يبدأ الحديث عن الترجمة بالنواح على وضعنا المأساوي، وعلى تخلفنا المذهل فيما يتعلق بإنجازنا العربي البائس في مجال الترجمة،
وقد اشتركت شخصيًا في هذا النواح، لكن آن أوان التوقف عنه، واستبدال التأمل في إنجازات الواقع الفعلي المتغير من جهود العرب في الترجمة بالحديث الواعد عن مستقبلها الذي أرجو وأتوقع أن يكون أفضل من حاضرها حسب الإشارة إلى الجوانب الإيجابية التي حدثت خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية على وجه التقريب، فقد تزايدت مؤسسات الترجمة ومراكزها على امتداد العالم العربي، وأصبح لدينا أكثر من معهد عالٍ لإعداد المترجمين، ولم يعد الأمر يقتصر على كليات الألسن واللغات في مصر، بل تكاثرت دبلومات الترجمة التي تمنحها أقسام اللغات في الجامعات العربية، ودخلت جامعات الخليج وشبه الجزيرة العربية في تنافس محمود مع بقية الجامعات العربية في رعاية الترجمة ونشرها في آن، وتزايدت إيجابية الموقف مع تعدد جوائز الترجمة الكبرى في عواصم عربية عدة، فضلا عن ظهور دوريات خاصة بالترجمة ومؤتمرات عدة لمناقشة موضوعاتها وقضاياها المختلفة، وقد أدى ذلك كله وغيره إلى تغير اللون القاتم لمشهد الترجمة في العالم العربي، ولم يعد المشهد باعثا على الاكتئاب كما كان في الماضي. صحيح أن مجمل إنتاج الترجمة في إسبانيا وحدها يتفوق على مجمل إنتاج الترجمة الذي نعرفه على وجه التقريب في العالم العربي، ولكني أشهد من خلال متابعتى العلمية والوظيفية لإنتاجنا أن هناك مؤشرات كمية وكيفية دالة على درجة لافتة من التقدم.
بالطبع لاتزال تنقصنا قاعدة معلومات قومية دقيقة عن عدد الكتب المترجمة في كل قطر عربي، سواء من دور النشر الخاصة أو الحكومية أو المؤسسية في المراكز والجامعات والمشاريع القطرية وغيرها، ودع عنك الإحصاءات التي تصدرها الأليسكو وغيرها بين المؤسسات، فمازلنا نجهل على وجه التحديد كم وكيف الإنتاج المحدد في مجالات الترجمة، وذلك لكي تكون المقارنة بالعالم المتقدم دقيقة، وقائمة على أرض الواقع، وليست داخلة في باب النواح والندب، أو باب جلد الذات المتخلفة التي يروعها تزايد حدة المسافة بينها وبين العالم الآخر المتقدم الذي يمضي في تقدمه بخطوات متسارعة الإيقاع، متزايدة القفزات والنتيجة هي تدافع إيقاعه في التقدم، مقابل تباطؤ إيقاع حركتنا في رغبة الوصول إلى التقدم المنشود، نتيجة قيود داخلية وخارجية تشل أقدامنا، وتدفعنا إلى ما يشبه الرقص في السلاسل.
ولكني لا أريد المضي في التشاؤم، خصوصًا أن ما أنجزناه في مجال الترجمة لا بأس به، وهو خطوة لابد أن نستكملها بأن نعيد تأكيد أن الترجمة قاطرة التقدم التي أوصلت غيرنا إلى ما حَلُم به من تقدم، ويمكن أن نصل إليه، لو أخلصنا لحلمنا الخاص، وتضافرنا قوميًا في إنجاز ما ينقلنا من مصاف التخلف إلى مصاف التقدم الذي سبقتنا إليه إسرائيل بكثير، مع الأسف، ولا نزال لا نتعلم منها الأسباب التي أوصلتها إلى التقدم علينا بكثير في مجالات عدة، ومنها الترجمة.
