قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص?
-------------------------------------------
من الأمور التي لفتت نظري في القصص المختارة تناول ثيمات بعضها يفرضه الواقع الجديد، مثل الإرهاب في قصة «حظ سعيد»، وبعضه جديد قديم لا ينتهي الجدل حوله، مثل ثيمة الخوف في المجتمعات العربية كما في قصة «مولد رضيع بلسان»، أو قلق الكاتب من استحضار مادة للكتابة كما في «الفتاة والنهر». ومن الملحوظات الأخرى التي استوقفتني، أن القصص تخلو من وصف للمكان يمنح القارئ خلفية عن البيئة التي تجري فيها الأحداث، الاقتراب من البيئة وخصوصيتها، بدل أن نفترض أن القصة قد تجري في أي مكان بالمطلق. ولا يكفي أن يكون الكاتب من البلد الفلاني لنفترض أن أحداث القصة تجري في ذلك البلد. والاستثناء هنا يكون في حالة القصة الفنتازية فقط، التي يخترع لها الكاتب مكانًا فانتازيًا أيضا، وإن كان يجب أن يحمل بعض الخصوصية المقنعة.
«المحارب»: حسن الرموتي من المغرب
هناك رصد للتفاصيل الصغيرة التي تضفي حيوية على القصة، مثل الساعة الإلكترونية الملونة القبيحة، تفاصيل المدينة، النادل الذي يتحرك. تسعى القصة إلى تمرير الرموز في ثنايا حكايتها كي لا تبدو مباشرة، وهو أمر مهم في الكتابة. محطة القطار هنا ليست كأي محطة نراها في الواقع، ولا قطاراتها تحمل أسماء رحلات معتادة، فهي «رحلة القطار رقم 48 الذاهب إلى عروبستان، ورحلة القطار رقم 67 المتجهة إلى عربستان»، والمحارب رمز لمحارب قديم ينتظر الذي لا يأتي ربما، لا المكافآت ولا القطارات. انتظار هو أقرب إلى فعل سلبي لأنه لا يحرك فيه ساكنًا، بينما تسير التفاصيل من حوله غير معنية به، كأنه إذا نام إلى الأبد هنا لن يلفت انتباه أحد.
«مولد رضيع بلسان»: زهيرة مجراب من الجزائر
تستفيد هذه القصة من الحكايات القديمة، من جاذبيتها وحكمتها ورمزيتها المبطنة. فالقرية التي بدأت تتوالد أفرادها بألسن مبتورة نتيجة تاريخ من النفي والحكم الجائر، يرعبها أن يولد لها طفل بلسان كامل. حدث يشغل البلدة بأكملها ويستدعي الاجتماع بين قادتها لاتخاذ قرار حول الظاهرة الجديدة في النسل. وينتصر الخوف مرة أخرى عندما تقرر القرية بتر لسان الرضيع الجديد، بدل أن تجد فيه بداية لنسل جديد يستخدم صوته مرة أخرى للتغيير. الصوت هنا رمز للرأي الحر، والخرس رمز للخوف المقيم. نجحت الكاتبة في إظهار الضدين. زهيرة تملك أسلوباً مميزا في هذه القصة يحمل خصوصية تقاليد القص الشعبي، ولكن بصورة معاصرة، وإن احتاجت إلى مزيد من ضبط التفاصيل كما في مقدمة القصة التي تحتمل سردًا أطول في تجربة الخنوع التي خضع لها أهل القرية.
«الفتاة والنهر»: غزوان بزي
تبدو الثيمة التي يشتغل عليها غزوان بزي غير تقليدية بالنسبة لكاتب شاب غير محترف بعد، ألا وهي موضوع جفاف المخيلة الإبداعية. إنها عن كاتب أصيب بعقم الخيال ونضوب الأفكار التي تساعده على الكتابة، فراح يبحث عما يستفز مخيلته خارج الغرفة التي ينزل فيها في الفندق.
