قد يكون بعض معاصرينا أقدر على التأليف المنهجيّ من العلماء القدماء، ولا شكّ في أنّ المعرفة الواسعة متاحة لهم أكثر من إتاحتها لأولئك، بما لا قياس له، وذلك بسبب تطوّر أساليب البحث، وانتشار الطباعة وتقدّمها، واستعمال الحاسوب الذي يؤدّي إلينا المعلومات بسرعة كبيرة، ويجعل الاطلاع على المصادر والمراجع فائق السهولة.
فلا غرو أن نأتي «بما لم يستطعه الأوائل»، من حيث دقّة المعلومات، وصحّة النتائج وشموليّتها، وربّما اكتشفنا عند أولئك أخطاء صغيرة أو كبيرة، لتعويلهم على الذاكرة، أو على المخطوطات القليلة التي يحصلون عليها بطريقة أو بأخرى، من غير أن تخلو من التصحيف، أو تبرأ من تدخل النسّاخ، وبعض النسّاخ جهلة، أو قليلو المعرفة. لكنّ هذا ليس مدعاة فخر لنا، ولا يجب أن يبعثنا على الغرور أو الاستخفاف بالقدماء، ذلك لأنّ تلك سُنّةُ التقدّم والتطوّر، وبعض التطوّر نَدين به لغيرنا، من أسف، وليس لعبقريّتنا. ولهذا ينبغي ألاّ ننسى الفروق الزمنيّة، وأن نتواضع لعظام أمتنا، أمثال سيبويه والجاحظ والطبريّ، ولو كان بعضهم من أصل غير عربيّ.
يبعثنا على هذا الكلام ما نلحظه من استدراكات على النصوص القديمة، صحيح أنّ كثيراً من تلك الاستدراكات يتّسم بالموضوعيّة، لكنّ بعضها يفتقر إلى التوقير الذي ينبغي للنابهين من الأسلاف. والمثال على ذلك أنّ الطبريّ أشار إلى أنّ «مَفازاً» في الآية الكريمة إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ، تعني «مُنْتَزهاً»، فإذا بالشيخ أحمد محمّد شاكر، رحمه الله، محقّق تفسير الطبريّ، يعقّب على ذلك بقوله: «مُنْتَزهاً، كذا في الأصل، وهي كلمة عاميّة (كذا)، إذ ليس في المعاجم انْتَزَهَ، أي طلبَ النزهة في الحدائق وغيرها، وإنّما الذي في اللغة: تنزَّه، واسم المكان مُتنزّه، بتقديم التاء». وعلى رأي الشيخ شاكر بعض المؤلّفين المعاصرين في الأخطاء الشائعة.
والذي يصنعه رجل العلم الموضوعيّ، حين يشكّ في استعمال لجأ إليه عَلَم ضخم كالطبريّ، هو أنّه يتريّث ويشكّ في معلوماته هو أوّلاً قبل الشكّ في استعمال ذلك العَلَم، ويحتفظ بحقّه في البقاء رهن الشكّ، فلا يتَّهم العَلَم ولا يبرّئ نفسه، بل يستقصي، ساعياً إلى الظفر بما يؤيّد العلَم، لا إلى ما يؤيّد رأيه هو، فإن ظفر بذلك ازداد علماً، وتوقّى التسرّع، وإلاّ عرض البراهين على خطأ العلَم.
