مختارات من:

خالتي صفيّة والدّير

أحمد عباس صالح

قراءة نقدية
رواية بهاء طاهر


يبدو أن التجربة المباشرة في الرواية مسألة ضرورية، ومن الصعب أن يقنع هذا الفن المركب بتجربة من الدرجة الثانية، أي أن تكون منقولة عن راو آخر غير الفنان.

فالرواية خبرة حياتية تحقق متعتها الكبرى بما تضيفه إلى القارئ من معرفة بالناس والحياة، ومما يستخلصه القارئ من دلالة كبرى أو من اكتشاف يزيده نضجا وحكمة، لذلك فإن التجربة المباشرة مسألة ضرورية لكي تستحوذ الرواية على كيانها الأصيل.

ومع أن الكاتب يعيد خلق تجربته وفقا لضرورات فنية قد لا تكون لها صلة بالواقع، إلا أن المادة التي ينسج منها عمله الفني لابد أن تكون طازجة ومعيشة بشكل مباشر، بما يحقق لها الحيوية والصدق الفني، لأن المفروض فيها أن تكون خبرة حقيقية تنقل إلى القارئ بعض عجائب الحياة وأسرارها.

وفي رواية "خالتي صفية والدير" ، لبهاء طاهر، تبدو التجربة كما لو لم تكن من التجربة الأولى، وأن المادة الرئيسية التي عمل عليها الفنان مادة من الدرجة الثانية في أساسها، أي منقولة عن شخص آخر، وفي تذييله الأخير الذي كتبه الكاتب إشارة إلى أنه تلقى مادة هذه الرواية عن والدته.

والمشكلة ليست في ذلك فقط، فكثيرا ما تكون نواة رواية قصة أو واقعة سمعها الكاتب من هنا أو هناك، ولكنه حولها إلى نقطة انطلاق لاستخدام تجارب من الدرجة الأولى، وقام بإعادة تركيب لها لكي تحقق الاكتشاف الذي استنبطه الكاتب وأراد المشاركة فيه مع الناس.

ولم يكن على بهاء طاهر أو غيره من الكتاب حرج في ذلك، ولكن الحرج يأتي من الارتكاز أكثر مما ينبغي على رواية الدرجة الثانية في تركيب الرواية.

الأدب والعوالم المغلقة

في "خالتي صفية والدير" ظل الدير كيانا غير مفهوم، صورة سطحية، نعرف القليل عن السور الذي يحيط به والقلايات أو صوامع الرهبان والمزرعة والراهب بشاي وعن تلك الحجرة الرطبة في الصيف والتي تضم صور الملائكة والعذراء.

لكن ما هذا الدير من الداخل؟ وأهمية الموضوع أن الدير يقوم بدور أساسي في التجربة وفي عالم أغلبه من المسلمين يصبح هذا الدير موضوعا هاما خاصة إذا كانت التجربة تكشف عن حقيقة التآخي الطبيعي القائم بين النصارى والمسلمين.

لم نعرف شيئا عن النظام الذي يسود هذا الدير ولا الثقافة التي تسوده، وليس من المعقول أن كل الحياة في الدير تقوم على الراهب الأبله الأمي بشاي، لابد أن هناك نظاما للعبادة والقراءة والتعلم والعمل، وهناك بالطبع موقف فكري من الحياة، وفي عالم أغلبه من المسلمين يوجد شيء من الجدل والقلق، وفي دير أرثوذكسي مصري ما أكثر المشاكل الفكرية والطائفية التي تتصل بالموروث من هذا المبدأ والمتغيرات الحادثة على الساحة المسيحية الواسعة.

والحق أن الرواية لم تقتحم هذا العالم المغلق وهو المبرر الوحيد للحديث عن دير وعن علاقته بأهل القرية في عمل روائي، فلم تمس الرواية إلا الأشياء السطحية جدا كبعض الهمهمات التي وصلت آذان المسلمين من معرفة سريعة سطحية عن الفكر الديني المسيحي، كالحديث عن يهوذا والخيانة والفتنة، وبعض الترانيم السريعة "المشكوك في صحتها" حول السيدة العذراء.

وإلى اليوم مازال الأدب العربي والمصري منه بصفة خاصة بعيدا عن أن يخوض هذه العوالم المغلقة وأن يفتح نوافذها، إلا في قلة قليلة من الأعمال وعلى استحياء مثلما فعل إدوار الخراط في روايته أو سيرة حياته "ترابها زعفران" ، وليس من الضروري أن الذي يقتحم هذه الأبواب المغلقة مسيحي فربما كان المسلم أدرى بماذا يريد أن يعرفه المسلمون عن بني جلدتهم من المصريين المسيحيين، ونفس الشيء ينطبق على الجانب الآخر.

