بعض فنانينا ينتظرون صرعات الغرب ليعيدوا إنتاجها
* حاولت أن أعيد لأصدقائي - فنيًا - عالمنا المنسي وعلاقاتنا الحميمة التي تخلينا عنها
* أحيانًا تدمع عيناي لمجرد جلسة عائلية في فيلم مصري قديم
* للرؤوس الحليقة تاريخ ممتد وهي تعبير عن الطهارة والتواضع والعوز معاً
«كانت البداية الفنية في بلادنا العربية قد اعتمدت تقاليد الفن الغربي بشكل مباشر، ولم تنظر إلى تراثها الوطني والتاريخي، لهذا نشأ عندنا الاتجاه الغربي البحت ولم تظهر أفكار أو تنظيرات جمالية تتعلق بالمكان والتاريخ الخاص بنا وأصبحنا تابعين للغرب في كل شيء.. منذ أكثر من قرن من الزمان ولا نزال».
هذا ما يقوله الفنان التشكيلي العراقي المتميز فيصل لعيبي صاحي، الذي يأخذ على معظم الفنانين العرب أنهم بدأوا من حيث توقف الغرب، وأهملوا النظر إلى ما نملكه من تراث فني جعل الفن الغربي نفسه يتطور من خلاله عندما تعرض لأول هزة عنيفة مع ظهور «الانطباعية» في باريس في القرن التاسع عشر. وكانت النتيجة أن عانى الفن العربي من «إشكالية الهوية»، كما هي الحال عموما.
ومع ذلك، فإن فيصل لعيبي من «المؤمنين بالتقدم إلى الأمام»، وهو من أجل ذلك لا يكل: تمسك بالتراث والمحلية - سواء في رسوماته أو كتاباته النقدية- ومعتقده الثابت أن التراث هو الميدان الوحيد الصالح للطيران والهبوط معا. الشرق والتراث في أعماله التشكيلية حاضران أبدا ولكن بشكل معاصر جدا، وكأنه متجاوز، حتى أننا نشعر وكأن لوحاته لا تغذي البصر وحسب بل الأذن أيضا، وكأنه عندما يرسم إنما يعزف على أحد المقامات...
يصف نفسه بـ«الملتزم»، ويعتبر الشعب «مصدر» المعرفة والفنون والثقافة عمومًا ومنتج الخيرات وباني الحضارات. يشكو غياب النقاد المتخصصين عن ساحتنا ويعتبر أن المشكلة نتيجة لمشكلة في الإنتاج الفني «لأن اللوحة تنتج نقدها».
وفيما يلي نص اللقاء الذي أجرته منى فرح مع فيصل اللعيبي في لندن:
* تأخذ على الفنانين العرب أنهم بدأوا من حيث توقف الغرب، وترى أنهم (الفنانون العرب) لم يتطوروا ولم يُطوروا.. أين ترى موقع الفن العربي التشكيلي من الحداثة وما بعد الحداثة؟
- هذه الحالة هي حالة عامة مع الأسف، لكنها لا تلغي الحالات الاستثنائية التي ظهرت لمبدعين عرب خلال القرن العشرين بالتحديد، وهو قرن الاستفادة من النتاج الأوربي بالذات في مجال المعرفة، وأيضا في شتى صنوف التقدم والحداثة أو ما بعدها. فلو أجرينا مسحًا عامًا على الأعمال الفنية التي أنتجها الفنانون العرب خلال القرن المذكور، لوجدنا أن نسبة التقليد وحتى الاستنساخ قد تصل الى 09%، باستثناء الموسيقى ومسرح الحكواتي (القصة خون) إذ حافظ كل منهما على شخصيته المحلية بسبب التراكم المستمر لهما عبر القرون، عكس الانقطاع الذي حدث للفنون البصرية. فمنذ البداية كانت تقاليد الفنون البصرية عندنا قد وضعت برامجها وفق المناهج والمفاهيم الغربية، وهذا ما يؤخذ عليها، لأنها لو كانت قد استخدمت الطرق الأكاديمية الغربية دون المفاهيم، لربما توصلنا الى نتائج مغايرة لما حصل عندنا. فقد أصبحت مجاراة الفن الغربي، دليلًا على الرقي والتقدم وكذلك الطليعية، وهذا خطأ شنيع.
لكن كل ذلك لم يمنع الفنانين الجادين من البحث عن الطريق الخاص بهم وفي الوقت نفسه الاستفادة من نتائج البحث الفني في الغرب. فظهر في مصر الفنان الرائد محمود مختار، الذي أشار الى اتّباع الطريق الصحيح للإبداع. وقد جرّب من بعده الكثير من الفنانين المصريين البارزين هذا الطريق ونجحوا فيه، منهم الفنان محمود سعيد ومحمد ناجي وراغب عياد. أما من الجيل الذي تلاهم فسنرى حسين بيكار، الذي أخذته الصحافة أكثر مما ينبغي، فأهمل البحث الفني لمصلحة العمل الصحفي- مع الأسف، ثم حامد ندا وجمال السجيني. ومن الجيل الذي تلاهم نجد الفنان آدم حنين وحسن سليمان وحلمي التوني الذي أغنى ومحمد حامد عويس. وهناك بالتأكيد مجموعة واسعة من فناني مصر الموهوبين، وهم يحاولون إغناء هذا البحث، من الذين لم أستطع متابعة أعمالهم.