قاطرة الترجمة
يعرف كل من ينطوي على حلم التقدم أن الترجمة تحقق وظائف ثلاثًا في غاية الأهمية، أولى هذه الوظائف الدور الحيوي الذي تقوم به الترجمة في عملية التنمية الإنسانية، خصوصًا بعد أن أصبح العالم أكثر إدراكًا بأن الثقافة هي الحافز الأول على دفع عمليات التنمية، وتوجيهها صوب هدف التقدم، وتحافظ الترجمة، من هذا المنظور، على تسريع إيقاع عمليات تطوير الوعي المجتمعي بتوسيع أفق اطلاعه على تجارب الأمم الأخرى، وأسباب تقدمها في الماضي أو الحاضر وهو الأمر الذي يتسع بأفق الوعي بأهمية الحداثة الفكرية والإبداعية، وضرورة التحديث المادي في المجتمع ويوازي ذلك إتاحة الفرصة للنخبة الحاكمة والجماهير المحكومة في الاطلاع الواعي على أنماط مختلفة من تجارب التنمية على امتداد الكرة الأرضية، ومن ثم عدم التقوقع في نمط واحد، أو تصور أن هناك طريقا واحدًا أو محركًا واحدًا للتنمية المجتمعية الشاملة وهذا أمر بالغ الأهمية، خصوصًا بعد أن تعددت نماذج التجارب التنموية الناجحة، ولم تعد منحصرة فيما نسميه، تقليديا، بالمركزية الأوربية الأمريكية، تلك التي سبقتها نماذج التنمية في «نصف العالم الآسيوى الجديد»، إذا جاز استخدام عنوان كتاب خبير الاقتصاد العالمى كيشور محبوباني الذي أتمنى أن يقرأه كل مسئول ومثقف عربي.
أما الوظيفة الحيوية الثانية للترجمة فتتمثل في أنها تفتح أفق الحوار الصحي بين الحضارات، وذلك في سياق تعميق عملية تبادل الخبرات بين الدول، والخروج بهذه الإمكانية من شرك الانغلاق على الذات إلى الأفق الرحب لما أصبح يسمى بالتنوع الثقافي الخلاق، وهو التنوع الذي يقوم على الإيمان بوحدة التكافؤ والمساواة بين أعراق وأجناس الكوكب الأرضي، واحترام خصوصية ثقافة كل أمة، وتفرد حضارة كل عرق، وذلك بما يسمح ويؤكد معنى التنوع الخلاّق على مستوى الجنسيات والقوميات والأديان والثقافات، وفى الوقت نفسه إزاله الحواجز الفاصلة بينها، في مدى تقبل اختلاف الآخر وقبوله، ومن ثم عبور الانقسام وهو عنوان الكتاب المهم الذي اشترك في تأليفه نحو ستين مثقفا ومثقفة من دول العالم المختلفة، وقد أصدرته الأمم المتحدة بعد كارثة أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001، التي تركت جرحا لا يندمل إلا بإعادة تأكيد معنى تنوعنا الخلاق، وهو عنوان تقرير أصدرته منظمة اليونسكو، من خلال أعضاء اللجنة العالمية للثقافة والتنمية سنة 1995.
أما الوظيفة الثالثة للترجمة فهي تصل ما بين معنى تنوعنا الخلاق وعبور الانقسام في مدى مقاومة وعي التخلف الذي يمكن أن تصيب فيروساته عقل الأمة وثقافتها، فتصيبها بأمراض التعصب والتطرف والعنف في رفض المختلف، مما يؤدي إلى الاحتقان الطائفي، دينيا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا، وذلك على نحو يطيح بسماحة الإسلام وتقبله للآخر، وينكر معانى الآيات: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة (سورة المائدة: 48) و وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً (سورة هود: 118) و وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة (سورة النحل: 93)، ومؤكد أن هذا التكرار يؤكد أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفين، وأن اختلافهم في العلم يمكن أن ينطوي على معنى الرحمة في السلوك الأخلاقي، والتواصل في المعرفة، والاجتهاد في العلم الذي أمرنا بالسعي وراءه حتى لو في الصين ولا يمكن للمسلم المعاصر تحصيل العلم والبصر بآفاق المعرفة الإنسانية إلا بالسعي إليها بكل السبل الممكنة، وعلى رأسها الترجمة التي تتيح لنا معنى التعارف الإنساني، وإلا ما جعلنا الله شعوبًا وقبائل لنتعارف ونتواصل ونتبادل الخبرة والمعرفة بسبل التقدم ووسائله، فما أحوجنا إلى الترجمة من هذا المنظور الذي يمكن أن نضيف إليه معنى الحماية التي ينطوي عليها معنى الحديث «من عرف لغة قوم أمن شرهم».