ما لفت نظري في هذا النص، هو استخدام العتمة الخارجية الناتجة عن انقطاع الكهرباء والليلة العاصفة في مقابل العتمة داخل المخيلة. إن الاستسلام للرومانسية لحظة وقوفه إلى النهر لا تعني أنها ستعطي الكاتب فكرة للكتابة، ولكن لحظة انتحار البنت هي التي حركت دواخله، أي لحظة الفعل الإنساني.
«حظ سعيد» أحمد بلكاسم بن عبد القادر
منذ البداية يلعب الكاتب على اسم شخصيته الرئيسية «سعيد»، فيشي النص بأسلوب تهكمي يضع قارئه في حالة استعداد لتفاصيل في هذا الاتجاه. «سعيد» عاشق للقراءة ولكن وضعه المالي لا يسمح بشراء الكتب، لذا يكتفي بما تلتقطه يداه من أوراق صحف مرمية هنا وهناك. إن سوء حظ «سعيد» جعله يلتقط لفة من الجرائد وضعت عند قدم عمود الكهرباء، في داخلها علبة جذابة ظنها تحمل هدية جذابة، لكنها بدلا من ذلك حملت له مفاجأة موته عندما انفجرت بين يديه. فكان سعيد تعسًا وهنا تكمن المفارقة القصصية.
يناقش عبدالقادر في هذه القصة، قضية الإرهاب الذي يكون ضحاياه من الأفراد الأبرياء، فاللفة المغرية مرمية قرب مخبز يتردد عليه عامة الناس.
في النهاية أقول أن إحمد بلكاسم عبدالقادر، يملك استعدادًا معقولاً في كتابة القصة الساخرة، يستطيع أن يطوره ويجعله أسلوبه المميز بصورة عامة في كتابته القصصية، إن اشتغل أكثر على قدراته القصصية ككل.
----------------------------
المحارب
حسن الرموتي - المغرب
في محطة القطار، المكيفة والمضاءة نهارا، أناس كثيرون يدخلون ويغادرون، آخرون ينتظرون، أحيانا يثرثرون، وقطارات كثيرة تمر كتحية العَجلان، بعد أن تتوقف لدقيقة أو لدقيقتين.
كان المحارب وحده، من دون رفيق، وبلا حقيبة، يتأمل نقوش سقف المحطة، والنقوش لا يعبأ بها أحد سواه، ثم يرنو إلى اللوحة الإلكترونية الكبيرة، الملونة والمعلقة على الجدار المقابل لمقهى المحطة، «مقهى الجامعة العربية»، خمن في نفسه أنها يابانية الصنع، وتعجب لقدرة هؤلاء القوم، وأحسّ بغصّة في حلقه وهو يتأمل اسم المقهى وقد كتب بخط رديء.
توقف يطالع أسماء المدن والمحطات، وربما العواصم التي حلم كثيرا بزيارتها وتأسف لأنه لم يزرها يوما. فجأة جاءه صوت نسائي يقول بحنان مبالغ فيه:
- المسافرون الكرام، رحلة القطار رقم 48 الذاهب إلى عروبستان. ستتأخر الرحلة لساعتين بسبب عطب في فرامل القطار ومقصورة القيادة، الأعمال جارية لإصلاح الأعطاب، فمعذرة.
ابتسم المحارب أمام الاعتذار، وكاد يبكي للأعطاب التي أصابت مقصورة القيادة، فبحكم خبرته كمحارب وكقائد لدبابة، يعرف أن إصلاح مثل هذا العطب يتطلب أكثر من ساعتين.