وقد جرى مثل هذا في العراق أيضًا، حيث تميز الفن عندنا بنفس الميزات، لكنه استطاع أن يحدد بعض ملامح المحلية والروح الوطنية في الفن العراقي المعاصر، من خلال جماعة بغداد للفن الحديث وتجارب فائق حسن في البيئة والأشخاص. وكذلك مجموعة مهمة من فناني العراق المرموقين، أمثال عيسى حنّا وعطا صبري ومحمود صبري، وحافظ الدروبي وإسماعيل الشيخلي وجميل حمودي وخالد الجادر وخالد الرحّال وصالح القرغولّي وخليل الورد وشاكر حسن آل سعيد ومحمد غني حكمت ونزيهة سليم وطارق مظلوم وإبراهيم الكمالي وكاظم حيدر وإسماعيل فتاح الترك وضياء العزاوي ومحمد مهر الدين وطالب مكي وماهود أحمد وتركي عبدالأمير وسعاد العطار وعلي طالب وفائق حسين وصلاح جياد ونعمان هادي ووليد شيت وسلمان عباس وفؤاد جهاد وعفيفة لعيبي وهناء مال الله وغيرهم من الأجيال اللاحقة، ممن دفعوا بالعملية الإبداعية خطوات الى الأمام.
إن إشكالية الهوية لاتزال راهنة عندنا، ليس على الصعيد الفني فقط بل على الصعيد العام برمته، لهذا فالقضية ليست سهلة ولا تحل بقرارات فوقية، وإنما بتراكم التجارب والخبرات مع هضم ما تم تحقيقه في عالم اليوم والوعي بما نملكه من تراث غني ومن حلول فنية وتشكيلية وجمالية في تاريخا العام.
التقدم إلى الأمام
* كيف يمكن للتوازن بين الأمس والحاضر، بين القهر والضعف، بين الهادئ والهائج.. أن يجد طريقه الى أعمال فيصل لعيبي؟ وهل أنت معني بهذا التوازن؟
- الفنان كسائر البشر، يملك من الأحاسيس ما يجعله يقظًا لمثل هذه الحالات، لهذا عليه الاستعداد الدائم لمواجهتها من خلال الفن، أي التجاوب معها إبداعيا- وعبارة إبداعيًا نتركها لنقاد الفن عندنا، على ندرتهم مع الأسف - وطبيعي جدًا أن تكون ردود الأفعال معتمدةً على خبرة الفنان ودرجة وعيه وموقفه الفكري والاجتماعي من هذه الحالة أو تلك.
شخصيًا أنا من الذين يؤمنون بفكرة التقدم الى الأمام، وقد أثبتت تجربة البشرية هذه المقولة، لهذا فإن ردود فعلي على مثل هذه الظواهر تتميز بهذه الصفة، ذات المعنى الإنساني الواسع التي لا تتقيد بمفهوم ضيّق. فالقهر، بمعناه العام، هو عنف معين، علينا مقاومته بكل السبل ولو عن طريق الفن، والفنون زاخرة بمثل هذه الأمثلة: معركة سانت رومانو لباولو أوجيللو الإيطالي، الحساب الأخير لمايكل أنجيلو، اغتصاب السابينيات لنيكولا بوسان الفرنسي، الأطفال البائسون لمورللو وإعدامات الثالث من مايو لفرانشيكو دي جويا الإسبانيين، غرق الميدوزا لثيودور جيريكو، الحرية تقود الشعوب لديلاكروا، وبرجوازيو كاليه لأوجست رودان الفرنسيين، جدارية جورنيكا لبابلو بيكاسو الإسباني، نهضة مصر لمحمود مختار المصري، نصب الحرية لجواد سليم العراقي، بالإضافة الى جداريات دييغو ريفيرا وسيكيروس وأعمال فريدا كاللو في المكسيك، أعمال أوتو ديكس وجورج كروز ضد الحرب والعسكرتارية في ألمانيا، لاجئو الأنفاق لهنري مور البريطاني، ومعاناة الإنسان في أعمال فرانسيس بيكون الأيرلندي، وغيرها من الأمثلة الساطعة على دور الفن ومواقفه الجذرية من مشكلات البشرية العامة.
إعادة اعتبار للمنسيّين
* ما هو المنظور لغلبة المهن الشعبية على أعمالك الأخيرة (صياد السمك، الحلاق، بائع الشاي..)؟ وإلى أي مدى ساهم التراث الفني في تشكيل رؤية فيصل اللعيبي لليومي والاجتماعي في تخطيطه للوحة؟
- أنا من بيئة شعبية وعشت معظم سني حياتي في المناطق ذات النكهات الشعبية، حتى وأنا في الغربة، كنت أفضّل المناطق الشعبية على غيرها، والشعب ليس فقط مصدر السلطات، بل هو مصدر المعرفة والفنون والثقافة عمومًا وهو منتج الخيرات وباني الحضارات البشرية العملاقة، فهل هناك بيئة أفضل من جموع الناس للخلق والإبداع؟
أما ما يتعلق بمواضيع أعمالي الأخيرة، فهي صدى لتلك الأيام الخوالي حسب تعبير الصديق والفنان العراقي حسن المسعود، وهؤلاء الكسبة، هم من أصدقائي الأوائل ومن طلاّب الصفوف الأولى في المدرسة الابتدائية، وقد فقد قسم منهم حياته في حروب وقمع الطاغية صدام ونظامه المقيت للشعب العراقي والشعوب الشقيقة والصديقة. كان عليّ أن أقدم التحية لهم من خلال تقديمهم للمشاهدين، الذين نسوا مثل هذه المهن وجمالياتها المذهلة، بسبب موجة التجريد واستنساخ ما يقوم به الآخر والفوضى وجهل الأسس النقدية للعمل الفني، مع نسيان عجيب لعوالمنا الأليفة والإنسانية. لقد حاولت أن أعيد لهم عالمنا المنسي وعلاقاتنا الحميمية التي تخلّينا عنها.