والواقع أن درس التاريخ يؤكد أهمية الترجمة وحقيقتها، فهى ليست قاطرة التقدم فحسب، وإنما هي أساس النهضة ومحركها، حسبنا أن نتذكر بيت الحكمة في زمن المأمون، وما قام به المترجمون العرب من ترجمة التراث الحضاري والمعرفي السابق عليهم، من حكمة الهنود وعلوم اليونان وفلسفتهم، وثقافة الفرس وأنماط إدارتهم لإمبراطوريتهم . وقد بَرَّرَ فلاسفة العرب وحكماؤهم ضرورة الأخذ عن الغير، حتى لو اختلف في الملة، فطالِبُ المعرفِة لا يستنكف أن يأخذها من مكانها أينما وقع عليها، وقد قال الكندي الفيلسوف العربي «إنه ينبغى لنا ألا نستحي من استحسان الحق واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا والأمم المباينة، فإنه لا شيء أولى بطلب الحق من الحق وليس يبخس الحق ولا يصغر بقائله ولا بالآتي به»، ولا أحد بخس الحق، بل كل يشرفه الحق، و«يحسن بنا إذا كنا حراصًا على تتميم النوع الإنساني، إذ الحق في ذلك، أن نعى ما نأخذ، وأن نضيف إليه، وأن نتمم ما لم يقله فيه الآخرون، على مجرى عادة لساننا وسنة زماننا وبقدر طاقتنا»، وعلى هدي هذا المبدأ مضى ابن سينا الفيلسوف مستفيدا من فلسفة اليونان، ومضيفا إليها، وذلك بما أكد مكانته في تاريخ العلم الإنساني، مهيئًا الأمر نفسه لابن رشد الذي أكد أن الإفادة من الآخر السابق ليست بدعة منذ الصدر الأول للإسلام، وأن «على المسلم أن يستعين على ما هو بسبيله بما قاله من تقدمه، سواء كان مشاركًا أو غير مشارك في الملة، فإن الآلة التي تصح بها التزكية ليست في كونها لمشارك في الملة أو غير مشارك إذا كانت فيها شروط الصحة»، ولا ينسى ابن رشد تأكيد أن «الأفضل يُنسخ بما هو أفضل منه، وأن علينا أن نقبل هذا الأفضل من أي جانب كان، وفي أي مصدر يكون».
الترجمة ومجد العقل العربي
ومن المؤكد أن هذا الروح هو الذي دفع إلى الأمام بالحضارة العربية الإسلامية التي تمثلت ذروتها الفكرية في إنجاز ابن رشد، بعد جهد أمثال جابر بن حيان والحسن بن الهيثم وابن النفيس وغيرهم، وقد وصلت هذه الحضارة بفضلهم وأمثالهم إلى مكانة رفيعة القدر في التاريخ، وظلت تشع على العالم المظلم حولها إلى أن تمكنت السلفية المتشددة بانغلاقها من أن تلقي ابن رشد في محنته الشهيرة التي كانت علامة على بداية انحدار الحضارة العربية الإسلامية وغروب شمسها.
ومن عجب أن الحضارة الأوربية بدأت من هذه النقطة، فترجمت ابن رشد وابن سينا وأمثالهما، وكانت هذه الترجمات اللبنة الأولى في النهضة الأوربية التي بدأت بالترجمة عن العرب والائتساء بالمنهج الفكري للعقلانية الإسلامية التي أسهم في إرساء مبادئها الكندى فيلسوف العرب، وابن رشد فيلسوف قرطبة العظيم. هكذا كانت الترجمة بشارة النهضة العربية القديمة وبشارة النهضة الأوربية الحديثة، وهو الأمر نفسه الذي تكرر في أقطار العالم، وجعل الصين تسبق اليابان، ومعها العالم كله، في معدلات الترجمة التي جعلت من الصين القوة الكبرى القادمة في العالم، ولولا ذلك ما قامت الولايات المتحدة بتدريس اللغة الصينية في مدارسها وجامعاتها، كي تكون في مستوى التحدى الذي يطرحه عليها التنين الصيني الذي لا يكف عن الصعود، منذ أن مضى في سياسات الحداثة والتحديث التي قادها «دينج زياو بنج» منذ أواخر 1978.