سار نحو المقهى متثاقلاً ليتناول سائلاً باردًا لم يحدده في ذهنه بعد، فقد أحسّ بجفاف في حلقه. لم تكن وثيرة كراسي المقهى كما كان يعتقد وهو يقرأ اسم المقهى. ترك جسده يستسلم بهدوء للكرسي، وأشار إلى النادل بيده، ثم تأمل كراسي المقهى وهي تبدّل روادها كما تبدّل القطارات مسافريها، وابتسم في أعماقه لهذا التشبيه. أنهى مشروبه ولم يحس بطعمه. المهم عنده أنه كان باردا. قام بخطوات وئيدة وسار نحو كراسي الانتظار، اختار واحدا على مقاسه، ثم تمدد بكامل قامته، ولم يضمّ ركبتيه إلى صدره ليلتمس الدفء كما تعود أن ينام أيام الحرب. أراد أن يستسلم لغفوة مادام القطار لن يصل إلا بعد ساعتين أو أكثر.
قبل أن يغالبه النوم، استعرض أمام عينيه شريط يومه في المدينة: دخان السيارات وزعيقها، الغبار المتطاير، الكلب الذي كاد أن يقضم جزءاً من ساقه لولا ردة فعله وحذره الكبير الذي تعلمه في الحرب الأخيرة، الشحاذ الذي لعنه وسبّه عندما قال له المحارب إنه لا يملك نقودًا وإنه جاء إلى المدينة بحثًا عن تعويضات لإصابته في المعركة، أطفال المدارس وهم يئنون تحت ثقل محافظهم المدرسية، وعجوز يراود امرأة.
على الكرسي الممتد في المحطة، كان المحارب قد استسلم لنوم عميق. الناس لايزالون يدخلون ويخرجون، رجالاً و نساءً وأطفالاً، والقطارات تمرّ، تتوقف قليلا ثم تمضي، واللوحة الإلكترونية لاتزال تغيّر مواعيدها وأسماءها، ونادل المقهى يتنقل بين الكراسي بفرح طفولي واضح وابتسامته لا تتغير. حين استفاق المحارب، فرك عينيه المثقلتين بالنعاس، ثم وضع على عينيه نظارته الطبية التي تركها بجانبه عندما نام. رنا إلى الساعة الكبيرة المعلقة على الجدار المقابل للمقهى، وأدرك أنه نام لساعات طويلة تعادل السنوات. انتصب واقفًا وكاد أن يصيح في العابرين:
- لماذا لم توقظوني؟
ضرب الكرسي الخشبي بكفيه بكل قوة، التفت يمينًا ويسارًا وأدرك أن أحدًا لن يجيب، وأن أحدًا لن ينظر إليه ولو نام فوق الكرسي لسنة كاملة. حارس المحطة وحده، ببذلته المميزة، كان ينظر إليه من دون أن يتحرك من مكانه. وقبل أن يقوم هو من فوق الكرسي، عاد الصوت النسائي من مكبر الصوت من جديد، وبدلال مبالغ فيه هذه المرة وهو يكرر:
- أيها المسافرون الكرام، رحلة القطار رقم 67 المتجهة إلى عربستان، القطار سيصل بعد ساعة، نتمنى لكم رحلة مريحة على خطوطنا.
أدرك من خلال المقارنة بين الرقمين أن قطارات كثيرة فاتته، وأن الرقمين يعنيان له شيئًا، لكنه لم يستطع أن يحدده. حاول أن ينسى الرقمين، وكان عليه فقط أن ينتظر ساعة أخرى وألا ينام. ظلّ المحارب يراقب النادل واسم المقهى المكتوب بخط رديء رادءة واقعه، يراقب القطارات وهي تمرّ، كأنها تدوس أعصابه والمحارب لايزال ينتظر.
