، فقد بدأت قيم هذا المجتمع المتأخر والمحافظ بالانهيار أمام الحركة الصاعدة، تحت تأثير عوامل داخلية وخارجية، تميزت هذه الحركة بعمق بلغ الشعر العربي الذي لم يعد يمكنه أن يبقى، حيث حدد له موقعه الخليل بن أحمد الفراهيدي. وببلوغ هذا الانقلاب إلى الشعر العربي، استعاد هذا الأخير مكانته في حركة التقدم، لكي تندفع تجربة الشعر العربي» ويعدد الكاتب العوامل السياسية والاجتماعية والفكرية لهذه التجربة إضافة إلى أهمية استيعاب أكثر وعيًا للتجربة الشعرية الغربية وتأثير الماركسية.
بالنسبة إلى ناجي علوش، حيث النفحة اليسارية للستينيات واضحة، فإن سقوط الأشكال العروضية التقليدية يشكل ردًا لانهيار البنى الاجتماعية المهيمنة في المجتمع العربي حتى سنة 1948. فالنفحة الثورية، التي كانت في أساس الخيال الشعري في تلك الحقبة (الخمسينيات والستينيات) والتي سعت إلى تحريك كل شيء، لم يكن بإمكانها أن تتعايش مع بنية عروضية بالية تعبّر عن الأزمنة الغابرة والمجتمع القديم. فسقوطها كان ضرورة جمالية شكلية وجوهرية.
عقل والحداثة: حساسيتان
لذلك، شكل شعر سعيد عقل وشعر المحدثين في الخمسينيات والستينيات تعبيرًا عن حساسيتين مختلفتين، عن تصوّرين متناقضين للإنسان والعالم والمستقبل، فالشعر الحديث، نتاج وضع أيديولوجي - سياسي معين، وهو تطلعات اجتماعية واضحة، لم يجد في شعر سعيد عقل ذي النزعة الفردية نموذجًا أو مثالا يحتذى.
فبالنسبة إلى سعيد عقل، لاقت المسألة الأيديولوجية إجابة مقنعة وغير قابلة للدحض منذ 1940، وقد عرضها في «قدموس» ففي وجه القومية العربية التي اجتاحت العالم العربي، رفع سعيد عقل لواء «قومية لبنانية» تبحث في عمق التاريخ القديم عن هوية لبنانية تاريخية وأيديولوجية وجغرافية لم تغيّرها أو تلغها «الغزوات» العربية أو غيرها - عوارض التاريخ حسب قوله، بينما كان المحدثون أكثر ميلاً لدمج لبنان بالعالم العربيّ ويرون في الجذور الفينيقية التي يدعو إليها سعيد عقل حقيقة طوباوية وباطلة وغير تاريخية. مقابل العمق التاريخي لسعيد عقل، رفع المحدثون فضاء العالم العربي: تاريخان، وجغرافيتان، وتصوّران متمايزان للإنسان والمجتمع والزمن وتاليًا الشعر.
وبتحوله شعرًا، سيتخذ كل من التصورين المتقابلين أشكالاً مختلفة تتميز بالقلق الحاضر هنا، والغائب هناك. فسعيد عقل الذي كان قد اختار طريقا أوصلته إلى المطلق، فلا وجود للقلق عنده، أما الشعراء المحدثون فإن القلق يضنيهم من كل صوب، فلا يقين يعوّض عنه. سيحدد هذا التباين في وجهات النظر توجههم في ما يتعلق باختيار مراجعهم الغربية. فشعر سعيد عقل المصبوغ بنوع من الرومنطيقية والرمزية، هو قبل كل شيء كلاسيكي - في المعنى الفرنسي للكلمة - وبرناسي إذ يولي الشكل اهتمامًا من دون سواه، ومراجعه هي خير معبّر عن هذه الميول: شكسبير، رسين، مالارميه، فاليري. أما الشعراء المحدثون الذين وقعوا فريسة القلق الوجودي، فنماذجهم هم: السورياليون، سان جو برس، ت.س. اليوت، ريمبو، ميشو، غارسيا لوركا.
التاريخ، بالنسبة إلى سعيد عقل، مكتمل سلفا، فالمطلوب منا اتباع الدرب المرسوم للوصول إلى الرفاه والمجد والعظمة، الغرب لا يشغله، فهو من خلق الإنسان اللبناني - الفينيقي، ألا يحمل اسم «أوروب»، أميرة فينيقيا وشقيقة البطل الأسطوري «قدموس»؟ الميتولوجيا مصدر نستقي منه قوتنا وليس ضعفنا. أما الماضي، فعلينا معرفة قراءة رموزه التي تصنع مجدنا، ورفض كل ما يحط من قدرنا، والقطيعة غير موجودة بالنسبة إليه، فالإنسان اللبناني بقي على ما كان عليه دائما، قوة وحيوية تواجه المصاعب. فما عليه حاضرا إلا أن يعي عمقه التاريخي وإرثه الفريد ليندفع من جديد لغزو المستقبل.