ولا أظن أن تلك العلاقة السطحية بين الدير المسيحي في الريف الصعيدي وبين السكان المسلمين تنشئ ذلك التواصل والتراحم الذي رأينا بعض مظاهره في رواية "خالتي صفية والدير".

ومن هنا يبدو أن التجربة المباشرة ضرورية، فمن خلال هذه التجربة يستزيد الفنان - عادة - معلوماته، ويقف وقفة أعمق أمام العمارة ووظائفها وأشكالها، أمام النسق الثقافي وأبعاده وأعماقه ومشاكله، النظام المعيشي باعتبار أن الدير جزء من نظام عام قديم في مصر له تاريخه وله وظائفه وليس مقاما في فراغ، وليس من المعقول أن هؤلاء الناس - على الجانبين المسيحي والإسلامي - من الكسل والغفلة بحيث لم يفكر أحد في الآخر وفي معتقداته، وإذا كان قد تم اكتشاف حل وسط بين الثقافتين فما هو وعلى أي أساس وما تفاصيل هذه الخبرة الرائعة الشديدة التعقيد والتركيب، ولقد كان غريبا أن يقضي الراوي ساعات داخل الدير فلا يتعلم شيئا ولا يلاحظ شيئا إلا بضع كلمات شائعة ترددت هنا أو هناك طوال تلك الساعات.

ولا أظن أن في المسألة شيئا من الحرج الديني، لأن وصف الفكر وسرد النظم وتصوير الحياة العقلية والروحية والاجتماعية لدير مسيحي لا يمكن أن ينشأ عنه حرج ما، وهناك الكثير الذي يمكن أن يقال من جانب المثقف الموضوعي، وبهاء طاهر واحد من هؤلاء، دون أن يكون في ذلك احتمال إثارة موضوع شديد الحساسية مثل هذا الموضوع.

رومانسية فضفاضة

ومن المفهوم - مع ذلك - أن الحل الوسط الذي توصل إليه هذا المجتمع المتكون من ثقافتين، أو قل من عقيدتين هو أن يتجاهل كل طرف الخوض في تفاصيل عقيدة الآخر، وأن يتعايش الطرفان دون تطرق لمثل هذه الموضوعات، وهو ما رأيناه فعلا في رواية "خالتي صفية والدير"، ولكن ما الجديد هنا؟ ما دور الكتابة في إثراء التجارب الإنسانية والكشف عن أعماقها؟ ، وهل توصيف هذه المؤسسة يعتبر خوضا في مسائل حساسة؟ ، وكيف لكاتب مستنير أن يتردد في إعطائنا تجربة على هذا القدر من الأهمية؟ ، إلا إذا كان هو نفسه لم يمتلك هذه التجربة ولم يسع إلى امتلاكها عندما فكر في عمله الأدبي هذا، ولذلك ليس من المستبعد أن تكون علاقة الكاتب بالدير من الدرجة الثانية تفتقد إلى المعايشة المباشرة.

والحق أن خبرة الدرجة الثانية التي نتحدث عنها شملت غالبية الرواية، فهناك جزء "المطاريد" وهو يحكي عن عصابة من المجرمين تظهر في الصعيد بصفة خاصة، تختبئ في الجبال وتقطع الطرق وتفرض الإتاوات وتقوم بجرائم العنف من كل نوع كالقتل وحرق الحقول والاغتصاب والسرقات التي تقوم على الإكراه.

ومن أهم الخبرات معايشة هؤلاء الناس، والتعرف على طرق تفكيرهم، وموقفهم من الحياة، ونظام العلاقة فيما بينهم، فهذا مجال واسع وغامض، والرواية تستطيع أن تجوس في سراديبه وتكشف أغواره، وتعرف الكوامن الخفية في النفس البشرية والتي تنطلق منها البراكين الإجرامية التي تتفوق على أي شيطان.

المطاريد في رواية "خالتي صفية والدير" أشبه بالملائكة، وهم يجيئون إلى القرية فلا يسيئون إلى أحد وقد جاءوا خصيصا من أجل بطل القصة "حربي" الذي كان زميلا لقائدهم فارس في السجن، وتكتشف أن فيهم من الشهامة والوفاء والأمانة ما يتفوق كثيرا على الناس العاديين الذين لم يعرفوا الجريمة ولم يرتكبوا شرا.

ومع ذلك فإن فارس هذا اكتسب سمعته المخيفة من أنه ضرب رأس بقال امتنع عن دفع الإتاوة برخام الدكان حتى هشمه ثم جلس في المقهى المقابل يدخن ساعة دون أن تهتز له شعرة.