هكذا اقترن ازدهار الترجمة في العالم الحديث والمعاصر بتقدم الترجمة، لا فارق في ذلك بين عالم غرب أوربي، أو عالم شرق آسيوي جديد، تعددت فيه النمور التي أخذت تسبق الغرب الأوربي، وليتنا - نحن العرب - نفعل مثلها، فقد بدأ بعضها من وهاد التخلف ونجح في المزاحمة على قمة التقدم وتذكروا ماليزيا التي بدأت ازدهارها المذهل منذ عام 1982 فحسب ولن أذكر اليابان التي سبقتها النهضة المصرية في عهد محمد على، لكن سرعان ما انتهت هذه النهضة التي اقترنت - ويا لعبرة التاريخ - بإنشاء مدرسة الألسن لتكون نواة لتخريج المترجمين الذين لا غنى عنهم لأي نهضة.
تناقضات المركزية الغربية
ويبدو أن علينا الانتباه إلى أمور بالغة الأهمية في هذا السياق، خصوصا فيما يمكن أن تلعبه الترجمة من أدوار، مؤكد أنها تقوم بأدوار إيجابية كما أوضحت في الفقرة السابقة، ولكن هذه الأدوار يمكن أن تتجاور مع نقيض لها، خصوصًا في العالم المتخلف الغارق في شباك التبعية، والمتأثر بنفوذ المركزية الأوربية الأمريكية، على نحو يبقيه في مواقع الهوامش التابعة بالقياس إلى المركز الأوربى - الأمريكى المهيمن، ويحدث ذلك عندما يتم اختيار وترجمة كتب تحقق معاني الهيمنة، وتشيع وعيًا زائفًا، يوهم أبناء الهوامش التابعة بالبقاء على تبعيتهم للمركز. أذكر جيدا أننا قرأنا في مرحلة الشباب ترجمة كتاب «آثرت الحرية» الذي كان دعاية أمريكية ضد الاتحاد السوفييتي، وتحذيرًا من إمكانات الوقوع في أسر الشيوعية التي كان يمثلها الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت الذي حرصت الدعاية الأمريكية أن تصوره بأبشع صورة دعائيًا، وقد اتخذت الحرب ضد احتمالات توسع الماركسية السوفييتية وغيرها شكلا متكامل الأطراف كشف عنه كتاب «الحرب الثقافية الباردة من يدفع للزمار» تأليف فرانسيس ستونر سوندرز، وهو كتاب يدور حول دور المخابرات الأمريكية في التغلغل إلى الأنشطة الثقافية، في اتجاه تبني الديمقراطية الغربية، ومن ثم العداء للأنظمة الاشتراكية ونظرياتها وتجلياتها التي شاعت خلال مرحلة التحرر الوطني، وجذبت إليها الكثيرين.
وعندما جاء عصر العولمة، وارتفع ضجيجها، أذكر أن السفارة الأمريكية في القاهرة تولت ترجمة وطبع كتاب «السيارة لكزس وشجرة الزيتون» الذي قامت بتوزيعه مجانًا، ودعت مؤلفه توماس فريدمان الذي احتفى به التلفزيون المصري، ضمن إطار علاقة الصداقة بين مصر والولايات المتحدة وجوهر الكتاب قائم على ثنائية ضدية رمزية بين العالم القديم الذي تمثله شجرة الزيتون التي سوف تختفي تدريجيًا بحكم الحتمية التاريخية للتقدم، ويختفي معها المستظلون بها أمام السيارة لكزس، فهي ترمز لأحدث التكنولويا المتقدمة التي تشير إلى الطريق الذي يتقدم فيه القطيع الإلكتروني E.H الذي على العالم الثالث المتخلف اللحاق به، وإلا فالفناء نهايته المحتومة، في الطريق الذي تقطعه، نهبا، السيارة لكزس ولوازمها، في «عالم ماك» و«الكوكلة» والسيطرة الاقتصادية للشركات المتعددة والمتعدية الجنسية.