----------------------------
«مولد رضيع بلسان»
زهيرة مجراب من الجزائر
بعيدا عن جلبة المدينة وصخبها الدائم، كان سكان القرية البكم منغمسون في الإستعداد لإستقبال الربيع .كل شئ يدل على أن الموسم هذه السنة سيكون خصبا وفيرا ،فالأرض اكتست حلة خضراء بهية تسبي الأنظار، وصوت خرير المياه في السواقي يشق الجبل العتيد فيحطم جدار الصمت ،والسكون الذي لف المدينة لأعوام عديدة، ويستعين بزقزقة العصافير في حربه هذه ضد الصمت الطاغي، عصافير حنت لحضن وطنها فعادت سريعا لأعشاشها ،لأنها لم تجد مكانا أهدأ من هنا تنشد فيه فيه أغانيها دون أن يطلب منها أحد السكوت.فالناس في هذه القرية يعملون بصمت انهم لايتكلمون، بل يتخاطبون فيما بينهم بالإشارة فقط يسمعون ولا يردون ،لا يجيبون ولايحتجون، فهم يولدون بلسان مبتور. فجدهم وزوجه وأشقاءه أيضا هم أول من سكن الوادي ففي الماضي احتجوا على حكم الملك الظالم المستبد وعبروا عن سخطهم ورفضهم لسياسته ،أبوا أن يبيعوا ضميرهم أو أن ينضووا في أحد أحزاب المعارضة الصورية المؤيدة لحكمه، فقطع لسانهم ونفاهم الى خارج حدود المملكة ، فأقاموا في الوادي ورزقوا الكثير من الأولاد الا أن كل أولادهم ولدوا بلسان مبتور، لذا تجدهم قد تعودوا على ممارسة كل طقوس الحياة بصمت. يشاهدون التلفاز يوميا ويتابعون نشرات الأخبار فيصفقون، ويفرحون لكنهم لايردون.
كانت سمية العروس الجديدة الحامل في شهرها الأخير تعيش حالة استنفار قصوى لتأمين حاجيات ولي العهد، فماهي الا أيام معدودات ويشرف على الدنيا وتحمله بين ذراعيها كما أن الولادة في فصل الربيع الذي هاجر فيه جدهم الأول للوادي جعلتها أكثر سعادة ونشوة ،فراحت تحرص على تأمين لوازم الإحتفال بنفسها رغم متاعب الحمل، ورغم أنها منهكة من كثرة الركض بين مستوصف القرية والمنزل بسبب الحركة الغيرعادية داخل بطنها، فالجنين لايتوقف عن الحراك. في تلك الليلة الربيعية المقمرة ازدادت معاناة سمية في أسفل حوضها ،آلام خفيفة تزداد حدة بمرور الوقت،ولأنها البكرية لم تعرف أنه المخاض وأن موعد الولادة قد حان الا لما تمزق الكيس المائي، أيقظت زوجها بسرعة فاتجه مذعورا الى طبيبة القرية لكن المستوصف كان مغلقا، ولم يكن هناك أحد بالداخل ربما سافرت الى المدينة فاستعان بداية "ولادة"القرية.
حضر محمد الماء الساخن وبقي يروح ويجئ أمام مدخل البيت ،يطالع القمرتارة وباب الغرفة مرة أخرى، مضت أكثر من ساعتين لم تخرج المرأة من المخدع، لم يكن يسمع سوى تأوهات وأنين خافت يدل على الألم المبرح ،انه الألم الصامت .أخيرا صرخات رضيع قدم للحياة تتحدى صمت النسوة اللواتي لايعرفن الزغاريد، صرخات رضيع كسرت سكون القرية وأنهت لعنة حلت بالقوم منذ سنين عديدة، ولسان صغير يبرز من فمه ليقول أنه قد جاء من أجل التغيير. حملت الداية العجوز الوليد وفصائلها المرتعشة لاتقوى على حملها للباب الخارجي ،لقد كان وجهها أصفر مثل الشال الحريري الذي تلف به شعرها الأبيض ،وأشارت لمحمد انه بلسان!!
ياللهول! انها الكارثة التي لم يحسب لها أحد يوما حساب انتشر الخبرمثل النار على الهشيم، فالكل جزع وفزع عمت حالة من الذعروالقلق، سكان القرية الذين بلغهم نبأ الغضب الإلهي الذي حل بهم.