يمكننا، الآن، فهم غياب القلق في أعماله، وعدم ورود مصطلحي القلق والريبة في معجمه، يكفيه أن يؤمن بالله وبلبنان ليبلغ المجد والسلام والرفاه والغبطة، وهذه الأخيرة تجسد حالة عامة على مستوى الفرد: المجد الوطني والغبطة الفردية يخلقان عظمة اللبناني، وسعيد عقل هو تجسيد لهذه المعادلة.
إن هذه المسيحانيّة المطمئنة والهانئة غريبة عن أعمال الشعراء المحدثين الذين يشعرون أنفسهم محرومين من كل سكون واستقرار داخليين، فهم يتوقون إلى إعادة صنع التاريخ، وإعادة بناء المجتمع، وإعادة تعريف الإنسان، كل شيء قطيعة بالنسبة إليهم، وبالتالي «عدم». إنهم محاطون بالفراغ، وغير قادرين على التقدم، فالماضي موضع استفهام، والمستقبل مشوش والحاضر محبط.
عليهم أن يهدموا كل شيء ليبنوه من جديد، من هنا كان اضطرابهم، وقلقهم وارتيابهم، وتحيرهم، ومن هنا كانت إنسانيتهم، وتمردهم الفردي كتعبير عن التمرد الاجتماعي العام. لا يمكن للشعر عندهم أن يحد بغنائية عاشقة هادئة وصافية، حتى الحب عندهم حزين وممزق.. تجربة كتلك التي عرفها المسيح ليست مجرّد نزاع بين الرذيلة والفضيلة. فالمسيح، كما في قصيدة السياب، يوجز كل الضمير الشقي للإنسانية، إنه مجاهد، وليس إنسانًا خارقًا نيتشويًا كما عند سعيد عقل.
هل يمكن القول إن تجاوز شكل الكتابة المعروفة بالتقليدية يجب أن يستجيب لمتطلبات اجتماعية وأيديولوجية؟ إذا كانت هذه المتطلبات تفسّر اللجوء إلى هدم الأشكال العروضية التقليدية لدى الشعراء المحدثين، هل هذا يعني أن أي هدم آخر هو ترّهة شكلية أو مجرد لعبة أسلوبية؟ هل البعد الأيديولوجي هو العامل الوحيد لأي تغيير؟ وهل للاضطراب والقلق الإنسانيين الحصرية في كل عملية تغيير؟
إن تاريخ الأدب وبالأخص تاريخ تحولات أنماط الكتابة يبرزان لنا حالات لم يتم فيها بالضرورة تجاوز الأشكال الموروثة وكذلك المضامين من خلال وعي موضوعي للمعطيات السوسيولوجية والأيديولوجية: بودلير، ريمبو، مالارميه، فلوبير (خاصة في روايته «التربية العاطفية»)، بروست، وسيلين، أسهموا بطريقة حاسمة من خلال تجارب وهموم شخصية بحتة، في أشكال الكتابة وتاليًا الموضوعات.
إن التأويل الأيديولوجي، وعلى الرغم من صوابيته في بعض الحالات، لا يمكنه وحده أن يحتكر تفسير الظاهرة الأدبية وفهمها، حتى إنه يؤدي في حالات أخرى إلى تصنيف ذاتي للغاية يستخف بكل فنان لا تستجيب أعماله لاقتناعات الناقد الأيديولوجية. من الصعب أن نصادف نقادًا مثل جورج لوكاش يعرفون التمييز بين البعد الأيديولوجي الظاهر في عمل ما ومرماه الكامن.
على صعيد آخر، إذا «كانت الحاجة أمّ الاختراع»، فهل يمكن للاضطراب أو القلق وحده أن يكون في أساس الإبداع الفني؟ ألا يحق للفرح والغبطة والمجد أن تستوطن جمهورية الفن وتسهم في تقدم الأشكال الفنية؟.. كل تمييز وكل احتكار يجب أن يلغى من المجال الفني. تكمن قيمة العمل في نتيجة التفاعل بين مضمون وشكل، تفاعل جدلي ينساه الجدليون أنفسهم أحيانا. فللضمير الفرح كما للضمير الشقي حق في الفن. ويمثّل سعيد عقل هذا الضمير الفرح في الشعر العربي المعاصر، وسيكون من الإجحاف ألا نعترف له به.
مراحل الشعر العربي الحديث
مرّ الشعر العربي في النصف الأول من القرن العشرين بثلاث مراحل: مرحلة تقليدية أنتجت الموضوعات والأشكال الموروثة، ومرحلة ثانية مجددة على مستويي المضمون والشكل، ومرحلة ثالثة رومنطيقية مشبعة بالحزن والغضب والتمرد من جهة، ومأخوذة من جهة أخرى بالزخرفة والتجميل الشكليين. في هذا التصنيف المعتمد لدى العديد من مؤرخي الأدب العربي المعاصر، يحتل سعيد عقل موقعه في هذه المرحلة الثالثة الرومنطيقية ذات المظهر الشكلي.