إن المصور الشمسي، هنا، ليس مصورًا فقط، بل راوية لحكايات التسجيل الأول في المدارس، إذ ترتبط الصورة عندنا بتلك الطقوس، خروجنا في ذلك الصباح الباكر ونسماته العليلة ونحن نلبس أزهى الملابس، فنحن لا نقترب من المصور إلا بعد أن نُجْبَر على التقاط الصور، لأسباب عديدة، سوف تشعرين براحة الحامض المظهّر للصورة وصوت المقص وهو يحدد لكِ الصورة وربما تتذكرين أيضًا بائع المرطبات الذي يقف لنا بالمرصاد، قرب المصور، هناك تأويلات عديدة لمثل هذا المشهد ولكل منا تجربته الخاصة به. هي صور لإعادة الاعتبار للبيئة وإنسانها المنسي في خضم اللهاث وراء سراب التَعَصْرُن الكاذب. وهذا هو حال المكوجي وبائع الفاكهة والحلاّق وغيرهم من الطيبين من منتجي الخيرات الشعبيين في أعمالي. إنني هنا أريد تغيير الموضوع الذي أصبح مغتربًا عن بيئتنا، وأعيده الى بيئته الأصلية. فماذا تعني لوحة عنوانها «مربع أسود أو مربع أحمر» يرسمها رسام عراقي، في نهاية القرن العشرين، بينما كان ماليفتش قد رسم هذا المربع في بداية القرن العشرين؟ أعمالي هي نوع من «عرقنة الموضوع» أي معالجة مواضيع تخصّنا نحن بالذات.
التبعية والتميز
* هل هو حنين إلى الماضي ونبشه؟ أم بحث عن بقايا هذا الماضي واستشراف المستقبل من خلاله؟
- الماضي مهم جدًا لكلِ شعب ولكلِ إنسان، فليس هناك حاضر من دون ذلك الماضي وليس هناك مستقبل، لهذا فالماضي حاضرٌ ومستقبلٌ أيضًا. وهذا لا يتناقض مع فكرة التقدم التي تحدثتُ عنها قبل قليل. والمسألة ببساطة، هي أننا لا يمكننا بناء بيت، ولو بسيطًا، من دون ركائز أولية نغرسها في التربة. والركائز هنا هي الماضي، وبعد ذلك يمكن أن نطمئن على مستقبل البيت، بعد التأكد من صلاحية الركائز وقوّتها، ونستطيع أن نقرر ما إذا كان باستطاعتنا بناء حركة فنية أو ثقافية جديرة بنا أم لا! انظري الى الولايات المتحدة، فهذه الدولة لاتزال تعاني من مركب النقص، بسبب تبعيتها المعرفيّة السابقة لأوربا، وهي تحاول بكل الطرق إيجاد مبرر معرفي يخصّها للتمييز بينها وبين أوربا، وما الصراع على ريادة «الفن الحديث» اليوم بين القارتين، إلاّ شكل من أشكال المنافسة على نوع التراث المُعْتَمد في هذه القضيّة.
من جانبي، أجد أن شعوبنا تمتلك تراثًا غنيًا، وهو تراث يخص البشريّة جمعاء ويملك في الوقت نفسه خصائصه المحليّة، التي يمكن الاستفادة منها. انظري الى رأس نفرتيتي الجميلة زوجة إخناتون في حضارة وادي النيل، ورأس سرجون الأكدي البرونزي في حضارة وادي الرافدين، والى العديد من الذخائر الرائعة لحضاراتنا، ستجدين الحلول التي لجأ إليها الفنان الغربي، بينما نحن أهملناها، خوفًا من أن ننعت بالتخلف وعدم المعاصرة.
التراث ذخائر رائعة
* تتمسك بالتراث والمحلية - سواء في رسوماتك أو كتاباتك النقدية- ومعتقدك الثابت أن التراث هو الميدان الوحيد الصالح للطيران والهبوط معا. الى أي مدى تظن أنك استطعت إيجاد صلة جديدة بين التراث والتجديد؟
- أحيلك في هذا إلى ما توصل إليه الفنان الغربي من إنجازات بناءً على اعتماده على تراثنا المحلي، فجاكومتي وهنري مور وبول كلي وبيكاسو وهنري ماتيس وغيرهم، استفادوا فائدة جمّة من تراثنا وساهموا في فك العزلة، أو فتح طريق جديد للفن الأوربي، بعدما وصل الى طريق مسدود، في نهاية القرن التاسع عشر. فلماذا والحالة هذه، لا يمكننا أن نعتمد على تراثنا؟!
المشكلة لدينا هي أننا لم نحدد حتى هذه اللحظة - الكلام هنا عن أغلبية فنانينا - طبيعة السؤال الذي تجب الإجابة عنه، أو ربما لا نعرف نوع السؤال الذي تجب مواجهته، فالنتاجات الفنية الغربية متوافرة عندنا من خلال وسائل الاتصال ومعاهد التعليم، مثلما تتوافر سائر المنتجات الغذائية المعلبة الأخرى، ونحن نمارس العمل الفني بعقلية المستهلك وليس المنتج، أي نتعامل معه مثل المواد الغذائية المعلبة والجاهزة، فما علينا إلا فتح العلبة وتسخينها ثم التهامها، وكأننا نحن من طبخها ووضع فيها مقادير المواد.