لم ينم محمد ليلتها وبقي يفكر بعمق في الحقيقة الصعبة التي يواجهها، أي لعنة هذه التي حلت به وبأهل قريته الطيبين ؟.كانت أكبر أمانيه أن يرزق بولد كي يكون الدعم والسند له في الغد،فينزل معه للحقل ويعينه على أمور الزراعة والفلاحة عندما يكبر ويتقدم في السن. لقد كان يبيت الليل يدعو الله ويتقرب منه في صلاته، وصيامه كي يرزقه الذكر. لكن ماذا سيحدث لوتكلم هذا الولد عندما يكبر؟كيف عن كل الأسئلة التي سيطرحها عليه كل يوم؟ أكيد أنه سيحس بالتميز أمام سكان القرية وسيشعر بالخزي من والديه ومرجح جدا أن يتنكر لهم انه سيحاول حتما أن يغير القدر، ولكن هناك سبيل لإيقافه؟ كيف يمكن ذلك؟.
في الصباح الباكر، قصد محمد مشايخ القرية وأخبرهم بالبلاء العظيم الذي حل بأسرته، وباللعنة التي حلت بالقرية جمعاء، فقرر المشايخ الكبار عقد قمة طارئة الشهر القادم لبحث هذه الأزمة، وفي انتظار وصول كبيرهم الذي أبدى وافقته المبدئية، ثم تراجع لإرتباطاته الكثيرة وانشغاله بمربي النحل في الجبل، حيث يشرف هناك على خليات العسل خاصته، ليعود ويأكد مشاركته نظرا لأهمية الموضوع وحساسيته التي تهدد أمن القرية .وبعد تشاور وتفكير اتفق المشايخ على جمع كل السكان في الساحة العمومية قرب المقهى المركزي، بعد أخبار منتصف النهار لينقذوا قريتهم. تجمهر الكل في الساحة الكبيرة منهم من دفعه الخوف على مكانته، وحرصه على منصبه من هذا الولد الغريب ،وآخر ساقه حب الإطلاع والرغبة في التطلع لهذا الكائن، وصنف أخير قاده الشغف والتوق للخلاص من العبودية وظنوا أن الرضيع هو منقذهم ومخلصهم من كل العذاب المقيت. في الموعد المحدد كانت القرية قد خرجت عن بكرة أبيها للشارع، وماهي الا ثواني معدودات حتى جاءت سمية وزوجها يحملان الرضيع، وسلماه للمشايخ وسط ترقب و تطلع شديدين لما سيفعلوه به، وضع المشايخ الفتى على لوح خشبي، وتولى واحد منهم أمر تثبيت لسانه ،بينما حمل كبيرهم سيفا وبتره به الآن قبل أن يكبر ويتمرد ،ويعلن العصيان .ليدقوا بعدها أجراس ويعلنوا انطلاق فرحة الربيع ،فاستمروا في الرقص ليتوقفوا عند نشرة الثامنة مساءا المقدسة كثيرا بالنسبة اليهم.
----------------------------
«الفتاة والنهر»
غزوان بزي
كان الوقت بعد منتصف الليل ...السماء تبرق وترعد مخلفةً وراءها الظلام والأمطار المتوحشة ...، الطرقات كانت فارغة تماماً ... ، والكهرباء قد انقطعت ...، كل ذلك كنت أراه عندما نظرت من نافذة غرفتي ... في الفندق الذي نزلت فيه ..المجاور للقصر العدلي ... .
كان النوم في تلك الليلة بعيداً عني ، كأنه خرج تحت المطر ليأخذ حماماً من الماء البارد وتركني أحيا في قلق وضجر .
فكرت بإكمال قصتي التي بدأتها... . النوم رحل والخيال لا يأتي تحت أعين الرقباء جناحاه الوحدة والصمت ... .
أخذت ورقةً بيضاء وقلماً وجلست أمام الطاولة ... على ضوء لمبة الكاز...أمسكت القلم ...كان يتلعثم بين الحين والأخر فلا ينطق إلا بعد إلحاح شديد... .