الفجر الكاذب
وبالطبع لم تهتم السفارة الأمريكية بترجمة أو نشر كتاب مثل «الفجر الكاذب» للاقتصادي البريطاني جون جراي الذي رأى في العولمة فجرًا كاذبًا، وأضيف إلى ذلك كتاب «انهيار العولمة وإعادة اختراع العالم» الذي كتبه الباحث الكندي جون والستون، وهو فيلسوف ومؤرخ وكاتب سياسي وروائي كندي، تولى تشخيص معالم العولمة بعد توحشها، خصوصا قبل انهيارها الفعلي مع زلزال الأزمة المالية والاقتصادية التي زعزعت مطامح العولمة في توحشها، وإفلاس الكيانات المعولمة منذ السنوات القليلة الماضية، وقد فاز الكتاب بجائزة الملك عبدالله تقديرا لمحتواه وبراعة مترجمه محمد الخولي، ولا شك أن مثل هذين الكتابين يكشفان عن عورات العولمة في توحشها، ويبينان عن تهافت دعاوى أمثال توماس فريدمان الذي يبشر العالم الثالث بمباهج العولمة التي توحشت اقتصاديًا وتحولت إلى كابوس، فأثارت السخط عليها منذ مظاهرات المضادين لها في مدينة سياتل الأمريكية، حين شهدت اجتماع مؤسسة التجارة العالمية التي تعد العقل العملي للعولمة.
وأتصور أن هذا النوع من الكتابات المتضادة يعني أن عملية الترجمة يمكن أن تتحول إلى ساحة لصراع إيديولوجي، يستهدف إغراق العالم الثالث في أسر المركزية الأوربية الأمريكية التي تعولمت، أو إنقاذه من الغرق ومساعدته على اختيار نموذج للتنمية يمكن أن ينجيه من التبعية، ويقوده إلى التحرر من كل أشكالها، ويقوم بهذا الدور التنويري ما يسمى، حاليا، باسم «خطاب ما بعد الاستعمار» وهو مجموعة من الممارسات والكتابات النظرية والتطبيقية تقوم بتعرية الأشكال المتطورة من الاستعمار، وأشكال العولمة المتوحشة التي يعدها هذا الخطاب آخر تطور للرأسمالية التي تسعى إلى مراكمة الأرباح على حساب الشعوب، وقد أصبحت بعض دور النشر الأوربية، خصوصًا في إنجلترا، متخصصة في هذا النوع من الدراسات التي تكشف عن الأهداف الإيديولوجية التي ترتبط بدور الترجمة في تزييف الوعي والإبقاء على واقع التبعية، وهو فخ يقع فيه المترجمون من غير أن ينتبهوا في حالات عديدة، وتقع مثلهم في الفخ نفسه بعض المؤسسات التي لا تفارق مظلة المركزية الأوربية الأمريكية، حتى لو بشكل غير واع، ما ظل نموذجها الأعلى للتنمية هو النموذج المعولم الذي يتحول في التطبيق العالمي إلى نوع من الفجر الكاذب، آخر علاماته الأزمة الاقتصادية العالمية التي عصفت بالولايات المتحدة نفسها، وقادت اليونان إلى إفلاسها اقتصاديًا، وتركت تأثيرها السلبي حتى على بعض أقطار الخليج.
تخطيط التنوع الخلاق
ويعني ذلك أن عملية الترجمة لابد أن تخضع للتخطيط وتقوم على الاختيار المدروس الذي يعمل لمصلحة الأهداف القومية والوطنية في مدى التقدم، وذلك عن طريق مساءلة وعينا بالعالم، وماذا يريد العالم بنا، وأضيف إلى ذلك ضرورة التمسك بمبدأي «التنوع الخلاق» و«عبور الانقسام» وهو الأمر الذي يعني ضرورة مجاوزة دائرة المركزية الأوربية في الترجمة، والنظر إلى وحدة الكوكب الأرضي في تنوعه الخلاق ما بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، مدركين أنه إذا كان المركز الأوربي - الأمريكي يطرح نموذجًا للتنمية الشاملة، فإن المراكز الآسيوية، فضلا عن أمريكا اللاتينية تطرح نماذج موازية أو مقابلة والأمانة في الترجمة تقتضي تقديم كل اجتهادات العالم في التنمية، تأكيدا لحق القارئ العربي في المعرفة بالكوكب الأرضي الذي يعيش فيه، وفتح مجال الاختيار أمام المشرّع والنخب الحاكمة للاختيار نفسه، لكي تحقق مصالح الجماهير العريضة في بلادها.