فنانونا اليوم ينتظرون ما تجود به أوربا من صَرعاتٍ «فنيّة» كي نتلقفها لإعادة إنتاجها مجددا على جمهورنا الذي يتردد على قاعات العرض، وكأنها من بنات أفكارنا وجهدنا الخاص. فقد كنّا أكاديميين ثم انطباعيين وكنّا سرياليين وبعدها تجريديين، واليوم نمارس فن الفيديو وغداّ «الأنستليشن» وبعده عرض أجسادنا والذي يليه تغليف بناياتنا وهكذا، من دون السؤال عن جدوى مثل هذه الممارسات على واقعنا الفني والثقافي والبيئي- هذا طبعًا لا يشمل المبدعين الجادين في بلداننا- لكني أتكلم عن الظاهرة عمومًا.
كما قلت لك هذا يعتمد على مدى الاستفادة من التراث ووعي وتجربة وثقافة الفنان نفسه، وهذا ينسحب على العمارة والسينما والمسرح والموسيقى والرواية والشعر أيضًا. علينا، أولا، تحديد السؤال، حتى نستطيع الإجابة عنه بشكل صحيح.
أما ما يتعلق بأعمالي، أحيلك لكتّاب أجانب وعرب وعراقيين، كتبوا ما تراءى لهم من مميزات تخص نتاجي. ولا أغالي لو قلت إن معظمهم أشار الى صلتها بما نملكه من تراث، وأنا فخور بهذا القدر من التوصيف، ومع هذا فتجربتي خاضعة للفحص دومًا وقابلة للدحض وتحت تصرف من يريد دراستها أو تفحص نتائجها، فانا لاأزال في بداية الطريق، وقد تكون هذه التجربة كلّها باطلة وقبض ريح.
أسى وليس حزنًا
* أيضا أنت ترسم وجوهًا من دون تعابير، أين يقف الحزن في عالم فيصل اللعيبي؟
- في أعمالي، قد لا تحسّين بالحزنِ بشكلٍ مباشر، لكن الأسى واضح، وما هذا السكون الذي يلف المشهد ببعيد عمّا تبحثينَ عنه، الحزنُ بالمعنى العاطفي المباشر غير موجود، وأنا اتفقُ معكِ في هذا، لكن هناك شيئًا في العيون وفي النظرات، وربما في الهيئات نفسها، ما يوحي لك بمثل هذا النوع من الحزن، حزن نبيل غير سهل وليس المقصود منه استدرار العواطف، التي تعني هنا الصدقة أو الشفقة. ألا يكفي تصوير الموضوع وروح الحنين التي تمتزج به، تعبيرًا عن درجة الحسرة والعبرة المختنقة في دواخلنا عن عالمنا البريء الذي فقدناه؟
ألم تدمع عيناك يومًا لمشهد الفنان الراحل فريد الأطرش وهو ينادي حبيبته من بعيد؟ أحيانًا تنهمر دموعي لمجرد رؤية جلسة عائلية في بيت مصري داخل فيلمٍ ما، وفردوس محمد العظيمة تنادي على إحدى بناتها بالقول: «حضري الفطار يا لواحظ، أبوكِ جاي في السكة»، ليس غير! لقد طالت غربتي وقضيت من العمر خارج الوطن أكثر مما عشت فيه، لكني كلما أمر في زقاق، هنا، في أوربا، وأشم رائحة العدس أو توابل مطبخنا الشرقي من نافذة ما، حتى أجد نفسي يحيطها النشيج وحتى البكاء. إنني أحاور البشرية بشكل عام في أعمالي الأخيرة خاصةً، فأنا أريد الثناء على ما مضى من علاقات حميمية، دون نسيان المنجز والهدف الفني بالطبع. في تاريخ البشرية، هناك عصر ذهبي، تتمناه دومًا أن يعود، وهذا ينطبق على الأفراد، فلكل منّا عصره الذهبي الذي فقده. هذا ليس حنينًا مرضيًا كما يحلو للذين يستخدمون مفاهيم علم النفس في غير محلّها، بل توق للبراءة والنعيم المفقود في عالمنا الحالي مع الأسف. ولا ننس أن الحلم بالجنّة هو توق لعصر البراءة والحرية بالذات.
* وماذا عن دلالة الرأس الحليق، الذي كان من العلامات المميزة لشخصياتك الذكورية في عملك الأخير؟
- للرؤوس الحليقة تاريخ ممتد من رجال المعبد السومري إلى حجاج بيت الله الحرام، مرورًا بفقراء الناس، الذين لا يجدون ما يأكلونه غالبًا، وهو تعبير عن الطهارة والتواضع والعوز معًا. وفوق هذه وذاك يبدو الرأس الحليق أحيانا أجمل من كل أشكال فن تزيين الشعر وقصه والتفنن في تجعيده أو تسريحه، هنا بالذات يكمن ولعي في التعبير عن الإنسان العراقي في هذه الأعمال، وهذا مقترح جمالي ليس إلاّ، أي أنني يمكن أن أغير هذا الشكل، إذا ما استجد شيء يدفعني للقيام به، المسألة عمومًا مرتبطة بشكل تراثي للشخص العراقي وبجماليات معنية، وأنتِ تلاحظين أن حلاقة الرأس اليوم، قد أصبحت المودة السائدة حتى عند الشباب في أوربا نفسها.