بدأت أخطّ بعض الكلمات التي ليس لها معنى ... كانت تؤلف جملاً ولكنها غير مفهومة ... ، حاولت ترتيب أفكاري لأكتب شيئاً مفهوماً ... ، لكن يبدو أنني قد فقدت الكلمات ... . بدأ ينتابني شعور غريب بالكآبة والحزن ... .
لماذا لا أستطيع الكتابة ..؟
هذا هو اليوم العاشر على التوالي ولم أمسك القلم ... وطائر الخيال عندي قابعٌ ... وكأن أحداً قصّ جناحيه فجعله عاجزاً عن التحليق والغوص في الأعماق ... ، كانت أعصابي متوترة والدم يغلي في عروقي ... فكرت بالخروج من الغرفة لكي أمشي قليلاً تحت المطر علّ لفحة السأم هذه ترحل عني ... ، كان المطر غزيراً...العاصفة شديدة ...لكني سأخرج رغم ذلك ... .
ارتديت ملابسي وانتعلت حذائي الشتوي الطويل ... ومن ثم التقطت مظلتي وخرجت ... .
كان الظلام شديداً على السلّم حتى أني تعثرت أكثر من مرة ... .
ببطءٍ شديدٍ وصلت إلى الطريق ... ، بتؤدة فتحت المظلة وبدأتْ رحلة البحث عن الكلمات ... .
مشيت في شوارع عديدة وأزقة لا حصر لها ... ولكن بلا فائدة فالكل يغطّ في نومٍ عميقٍ ولم أصادف أحداً في طريقي ... فقط بعض القطط والجرذان ... كانت في زوايا الطريق وهي تصدر أصواتً غريبة ... ولّدت في نفسي الخوف والفزع ... فأسرعت الخطى مبتعداً عنها ...
آهٍ ... ، لقد مشيت كثيراً ، ولكني لم أرى شيئاً يثير الدهشة ويجدد في نفسي الأمل في الحياة والكتابة .
تعبت ... ، المطر يزداد غزارة ... مظلتي تكاد لا تقيني من المطر ... فهي قديمة وممزقة وقد أصلحتها أكثر من مرة .
كلّ هذه الأشياء كانت تدفعني لكي أعود إلى الفندق بدون كلمات وفكرة ... .
لكني كنت مصمماً على السير في الطرقات والأزقة ...، فجأة تحولت وجهتي دون أن أشعر إلى حافة النهر الذي اعتدت في وقت حزني وضيقي بالذهاب إليه لأشكو إليه همي وبؤسي ... ، فهو يجري بلا توقف ... فأرميها فيه ... لتذهب دون رجعة ... إلا ما تعيده إليّ الأسماك .
وأنا أفكر بشيءٍ من هذا القبيل ... وصلت إلى حافة النهر الذي بدا وكأنه غريبٌ عني ... ، كانت حبات المطر تضرب صفحته بكل قوةٍ وكأنها تعاقبه على مساعدتي والتخفيف عني ... .
كنت أنظر إلى النهر وكأني أراه لأول مرة ... ، انشغلت بدقةِ المشهد الذي أيقظ عندي طائر الخيال وأرسله بعيداً ...بعيداً ... ، وبدأت الكلمات تولد في أعماق الذاكرة نبضات القلب كانت منتظمة وهادئة ... بدأ عالم جديد يظهر ونسيت كل شيء حتى المطر والمظلة الممزقة ... وبدأت أحلم ... أحلم بالحياة الهادئة المجردة ... البعيدة عن البيع والشراء ... البعيدة عن مذابل الحياة والقريبة من الورود واللوحات ...
وعشت دقائق سعيدة ... أحلم بالحبّ وأقطف ثماره ...أرى الجمال وأتحلى به ... أراقب الغروب وأكتب عنه ... أودع أمي وأعود إليها ...