ولا يعني ذلك بالطبع نبذ لغات المركز الأوربي - الأمريكي ومنجزاته العظيمة، بل الإفادة منها، وتقبلها بواسطة العقل النقدي، أعني العقل الذي يضع موضع المساءلة كل إنجاز يدركه، محتكمًا إلى معيار التقدم العام لمجتمعه، غير مغفل إيجابيات ما تحقق في الغرب، بما في ذلك الإنجازات الثقافية والاتصالية التي حققتها العولمة في صورها الإنسانية، وغير متناسٍ القيم التي نقلها العالم الآسيوي الجديد عن الغرب، وهي قيم اقتصاد السوق الحرة، العلم والتكنولويا، الجدارة والكفاءة الشخصية، ثقافة التنوع الخلاق، احترام سيادة القانون والشرعية، التعليم المتقدم، البرجماتية، الديمقراطية المقترنة بالعدالة الاجتماعية والملازمة لها. وعلينا ألا ننسى أن نقد المركزية الأوربية الأمريكية قد ازدهر في هذا الغرب مع كل نظريات نقد التبعية، بما في ذلك تعرية الشراك الإيديولوجية التي يمكن أن تقع فيها الترجمة وهي الشراك التي يقود إليها اختزال العالم في رقعة جيوبوليتيكية واحدة، أو لغة أو لغتين أو ثلاث على الأكثر .
ويعني ذلك ثقل العبء المطروح على كل مشروعات الترجمة الطموحة في العالم العربي، فهو عبء أصعب من العبء المطروح على حركات الترجمة في العالم الغربي المتقدم الذي بدأ بترجمة علوم القديم في مرحلة النهضة، وانتقل منها إلى معرفة العالم الذي يجهله ويريد الهيمنة عليه مع بزوغ بوادر النزعة الاستعمارية الاستيطانية، وانتقل من ذلك إلى التبادل المعرفي لكل إنجازات التقدم على امتداد الكرة الأرضية أما نحن العرب فعلينا اختزال هذه المراحل، وتحقيق التعرف على إنجازات وإبداعات التقدم في كل مكان على امتداد الكرة الأرضية، ومعرفة أشكال الآخر المتعددة ولغاته في الشرق والغرب والشمال والجنوب، فهذه هي الشروط الأولية لإنشاء مشروع قومي ناجح للترجمة.
مبادئ لنجاح الترجمة
أما عن المبادئ العملية التي يمكن أن يقوم عليها أي مشروع ناجح للترجمة، فهي في تقديري:
1 - قومية المشروع بما يكتمل بأمرين: أولهما الاعتماد على المترجمين الأكفاء على امتداد العالم العربي دون تحيز قطري، وثانيهما الاعتماد المتبادل بين الدولة العربية، سواء في توزيع الأدوار أو التمويل، أو تحقيق أكثر من نوع للمشاركة والتعاون المتكافئ الذي يزيد النجاح نجاحًا، بدل التقوقع في أهداف ضيقة أيا كانت صفتها.
2 - عالمية المشروع بما يجاوز به الانحياز إلى ركن جغرافي سياسي واحد، فذلك أمر يؤدي إلى التبعية.
3 - مأسسة المشروع، وذلك بإيجاد نظام لكوادر متكاملة تشمل هيئة استشارية لاختيار المترجم من المجموعات اللغوية المختلفة في العالم، ومكتبًا فنيًا يتولى عملية التحرير وتدقيق الترجمة بعد المراجعة، وقسمًا لحقوق الملكية الفكرية، وقسمًا لتجهيز الكتب للطباعة واختيار الأغلفة الجاذبة، وإدارة لتدريب المترجمين، وإدارة للجوائز وتشجيع الترجمة، وقاعدة معلومات وبيانات متصلة بغيرها من المؤسسات.
4 - الترجمة عن الأصل ونبذ الترجمة عن لغة وسيطة، فضرر الترجمة عن لغة وسيطة أكثر من نفعها.
5 - مراعاة الدقة والأمانة في العلاقة بالأصل، واستبدال التعليق أو التعقيب أو التذييل بالحذف، وأسوؤه عدم الإشارة إليه.