أمنية الحرية
* في معظم أعمالك مزيج واضح بين المقدس والدنيوي، فهل يمكن القول إن فيصل لعيبي يطمح لخلق حالة إبداعية يمكن وصفها بـ«تحرير الإنسانية»؟
- حرية الإنسان، أمل الجميع، لكن القضية تكمن في معنى هذه الحرية وطريقة التعبير عنها. كل الديانات السماوية والمعتقدات غير السماوية والحركات الاجتماعية الكبرى، أو ما يطلق عليها اليوم «السرديات الكبرى» تطمح الى الحرية. فالجنّة عند المؤمنين بالكتب السماوية، هي تعبير عن الحرية المطلقة للإنسان في فعل ما يحلو له ويتمناه هنا على الأرض، أنهار العسل والحليب وحوريّات الجنّة والولدان المخلّدون وكل ما تشتهي الأنفسُ، أي عصرٌ ذهبيٌ بامتياز. وكذلك الحال مع الحركات الاجتماعية الكبرى في التاريخ، والتي نجد صورتها المعاصرة في الماركسية، حيث تقترح علينا عالم الحرية بعد اجتيازنا لعالم الضرورة، وما تلك الأماني حول العودة الى العصر الذهبي المفقود، والذي قد تكون البشرية قد مرت به يومًا ما، إلا نوع من هذه الأمنية: «أمنية الحريّة»، حيث لا يوجد عقاب ولا ثواب، والكل في بحبوحة من العيش الرغيد، وإذا اتفقت معي في كون الفنان هو مهندس الروح البشرية ومهذّبها، فهو أول من يعنى بالحريّة، وأيضًا أول من يدرك معنى المقدس من الناحية الفنية، ولا شك أن ما يضفي على أماكن العبادة من هيبةٍ ووقار وحتى قدسية ما، يعود الى الفنان بالذات. انظري الى الزخرفة الجميلة والخط العربي الرائع وكذلك الشكل المعماري الجميل، للجامع، أو قبور الملوك والحكّام ومراقد الأولياء والشخصيات الدينية المعروفة، ستجدينها تنبئ كلها، عن فهم الفنان لمعنى القداسة، وكذلك للحريّة التي يتعامل معها في تناوله لمثل المفاهيم.
أنا أسعى لمفهوم عن الجمال المعنوي والمادي، من خلال أعمالي. أما المقدس، فهذا يكمن عندي في القيم الإنسانية التي قد يجدها الناس في أعمالي الفنية، حيث تجدين الدفاع عن الحق والخير ونصرة المظلوم والوقوف بوجه الظالم وتعرية الطغاة وكشف جرائمهم واقتراح قيم جمالية معينة من خلال الفن، فالجمال خير دائم.
الذاكرة والحرب والمنفى
* الذاكرة، الحرب، المنفى... الىأين وصلت رحلة فيصل لعيبي في البحث عن الذات؟
- تكلمنا عن الذاكرة عند الحديث عن الحنين الى ما مضى نسبيًا، أما الحرب أو العنف إن شِئْتِ، فقد بدأت معه وأنا في العراق، إذ قدمت أعمالًا تمجد الشهداء وتدين العنف وتفضح سجون ومعتقلات النظام السابق، التي كانت تغص بخيرة أبناء العراق. وهناك كمية هائلة من هذه المواد مكدسة ومحفوظة عندي، وكذلك فعل معظم فناني العراق المهمّين، وهذا غير معروف إعلاميًا ولم يكتب عنه بجدّية حتى هذه اللحظة مع الأسف، إذ تعتبر هذه الأعمال المهمّة، وثيقة صادقة وإدانة صريحة للطغيان وشهادة دامغة لما جرى في العراق، من جرائم بحق الناس والمناضلين ومنتجي المعرفة والحياة، خلال النصف الثاني من القرن العشرين والعقد الأول من هذا القرن. فهناك ما يشبه التعتيم على هذه الأعمال ولم يشر إليها أحد حتى الآن. وهي تشكل تراثًا بهيًّا ومشرِّفًا للفنان العراقي، وتشمل هذه النشاطات جميع فروع المعرفة والإبداع في بلادنا المنكوبة، مسرح، سينما، موسيقى، شعر، رواية، دراسات أكاديمية.
أما المنفى أو الغربة، فهي ذات حدين متناقضين، سلبي وإيجابي. ولقد جرًّبتُ السلبي منها حتى الثمالة، لكني لم أُحْرَمْ من خيرات المنفى المعرفية، وحاولت قدر الإمكان الاستفادة منها في حدود ما توافر لي من فرص، فلقد عرفت نفسي وتميُزي عن الآخر هنا في الغربة، وتعلمت منها كيف أواجه مشكلة الهوية،وكيفية التعامل في مجال الفن كند للآخر وليس كتابع له. والغربة كشفت لي عن نواقصي وعيوبي وكذلك محاسني ومؤهلاتي، وأعطتني أكثر من خيار وفرصة للتعلم والفهم وتحديد المهمات المطلوب القيام بها، في مجال الفن والمعرفة. لقد بدأت البحث عن ذاتي هنا في الغربة، لأننا كنا في بلداننا ولانزال مهووسين بما ينتجه الآخر من فن، ونفرضه على معاهدنا الفنية داخل بلادنا، ولم نلتفت الى تراثنا الفني بجديّة، كما هو الحال في دراستنا لتاريخ الفن الغربي. إذ نعرف كل تفاصيل ومجريات الحركات الفنية الأوربية، لكننا نجهل الواسطي وقيم الفن الإسلامي وجماليات الحضارات السابقة التي قامت على أرضنا.