ليس هناك حجابٌ بيني وبين الشمس ... وليس هناك شرطي يقف علي أوراقي وشعري ... ، وفجأة أرى العالم قد انتهى وحُجب عني ببكاء شابةٍ إلى جواري ... لم أسمع بالضبط ما كانت تقول لأن كلامها كان ممزوجاً بالبكاء الشديد الذي يقدّ القلب والأعصاب ... .
انتفضت مذعوراً من حلمي وعالمي ... ونظرت باتجاه الصوت ... فإذا بها فتاةٌ لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها ... كانت على مسافة مني ... ، ركضتُ مسرعاً نحوها لأعرف لماذا تبكي ... ولماذا هي هنا وتحت المطر ... ؟
قبل أن أصل إليها ... في لحظة الصمت الحياتية ... سمعت بعض الكلمات التي قالتها ... ومباشرة رمت بنفسها في النهر ... .
قالت : وداعاً أيها اليُتم القاسي ... وداعاً أيها الفقر ... وداعاً أيها العار... وداعاً يا رغيف الخبز المخيف ... وآخر كلمةٍ قالتها ورنّت في أذني ... سأختصر هذه الحياة القاسية بدمعة وأيّ دمعة ... .
في هذه اللحظة وصلتُ إلى مكانها الذي غادرته منذ لحظات ... لتنتقل إلى عالم آخر لا أعرفه ... ، نظرت في النهر كانت الفتاة مفقودة ... ، لقد اختارت من النهر مكاناً عميقاً لترمي بنفسها فيه ... انتابني شعور غريب بالخوف واليأس ... وفي نفس الوقت بالإحباط والتشرد ... ، ازدادت غزارة المطر ... هبت عاصفة هوجاء ضجت بها المدينة ... ، كانت الأشباح تتراءى ليّ في كل مكان ... ركضت مسرعاً أفتش عن الفندق ... عن الدفء ... .
كانت الشوارع والأزقة متشابهة ... وغزارة المطر جعلتني عاجزاً عن المتابعة وتحديد الاتجاه ... ، شعور غريب كان يسيطر عليّ بأن أحداً ما يتبعني ويريد الإمساك بيّ ... كانت خطواتي تزداد ارتجافا وضعفاً حتى أن قدماي لم تعد تحمل جسدي الذي أثقل بالمطر والخوف ... .
لا أعرف كيف شاهدت الفندق أمامي وكأن يدّ القدر قد ساقت الفندق إليّ رفقاً بحالي ... ، صعدت السلّم طالباً غرفتي ... كنت أتعثر على السلّم وكأني طفلٌ صغيرٌ أصعده لأول مرة ... وصلت الغرفة ... فتحت الباب بيد مرتجفة كنت اشعر بأن شبحاً يصعد السلّم ... كان قريباً مني إلى درجة الموت ... .
دخلت ... أغلقت الباب بقوة ، وبدأت أسحب كل شيء في الغرفة لأضعه خلف الباب ... من شدة الخوف والذعر الذي بدأ يمزق قلبي الضعيف ... ، جلست على الكرسي ... أحسست بأن العاصفة هدأت ... والمطر توقف ... خيّم على المدينة صمت أعمق من صمت الليل الذي نعرفه ... جعلني أشعر بشيء من الهدوء والراحة ... .
نظرت إلى الطاولة المجاورة فلم أرَ الورقة والقلم الذين وضعتهما للكتابة قبل خروجي ... نظرت إلى الأرض لم أرَ شيئاً ... .
أين ورقتي وقلمي ؟
عندها تذكرت الفتاة التي رمت بنفسها في النهر واحتضنته ... يا ترى هل أخذت ورقتي وقلمي ورحلت ؟
عندها فقط بدأت الخواطر تتوارد إلى الذاكرة لتؤلف قاموساً لا يفقه معانيه إلا الفقراء ... ومنذ ذلك الوقت ... ينتابني شعور غريب بأن شبحاً يتبعني من مكان لآخر ... ، أستيقظ من نومي فَزِعاً ... وقلبي يرتجف ولا أعرف السبيل للخلاص ... .