قد يكون ممكنا أن يحتوي إنسان على هذا القدر الهائل من الشر والعنف وفي نفس الوقت على قدر مماثل من الوفاء والالتزام بالخلق الكريم، ولكن هذا يحتاج إلى بيان، إلى الكشف عن النسيج العقلي والانفعالي الذي تصدر عنه هذه النقائض.

والأعجب من ذلك أن هؤلاء الملائكة المطاريد قد أبدوا استعدادا حماسيا لمقاتلة اليهود الإسرائيليين في صحراء سيناء لتحرير مصر بعد عدوان سنة 1967 ولكن الحكومة هي التي تقاعست.

لا شك أن هذه تجربة من الدرجة الثانية، نسمع عنها ولا نراها رأي العين ولا نتحقق من تفاصيلها، ومن موروثات الأدب الشعبي المصري المجرم الشهم الذي يتمتع بخلق رفيع.

فن الرواية لا يفعل ذلك، ولا يعتمد على رواية شائعة بل يخوض التجربة في خامتها الأولى، ويتعرف على دقائقها ويكتشف دخائلها، وإذا لم تكن خبرة الدرجة الأولى متوافرة فغالبا ما يترك الموضوع مهما تكن الإغراءات التي تلح بخوضه.

ولهذا كان هذا الجزء من الرواية فضفاضا في رومانسيته، غامضا وقلقا يصعب على القارئ تتبعه باطمئنان على أنه تصوير ناضج لوقائع ممكنة الحدوث.

خالتي صفية!

يبقى الجزء الثاني من الرواية والذي عنوانه "خالتي صفية" وهو الجزء الأطول ولعله الجزء المحوري، وقد اختار بهاء طاهر أن يقسم روايته إلى أجزاء وليس إلى فصول، مع أن كل جزء قائم بذاته وليس منقسما إلى فصول، وإن كان فيه نقلة هنا أو هناك، ولهذه التسمية ما يبررها لأن جزء الراهب بشاي هو جزء الدير وهذا الراهب، كما أن جزء "صفية " متعلق بها تماما، وكذلك الأمر بالنسبة لجزء المطاريد، ثم لجزء النكسة، وأخيرا الجزء الختامي، فهل كان لديه إحساس بأن استقلالية كل جزء أوضح وأبرز من اتصاله ببقية الأجزاء؟ لقد قيل كل شيء تقريبا عن الدير في الجزء الأول مع أن الدير كان موجودا في الأجزاء التالية وإن كان بشكل ثانوي، وكذلك الأمر تقريبا بالنسبة لسائر الأجزاء، والحق أن استقلالية كل جزء أقوى من الروابط التي تربط سائر الأجزاء والتي تكون النسيج العام للرواية، وعلى الرغم من هذا فإن الروابط كانت كافية لتحقق بناء متكاملا متماسكا إلى حد ما.

وهذا الجزء الثاني هو أقوى الأجزاء وفيه خبرة الدرجة الأولى، فنسيج الشخصيات تم من خبرات معيشة إلا في القليل النادر المبثوث في هذا الجزء، وشخصية خالتي صفية حية ومدروسة من أكثر من جانب، وهي امرأة فذة لديها من الأسباب الشيء الكثير لتعتز بنفسها وتشعر بذاتها، وتقيم لإحساسها الفائض بالكرامة وزنا أي وزن، وكان هذا الجانب في شخصيتها هو المسئول عن عذابها المدمر، وقد شاءت الأخطاء غير المقصودة أن تجعلها تسخر طاقتها الهائلة على الحب والعطاء في الكراهية والأحقاد والرغبة في التدمير.

فهذه المرأة ذات الكبرياء والفيض العاطفي أحبت الشخصية الثانية في الرواية "حربي" بما تملكه من مواهبها الكبرى من طاقات، وانتظرت في صبر وتربص أن يأتيها خاطبا، ولكن الرجل الذي لم يكن يوليها نفس الاهتمام لم يتقدم لخطبتها مطلقا، على العكس من ذلك جاءها مع عمه الذي جاوز الستين وأنهى زيجتين سابقتين ليخطبها له.

وكانت الضربة القاصمة، والإهانة البالغة، فقررت أن تتجاهل وجوده تماما، وحولت طاقتها غير الاعتيادية نحو هذا العجوز حتى حولت حياته إلى جنة نعيم وكأنها أرادت أن تظهر مفاتنها الروحية أمام هذا الكائن الأحمق الذي لم يدرك أي كنز عبر عليه دون أن يدرك مكنوناته، ولقد كانت إلى جانب ذلك فتنة القرية جمالا وروعة في إهابها البشري الظاهر.