ولهذه المراحل المختلفة ممثلوها: أحمد شوقي يمثل المرحلة التقليدية، وجبران خليل جبران يمثل وحده المرحلة الثانية، وإلياس أبو شبكة والأخطل الصغير وصلاح لبكي يمثلون الرومنطيقية الكئيبة للمرحلة الثالثة، وبين الرومنطيقية الكئيبة والرومنطيقية الشكلية يتعيّن موقع خليل مطران الذي معه تحققت وحدة القصيدة العربية، وأخيرًا الرومنطيقية الشكلية التي هي ميل مغلق من دون أي انفتاح على العالم، (حسب أدونيس)، ومن دون أي رؤية فهي عودة جديدة إلى الميول التقيليدية في بداية القرن: هنا في هذه المرحلة الأخيرة، يتعيّن موقع سعيد عقل.
في الواقع، بعد الحزن والكآبة الرومنطيقيين المتمثلين بأبي شبكة ومطران، جاء سعيد عقل ليدخل البهجة والأمل إلى شعر يتآكله اليأس، وليكمّل المشروع الذي شرع به جبران، والذي تابعه مطران جزئيا في ما يتعلق بالقيود المفروضة على اللغة الشعرية وضرورة التحرر منها. لا يشكل فن سعيد عقل عودة إلى موضوعات الشعر الكلاسيكي التقليدية تحت مظاهر شكلية محدثة، بل على العكس احتلت موضوعات الفرح والمجد والمطلق والكون مكانًا شعريًا جديدًا لم يسبق أن عرفه الشعر العربي بهذا الاتساع. لقد أدخل سعيد عقل شعريّة جديدة منبثقة من رؤية وتصوّر للإنسان والعالم. في ذلك أيضًا، يكمّل سعيد عقل جبران، صاحب الرؤى الذي سعى إلى عالم أفضل.
خصوصية سعيد عقل وموقعه المميز
هذا التغيير الموضوعاتي تطلب ابتكار أشكال تعبيرية جديدة، لذلك عمد سعيد عقل إلى لغة شعرية جديدة إن من حيث الصور الشعرية، أو الأشكال العروضية، أو اللغة وتراكيبها.
في ما يخص الصور الشعرية، كان سعيد عقل أحد الشعراء القلائل الذين أجادوا استخدامها بشكل شبه منتظم. إن تنقية اللغة الشعرية التي تكلّم عنها أدونيس تكمن في هذا الإلغاء المرجعي لصالح تعبير مصوّر للعواطف والأحاسيس والدوافع الداخلية. وبذلك تصبح الصورة المجازية خاصية اللغة الشعرية (السعقلية) لم يسبقه أحد إليها. ولبلوغ هذا المستوى الرفيع من الشفافية الشعرية، كان عليه أن يذلّل كل عائق يبرز أمامه إن من ناحية العروض أو من ناحية التراكيب النحوية. هذا ما يفسّر اللجوء إلى تفكيك البنى العروضية انطلاقا من حاجات تختلف عن تلك التي حدت بالمحدثين على إنجاز مثل هذه العملية. فالفرح كما الحزن، والسكون كما الاضطراب، يمكنهما أن يحوّلا العالم... والبنى العروضية.
تستجيب الصور الشعرية، إضافة إلى تفكيك البنى العروضية، لضرورات تعبيرية، وهي ليست لعبة شكلانية من دون هدف أو غائيّة. فحداثة هذا الشعر تتطابق مع حداثة الموضوعات الجديدة في الشعر العربي. وبذلك يتحقق تماسك شعري آخر بين الشكل والمضمون على أسس مختلفة عن تلك التي ميّزت شعر الحداثة العربي في الخمسينيات والستينيات. إذا أن سقوط نموذج شكلي ليس مرتبطا بسقوط بنية اجتماعية، فهناك أسباب أكثر تعقيدًا تحدد الانتقال من شكل تعبيري إلى آخر.
لقد تمكّن شعر سعيد عقل من خلال مضمون أعماله وبناها العروضية وصورها ولغتها من أن يخلق تماسكًا وتجانسًا نادرًا ما يبلغهما الشعراء العرب في القرن العشرين. لذا نجد صعوبة في تصنيفه داخل تيار محدد، إنه ينتمي إلى كل التيارات وليس إلى تيار واحد. ويصبح هذا التصنيف أكثر صعوبة في حال كان المعيار الذي نعتمده هو المعيار الأوربي - الفرنسي. فسعيد عقل ليس رومنطيقيا بحتا، ولا رمزيا بحتا، ولا برناسيا بحتا. إنه أحد أوائل الشعراء الحقيقيين في مجال الحداثة الشعرية، إذا كنا نفهم «الحداثة» استقلالا عن النماذج الغربية من دون أن يعني ذلك قطيعة، ولكن تفاعل ومحاكاة حرّة وغير مستعبدة كما أحب الكلاسيكيون الفرنسيون ترداده.