----------------------------
«حظ سعيد»
أحمد بلكاسم بن عبد القادر
سعيد في يوم عطلة، لقد تعود على التقاط الأوراق، ليقرأ ما تحتويه، سعيد شغوف بما في السطور، فهو لا يملك جيبا يساعده على اقتناء الكتب من المكتبة، فقط يجمع ما صادفته عيناه من أوراق مكتوبة لا سيما إذا كانت ذات صور، ويكون سعيد سعيد الحظ إذا كانت ملونة.
هذا الصباح وهو في طريقه إلى المخبزة، لفت نظره ما لم يتصوره قط، لفة من الجرائد وضعت عند قدم عمود الكهرباء،على عجل التقطها سعيد، أحس بأنها ثقيلة شيئا ما، تحسسها بأنامله الفتية، فإذا هي تلف علبة في حجم كتاب الجيب، طار سعيد فرحا، تأبط اللفة واشترى رغيفين، وأقفل راجعا إلى البيت.
تسلل إلى حيث تقبع محفظته، ودس فيها العلبة المنمقة، واكتفى بقراءة الجريدة، بعد أن سلم أمه الرغيفين. سيقرأ سعيد كثيرا، وسيظل يقرأ بشهية ملء النهار، وربما زاد طرفا من الليل، ولكن عقله، كان يهفو إلى العلبة ويفكر في من صنعها، وماذا تضم بين حناياها، وكم هي رقيقة وفنانة الأنامل التي أبدعتها، قال سعيد في قرارة نفسه. لم يقاوم سعيد رغبته الجامحة في معرفة ما بداخل العلبة، فتسلل مرة أخرى إلى حيث تقبع محفظته في هدوء، وأمن وسلام، واستل العلبة المنمقة، كم هي جميلة، رائعة المنظر، بديعة الصنع، لا شك أن ما بداخلها أجمل وأروع وأبدع، همس لنفسه، وأضاف: قد يكون ما تضمه بين ثناياها كتابا وديعا، قد تكون ساعة نفيسة، طالما حلمت بها، كي أضبط وقتي، تلك هدية العمر، قد يكون شيئا ما أجمل، وأروع، وأبدع، جدا جدا جدا.
انبسطت أسارير سعيد، وهو يداعب العلبة بلطف، ورقة، وحنان، ونعومة، ابتسمت لها شفتاه، وخفق لها قلبه، اعترته قشعريرة من الفرح الجامح، وهو يتأملها، فرح لم يحس به منذ زمن طويل، طويل طويل، منذ أن استشهد أبوه. استهوته هذه الفاتنة، وسحرت لبه بثوبها الناعم الزاهي، وخيوطها الذهبية، التي توشحها، كما تحتضن ذراعي صبية دميتها. في كل لحظة كان يهم فيها لفك هذه الخيوط، كان يستفزه سؤال خفي: ويحك ألا تكفيك هذه الألوان الخلابة؟ وهذا الشكل الجذاب؟ وهذه التنميقات الباهرة؟ التي تنضح بألف ابتسامة وابتسامة؟
لم يقاوم سعيد رغبته الجامحة هذه المرة، تسللت أنامله الفتية الوديعة إلى الخيوط الذهبية العجيبة، لتفك العقدة، انفتحت أسارير محيا العلبة، فانبجست منها اثنتا عشرة ابتسامة، كل ابتسامة تشبه سابقتها، إلا الابتسامة الأخيرة، فكانت عبارة عن دوي انفجار فضيع، حطم قلب سعيد الذي طالما احتضن العلبة في شوق وحنان، ورقة وسلام، تمزقت أوتاره، وتناثرت ذراته، وتلاشت ألوان العلبة المنمقة البديعة، تاركة وراءها جرحا عميقا، ينزف دما، وطهرا، وبراءة، وثأرا.