المبدع يلزم جذوره
* ما الذي جرى في مسارك الفني منذ بداياتك وحتى اليوم؟
- بل قولي في مسار لوحتك الواحدة، فأنا رسام أعد للموضوع مسبّقًا وعلى شكل دراسات وأحاول أن أصل الى الوضع الأمثل، حسب تعبير الصديق والفنان خالد خضيّر الذي كتب مرة عن هذه الصفة في أعمالي.
لقد بدأت كأي طالب فن، أكاديميًا وتطور عندي هذا الأسلوب الى الواقعية التعبيرية، ليس كما هو مفهوم في النقد الغربي، بل حسب مفهوم الفن الآشوري، كما أشار الكاتب والصديق سهيل سامي نادر عن صدق، خصوصا في هيئات الثيران المجنحة على أبواب مدينة آشور المحصنة وجدارية صيد الأسود الشهيرة والتي وجدت في قصر آشور بانيبال الملك المثقف وصاحب أول مكتبة شاملة في تاريخ البشرية.
ثم تقلّبت بين عدة تجارب متنوعة، ولاأزال أواصل البحث والتنقيب، واضعًا نصب عيني شروط المحلية والهوية والأصالة وعلاقة كل هذا بالعصر الذي نعيش فيه.
* بدأت رساماً صحفياً، ماذا علمتك الصحافة؟
- لقد تعلمت الكثير من الصحافة، السرعة والاختزال والبساطة والبديهية في الرسم. لقد بدأت كرسام في الصحافة منذ عام 1966، وكنت أحاول أن أتخذ لي أسلوبًا خاصًا لكني تأثرت في البداية برسامي أغلفة مجلة التايم الأميركية ورسامي الكتب والمجلاّت المصرية أيضًا، من أمثال رسّام الأغلفة الفنان البارز جمال قطب وحسين بيكار والرسام الكاريكاتيري العراقي البارز غازي.
كان عالم الصحافة عالمًا مغريًا وكدت أفقد خصوصيتي كفنان وأتحول الى رسام صحفي، لكني أدركت مثل هذا الخطر وتجنبت الوقوع فيه، وهذا ما جعل الفنان المصري البارز حسين بيكار يبتعد شيئًا فشيئًا عن هموم الفن ويغرق قليلًا قليلًا في عالم الصحافة، الذي حرمنا من إبداعات هذا الفنان المهم، التي لو خصص لها وقتًا أكثر من وقت الصحافة، لأتحفنا بما لا يمكن تصوره.
أبعد ما يكون عن النقد
* تشكو من ندرة الكتاب المتخصصين في مجال النقد الفني. وتشدد في الوقت نفسه على أهمية أن يكون لدى الساحة الفنية العربية متخصصون يستندون إلى معايير مهنية ثابتة ويمارسون النقد «البناء» بعيدا عن المزاج الشخصي. فما هو النقد وأين نحن منه اليوم في العالم العربي؟
- مشكلة النقد هي نتيجة لمشكلة الإنتاج الفني، ولهذا فإن أمراض الإنتاج الفني نفسها موجودة في ما يسمى عندنا نقدًا فنيًا. الحديث لا يجري هنا عن كتّاب المقالات الصحفية، التي تتابع المعارض الفنية، لأنها عبارة عن انطباعات وتأويلات بعض الصحفيين غير المتخصصين في النقد، لأن النقد له أصوله ومبادئه، مثل دراسة تاريخ الفن في البلد المعني وتاريخ الفن العام، والمعرفة بعلم الجمال مع المتابعة الجادة للمنتج الفني، بالإضافة الى إلمام لا بأس به بتقنية الفن نفسه. وهذا مفقود عمومًا لدى معظم كتاب المقالات الفنية عندنا، ولم تكن الكتب التي صدرت عن الفن في منطقتنا العربية على حد اطلاعي عليها - قد استوفت هذه الشروط. فهي لم تذهب أبعد من مدارس النقد الفني في الغرب ولم تتعب نفسها في تلمس بعض مفاهيم الجمال في تراثنا الفني. نحن نبدأ من أفلاطون مرورًا بمؤرخ الفن في عصر النهضة فازاري وعصر الأنوار وفلاسفته، أمثال إيمانويل كانت ثم هيغل وماركس وغوته وكروتشه وأدورنو ويوركهايمر، بريتون ولوكاش وفيشر وغيرهم وننتهي بجوزيب بويز أو فيكتور بيرجن وميخائيل بالدوين أو ميل رامسدن وآشلي بيكيرتن وريتشارد سيرا وفلينت شيير وغيرهم من أصحاب وجهات النظر من الفنانين وكتّاب النقد في أوربا وأمريكا، المعاصرين لنا حاليًا والذين ولد معظمهم في النصف الثاني من القرن العشرين، لكننا لا نحاول، مثلًا، دراسة أفكار أبي حامد الغزالي في الجمال ولا الجرجاني في طبيعة العمل الفني أو ابن عربي ولا أقطاب الصوفية الذي تحدثوا عن الجمال والعالم العياني واللامرئي، ولا حتى تجارب فنانينا الروّاد ممن حاولوا عكس بيئتنا في أعمالهم الفنية من وجهة النظر المحلية ولا نتائج جماليات فنون الحضارات القديمة، مرورًا بالحضارة الإسلامية في مرحلة تألقها، وحتى تجارب الفنانين الشعبيين الذي حافظوا على تقاليد الحرفة والصنعة، في ما تركوه لنا على الخشب والزجاج والمباني والسجّاد والسيراميك والخط العربي وغيرها من أشكال نباتية وحيوانية وبشرية وحتى تجريدية، عبر قرون التخلّف والسيطرة الأجنبية على بلداننا، إن الالتفات الى هذا لا يعني تجاهل التجارب المعاصرة وفنون الغرب خصوصًا، بل من المفيد جدًا الاستفادة من خبرتهم العملية والنظرية بكل جدية، على ألا تمسخنا وتشوه شخصيتنا الخاصة.