ولم يفهم "حربي" هذا معنى هذه الطاقة الباهرة من الحب التي أفاضت بها على الرجل العجوز، وبدا كما لو كان لم يفهم الدرس، وكان لابد من طحنه طحنا، فأصبح منذ وضعت للعجوز طفله الوحيد في حياته المديدة موضع اتهام بأنه يريد قتل الطفل حتى يرث أباه، وجن جنون العجوز، وبدأت ملاحقة رهيبة تعرض فيها الشاب الهاجر إلى ما يشبه سلخ الجلد، مما دفعه إلى قتل الرجل العجوز من فرط الألم الذي أفقده صوابه تماما.

وهذه المرأة المتكبرة لم تستطع أن تفارق عاطفتها نحو الرجل الذي هجرها ولم يحترم عواطفها، ظل موجودا فيها محبوبا إلى حد الهوس ومبغوضا إلى درجة القتل والتحطيم، وعندما مات ميتة طبيعية دون أن تناله قتلا، مرضت وفاضت روحها وهي تهلوس مغيرة للحقيقة، متصورة أن من جاء يخطبها في ذلك اليوم المشهود هو حبيبها الشاب، وأن العجوز جاء كوالد له.

ومثل هذا النوع من النساء تعرفه مصر جيدا، ويعرفه صعيد مصر بصفة خاصة، وقد صوره الكاتب تصويرا رائعا من خلال رؤية طفلية قوية الملاحظة وتتمتع بحساسية فائقة، ولعل هذا الجزء هو الذي أعطى الرواية قيمتها.

الأديب والسياسة

والعجيب أن بهاء طاهر في تذييله يتحدث عن أدب ما قبل الستينيات باعتباره محاصرا بمدرسة الواقعية الاشتراكية مما أوشك أن يحوله إلى أدب دعائي يواكب الأفكار المنتشرة بعد ثورة 23 يوليو، وبصرف النظر عن صحة هذا التقييم، بما في ذلك مدى سيطرة الواقعية الاشتراكية على الأدب في مصر والعالم العربي، بصرف النظر عن هذا فإن بهاء طاهر كان في أكثر من عمل متأثرا جدا ببعض المواقف السياسية ومعبرا عنها بعاطفة واهتمام حتى يوشك فنه أن يتضمن شيئا من الدعوة لهذه المواقف السياسية، وقد كان هذا واضحا في "شرق النخيل" وهو واضح في "خالتي صفية والدير" حيث يريد التأكيد على تآخي عنصري الأمة، والتأكيد على النزعة الوطنية حتى لدى المطاريد وفي بعض الأحيان توشك تعبيراته أن تكون من نوع الدعوات الخطابية.

ومع أنه تحدث عن البطل الضد، أو البطل المهزوم، باعتبار ذلك ظاهرة للأدب الجديد الذي جاء به جيل الستينيات، إلا أننا نلاحظ أن البطل في رواياته وقصصه أكثر بطولة، بل وقد يبلغ الأمر أحيانا حد الرومانسية كما ظهر ذلك في شرق النخيل، وكما ظهر هنا في أكثر من موقع في رواية "خالتي صفية والدير".

والحق أن بهاء طاهر يعيش تأثره العميق - فيما يبدو- بغالبية الشعارات والمواقف التي كانت مطروحة منذ الخمسينيات حتى نهاية الستينيات، وهي الفترة الناصرية. ولعله يعتقد أن الكتابة المؤيدة لهذه الشعارات أو المواقف بعد وفاة جمال عبدالناصر ينقذها من أن تكون خطابية، لأنه بعد هذه الوفاة لم تعد توجد إلا الحقيقة. وقد يكون هذا من الناحية الأخلاقية شيئا طيبا، ولكنه ليس كذلك من الناحية الفنية، فتلك الرنة الخطابية التي تظهر هنا أو هناك في أعماله الأخيرة، على ما فيها من رقة وجاذبية، تهز شعور القارئ المطمئن إلى صدق الرؤية التي يعد بها أسلوب الرواية.

ولقد كانت المشاهد الخاصة بتطوع الشباب للتدريب على القتال بعد نكسة 1967، والتصوير السريع لمأمور المركز الذي أصبح شعلة وطنية، غير مسنود إلى تأمل كاف لمعرفة نوع المشاعر الحقيقية التي كان يشعر بها الناس، وهي مشاعر تتراوح بين الإحباط الشديد، والشك في الذات، والدهشة للهزيمة المروعة التي جاءت كما لو كانت مفاجئة للناس جميعا.

ومهما يكن من أمر فإن رواية "خالتي صفية والدير" إضافة جديدة لهذا الكاتب المبدع الذي انطلق بأعماله الفنية في آفاق الرواية العربية إلى مجالات لم تطرقها كتابات أخرى من قبل، ومن المؤكد أن أمامه فرصا عريضة ليبلغ الذروة في الإتقان والإبداع.

أحمد عباس صالح مجلة العربي يناير 1992

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016