6 - إفساح مجال الحرية إلى أقصى درجة، سياسيًا واجتماعيًا ودينيًا، وذلك بما لا ينفي أو يلغي مبدأ المواءمة في اختيار الكتاب قبل الترجمة، فمشروع الترجمة القومي الناجح يختار ما يترجم على أسس محددة في النهاية ويعني ذلك أن له أولوياته التي تحدد المهم وغير المهم في عملية اختيار الكتاب المراد ترجمته، أمثلة رامان سلدن المرأة.
7 - ضمان الدقة والأمانة بالمراجعة على الأصل الأجنبي وتحرير اللغة المترجم إليها، التزاما بأقصى درجات الدقة، وضمان مقروئية الكتاب المترجم وتحوله إلى لسان عربي سليم ولا يستثنى من ذلك إلا المترجمون الأفذاذ.
8 - استكمال الدقة بإقامة حوار مع المؤلف الأصلي عن طريق التعليق أو التعقيب أو التذييل، في موازاة إمكان دعوته للنقاش مع القائمين بترجمة كتابه والمختصين على السواء، كما فعل المجلس الأعلى للثقافة في دعوة مارتن برنال صاحب كتاب «أثينا السوداء»، وجاك ديريدا صاحب كتاب «الجراماطولوجيا»، وروبرت يونج صاحب كتاب «أساطير بيضاء»، وآلان روب جرييه صاحب كتاب «الرواية الجديدة»، وباتريك ارندر صاحب كتاب «الأمة والرواية»، وهي كتب صدرت ترجماتها عن المشروع القومي للترجمة الذي تحول اسمه إلى المركز القومي للترجمة، فضلًا عن دعوة ماريو بارجاس يوسا الحاصل على جائزة نوبل العام 2010.
9 - التوازن في نقل جوانب المعرفة الإنسانية علوم طبيعية، علوم إنسانية واجتماعية، الآداب والفنون والخروج من أسْر المركزية الأدبية المرتبطة بالمركزية الأوربية - الأمريكية إلى بقية قارات العالم وأقطاره التي نتجاهل تجاربها الناجحة، خصوصا في آسيا، فضلاً عن إفريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرها ويعنى ذلك، بداهة، توسيع دوائر اللغات التي نترجم عنها، وعدم الاقتصار على عدسة اللغة الإنجليزية بالدرجة الأولى أو الفرنسية بالدرجة الثانية، ويعني ذلك ضرورة الخروج من المركزية الأدبية بوجه عام، ومركزية الرواية بوجه خاص.
10 - رد الاعتبار إلى المترجم الذي طال غبنه، ومراعاة حقوقه القانونية في ملكية ترجمته، ومنحه مكافأة عادلة على جهده، تقترب - إن لم تتساوَ - مع المعايير العالمية، وتشجيعه بالجوائز وغيرها من أشكال التكريم، وتوسيع أفق خبراته بإقامة المؤتمرات وحلقات البحث التي تؤدي إلى تبادل الخبرات والمعلومات.
11 - تكوين أجيال جديدة من المترجمين، سواء بالتوسع في إعداد معاهد وكليات للترجمة، أو الإشراف على دورات تدريب نوعية في الفروع المختلفة للمعارف الإنسانية بكل إبداعاتها.
12 - دور الحكومات في الدعم المالي لاكتمال مؤسسات مستقلة بسياساتها التي يضعها خبراؤها، تكون حرة في اتخاذ قراراتها، علمية في مخططاتها، عالمية في اتصالاتها وعلاقاتها بدور النشر الكبرى على امتداد العالم كله.
13 - العمل على خلق صيغ مرنة للتعاون مع ناشري القطاع الخاص على اختلاف أقطارهم ومؤسسات الترجمة المملوكة للحكومات، وذلك بما يفتح إمكانات التعاون بين الطرفين، ودعم الأقوى للأضعف.
14 - توسيع أفق التعاون الدولي، والإفادة من الخبرات ومراكز الترجمة المتقدمة في العالم.
15 - الإنفاق السخي، وعدم التردد في طلب العون المحلي والدولي، في سبيل تطوير مشروعات الترجمة الآلية، والتعاون مع كل العاملين في مجالها، في دائرة النقل من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، والعكس صحيح بالقدر نفسه.