النقد يحتاج إلى مؤسسة مختصة، الى أناس مستعدين لممارسته منهجيًا وأكاديميًا بحق، وليس مجرد انطباعات عابرة، على أهمية بعضها وجديته.
اللوحة تنتج نقدها
* المشكلة إذن في دور الناقد الفني؟
- كما ذكرت في الجواب السابق، إشكالية النقد هي جزء من إشكالية العمل الفني نفسه، فالنقد الفني تنتجه اللوحة الفنية أو العمل الفني على العموم. لقد ظهرت محاولات نقدية في الساحة الفنية العراقية، بسبب حيوية الساحة نفسها، كما برزت تنظيرات جمالية وفنية كذلك، بسبب تلك الحيوية والجدية، التي رافقت نشاط الفنانين العراقيين، فقد عرفنا «جماعة بغداد للفن الحديث» وتنظيرات فنانيها وبيانيها الأول والثاني تحت توجيهات الفنان جواد سليم، كما ظهرت «جماعة البعد الواحد» وبيانها وتنظيراتها، من خلال مفاهيم شاكر حسن آل سعيد وجميل حمودي ومن أدلى بدلوه في هذا المجال من فناني هذه الحركة، أضف الى بيان «واقعية الكم» للفنان محمود صبري، الذي دعا فيه الى تبني مفاهيم الفيزياء الحديثة في تناولنا لقضايا الفن والعمل الفني.
وهذا لم نجده في دولة عربية أخرى، إذ تجدين قطبي الفكر الجمالي في حركتنا الفنية العراقية، يتناقضان في الرؤية والمنطلق، فبينما ينطلق محمود صبري من المادة (الذرّة) في تفسير العمل الفني، نجد شاكر حسن ينطلق من الروحي وما هو فوق مادي لتفسير وتقديم العمل الفني، وكلاهما ينفي الواقع العياني للفن التشكيلي، ويلتقي عمليًا بنتائج الحركة التجريدية التي توقفت عند الخمسينيات، بشكليها الهندسي والتعبيري. وبعيدًا عن الاتفاق أو الرفض لمثل هذه المفاهيم، فإن معظمنا يجدها اجتهادات جديرة بالتأمل والدرس والتجريب. كل هذا أفرزته حيوية اللوحة وليس العكس، ولم نسمع من قبل أن حركة فنية قد ظهرت بسبب تنظيرات مسبقة، وأمامنا تجارب الدول ذات النظم الشمولية التي أرادت فرض وجهة نظرها على الثقافة وكيف انتهت مثل هذه التجارب.
اللوحة هي التي تنتج نقدها الخاص بها وليس العكس، هذا ما أراه وأؤمن به، ولهذا ظل فناننا الكبير فائق حسن غير مدروس جيدًا، لأن من كتبوا عنه، انطلقوا من نقد خارج اللوحة الفائقية مع الأسف، وإن عالجوا مواضيعها،إلا أنها معالجة سطحية وشكلية تمامًا. وهذا ينطبق على مجموعة من فنانينا الكبار والمرموقين، فتطبيق مفاهيم حركة فنية ظهرت في بيئة مختلفة على عمل فني لبيئة مختلفة أخرى رغم تقارب الأساليب، هو الذي أوقعنا في هذا التخبط.
الفن نحو الفردية
* هل التغييرات الحاصلة في المدارس الفنية تزيد الحاجة الى النقد الفني؟
- المدارس الفنية انتهت في أوربا منذ النصف الثاني من القرن الماضي، قرن الفوضى والحرية المطلقة.
لم تعد كما في السابق حركات فنية أو مدارس سائدة، هناك صرعات فنية لا تدوم أكثر من خمس سنوات ثم تأتي أخرى وهكذا، وهذا من نتاج المفاهيم التحررية التي تركها لنا القرن العشرون. وكذلك من نتائج الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي و«الاشتراكي»، حيث جرّت صراعاتهما، الثقافة والمثقفين في العالم الثالث للتورط في مسايرة الأفكار والأساليب التي انتعشت هناك بسبب هذا الصراع.
الفن أصبح أكثر فردية، واتسع ليصبح كل فنان اتجاهًا بحد ذاته، أو أسلوبًا مميزًا عن غيره هنا أتحدث عن المبدعين وليس مستنسخي تجارب الغير ولهذا بقدر سعة التجارب، بقدر ما نحتاج الى نقاد، وربما، سنرى لكل فنان ناقدًا مختصًا به، كما هي الحال في بعض مجالات المعرفة في عصرنا، ككتّاب السيرة الذاتية لمشاهير الناس. العملية الفنية من التعقيد ما يجعلها عصية على العديد من المتطلعين بالفن نفسه، وأحيانًا نجد صعوبة كبرى نحن الفنانين في فهم أعمال بعضنا بعضًا، بسبب من خصوصية التجربة وطبيعة البيئة والثقافة المحلية والخبرة العملية لهذا الفنان أو ذاك. وكما يقول الناقد الأمريكي إدوارد لوسي سميث، في كتابه: «الحركات الفنية منذ 5491»، فقد تحول الفنان للبحث «عن امتداد وليس عن أجداد»، كشكل من أشكال الأصالة الفردية، التي لا تعتمد على الموروث والماضي، بقدر اعتمادها على الراهن والآني والصدفة والتجريب، الذي ليس له هدف محدد أصلًا.
«أحب عيشة الحرية»
* معروف عنك عشقك للفن الشرقي الكلاسيكي، وأنت تمتلك صوتا جميلا وتحب الغناء لعمالقة هذا الفن (أم كلثوم، أسمهان، السيد درويش،...). وثمة خيط سميك يربط بين ذاتك الفنية (الموسيقية خصوصا) وأعمالك التشكيلية التي فيها الشرق والتراث حاضران أبدا ولكن بشكل معاصر جدا، وكأنه متجاوز (الأبعاد في أسلوبك)، حتى أننا نشعر وكأن لوحاتك لا تغذي البصر وحسب بل الأذن أيضا، وكأنك عندما ترسم إنما تعزف على أحد المقامات... أين بدأ طرف هذا الخيط السميك: من الطفولة (أجواء العائلة) أم أن للغربة تأثيرًا في ذلك؟
- كان رب الدار العظيم، لعيبي صاحي، وأمي، آلهة المحبة والغفران والعطاء الذي لا ينفد، هما من غذيا فينا نحن أطفالهما الستة، روح الفن وحب الناس والدفاع عن الضعفاء والوقوف بوجه الظالم. فقد سمعنا عبدالوهاب في أغانيه الساحرة، من فم ساحرنا المذهل لعيبي، وهو يترنم بأغنية «أحب عيشة الحرية، والهوى والشباب، ويا جارة الوادي» وغيرها، ولكن بأي ترنم وأي جمال وأداء صوتي أخّاذ؟ وكذلك الحال مع أم كلثوم، التي ردد أمامنا أغانيها التي كلما سمعتها اليوم، تدمع عيناي، مثل «العزول فايق ورايق عمره ماداق الغرام» و«أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعه» أو «ليه يا بنفسج» لصالح عبدالحي وغيرها من عيون الطرب الشرقي الأصيل. كانت أغانيه تسكرنا قبل مائدته المليئة بما لذّ وطاب من الطعام والشراب، في هذا الجو عشت طفولتي وكذلك إخوتي الذين لن تجدي أحدًا منهم خالي الوفاض فنيًا وانتقل هذا الولع الى أولادهم أيضًا.
هل أنا صوتي جميل حقًا؟ لا أعرف، فهو محدود الطبقات، ولم تمتدحه زوجتي حتى هذه اللحظة، وربما ضايقتها مرّات به، لكني قد أدفعها أحيانًا إلى مصاحبتي في الغناء عندما يصفو مزاجها، الذي لا يعكره غيري، لنردد أغنية أم كلثوم الرائعة: «هلّت ليالي القمر تعال نسهر سوى في نور بهاه» أو «جددت حبك ليه بعد الفؤاد ما ارتاح».
النصف المنير من القمر
* إذا سمحت لنا بالسؤال عن علاقتك بزوجتك، نود لو تحدثنا عن لقائكما وما أضاف ارتباطكما الى مسيرتك، خصوصا أنها باحثة متخصصة بالتراث والموسيقى العربية الكلاسيكية، وهي تخط بالكلمة ما تفعله أنت بالريشة والألوان. فهل هو تكامل فني كما هو تكامل روحي ووجداني وعاطفي؟
- إنك تجبرينني على الحديث عن النصف المنير من القمر. لقد كانت الصدفة الموضوعية ربما، هي من قادت خطى كل منا للآخر، فهي من الجزائر وأنا من العراق، ولم أفكر يومًا أن أقترن بامرأة من تلك البلاد، لعدم ورود فكرة من هذا النوع عندي أصلًا، ولكن الذهاب الى فرنسا، واللقاء بالطلبة العرب هناك، أوصلني الى لقاء الحبيبة عائشة. لقد اغتنى كل منا من الآخر وكانت ولاتزال خير ناقد لأعمالي المرسومة، وقد زادتني معرفة في نقاشاتنا عن الفن والموسيقى، ماذا أقول وأنا في بحبوحة الود والمحبة والجمال، إضافة للمعرفة والجدية والثقة، لقد كانت الملاذ الذي ألوذ به عندما تشتد الأزمات وتضيق بي السبل وتظلّم أمامي الدنيا. وكما وصفتِ علاقتنا تمامًا، فحياتنا تكامل روحي ووجداني وعاطفي وأضيف لها وفكري كذلك، لكن هذا لا يعني تطابقًا كاملاً في المواقف ووجهات النظر التي نختلف فيها، فلكل منا شخصيته ورؤاه وخلافاته أيضًا، ألم تكن المرأة النصف الآخر للرجل؟
«قل كلمتك وامشي»
* ما هي خصائص عالم فيصل اللعيبي الفني؟
- الصدق في التوجه والبساطة والبحث الجاد عن طريق خاص، لقد حاولت أن أعجن كل التجارب الفنية التي تعرفت عليها خلال عمري العملي كرسام، وأن أخرج منها بقيم جمالية مستمدة من تاريخ الفن العام ومن تاريخ فنون منطقتنا العربية وما قبلها، علني أتقدم خطوة أخرى للأمام، يقول الشاعر الكبير أدونيس في أحد مقاطعه الشعرية، على ما أذكر، ما يلي: «قل كلمتك وامشي تزد سعة الأرضِ».