ولم يكن مستحبّاً أن يزعم الشيخ شاكر، وهو علَم أيضاً، عاميّةَ كلمةٍ استخدمها الطبريّ، المرجع الضخم في اللغة والتفسير، بل لم يكن من الخطأ أن يتساءل، ابتداء: هل يُتصوّر أن يستعمل ذلك العلاّمة الذي عوّل أكثر المفسّرين على شروحه وتوجيهاته اللغويّة، كلمةً عاميّة ويترك نظيرتها الفصيحة؟ والحقيقة أنّ زعم الشيخ شاكر لا يثبت للنقد العلميّ، فقد أشار سيبويه وابن سيده وغيرهما إلى أنّ بعض الألفاظ يجري على غير المستعمل في اللغة، مثل جمعهم لمحة على ملامح، وقولهم مذاكير الذي لا مفرد له، وأشار ابن جني وغيره إلى أنّ الأصلين المفترضين: وَدَع ووَذِر، لفعلي: دَعْ وذَرْ، ليسا مستعملين. هذا وقد يشتقّ اسم المكان من فعل غير مستعمل، كالمَنار، مثلاً، المشتقّ من فعل «نارَ» غير المستعمل، وليس من فعل «أَنار»، وقد بيّنا ذلك في مقالة سابقة. فلا غرو أن يؤخذ اسم المكان مُنْتَزه من انْتَزَه غير المستعمل أيضاً، والمصوغ على زنة «انفعل» العربيّة ذات الدلالات الصرفيّة المعروفة. فكيف إذا جاء هذا الاستعمال من عالِم كبير في التفسير والحديث والتاريخ؟
وبعد ذلك فإنّ الاستعمال يؤيّد الطبريّ. وقد لاحظ مجمع اللغة العربيّة في القاهرة، ربّما بعد وفاة الشيخ أحمد شاكر، أنّ الكلمة وردت في أشعار الفحول مثل بَشّار بن بُرْد، ولذلك أقرّها وأدرجها في «المعجم الوسيط» بوصفها مرادفة لمُتَنَزَّه.
وقد وجدناها نحن في مصادر متعدّدة، ولاسيّما في كتب الجاحظ، ففي الحيوان: «وما كانت بلاد التِّيه إلاّ من ملاعبهم ومُنْتَزهاتهم»، وفي رسالة الوكلاء: «وهل عرفوا الجَمّازات لأسفارهم ومُنْتَزهاتهم؟» وفي كتاب الأغاني لأبي الفرج الإصفهانيّ (ج 15- دار الكتب): «إنّ الحزين الدِّيليّ خرج مع ابنٍ لسهل بن عبدالرحمن بن عوف إلى مُنْتَزه».
والمشكلة في كلمة مُنْتَزه وأشباهها أنّ فيها أربع نِقاط متوالية، وهذا يجعل قراءتها في المخطوطات عرضة للتعدّد. وللمثال نذكر أن بعضهم جعل لفظة «يستتر»، في أحد الأحاديث النبويّة، مكان لفظة «يستَنْزِه». وفي حال «مُتَنَزَّه» و«مُنْتَزَه» يمكن أن تعتبر النقطتان الأوليان نقطتي تاء، والثالثة نقطة نون، فتقرأ الكلمة «مُتَنَزّه»، وقد تعتبر النقطة الأولى نقطة للنون، وبعدها نقطتان للتاء، فتقرأ الكلمة «مُنْتَزه»، عدا عن قراءات أخرى لا ضرورة للخوض فيها. وهنا يسارع إلى المحقّق ما يعتقده صواباً، فإذا كان الصواب عنده هو مُتَنَزَّهاً، رأى النقاط على الصورة الأولى، وإذا كان الصواب مُنْتَزَها رآها على الصورة الثانية. وهذا في طبيعة الأشياء، وإن كان التدقيق الشديد مطلوباً في التحقيق. لكنّ المخوف هو أن تكون علامات الإعجام واضحة غير ملتبسة، ومع ذلك يلجأ المحقّق إلى قراءةٍ مخالفة لما في النصّ لاعتقاده التصحيف فيه، أو لزعمه استدراك خطأ فات الناسخ أو وقع فيه المؤلِّف نفسه، متخيّلاً أنّه يسدي خدمة للنصّ، وذلك من غير استقصاء ولا حيطة.
ونحن لا نكاد نشكّ في أنّ كثيراً ممّا ورد بصيغة مُتَنَزّه في المصادر المحقّقة، إنّما أصله مُنْتَزه فبدّله المحقّقون، والعكس محتمل أيضاً. فنحن نستبعد أن يستعمل الجاحظ في «الحيوان» وفي رسائله صيغة مُنْتَزه، على ما ذكرنا، وأن يستعمل صيغة مُتَنَزّه في «البيان والتبيين» (فصل: ومن مجمل القول في العصا..)، كما نستبعد أن يستعمل أبو الفرج الإصفهانيّ صيغة مُنْتَزَه، التي عرضنا لعبارته فيها، وأن يستعمل صيغة مُتَنَزّه في ثلاثة مواضع أخرى من كتابه نفسه. والراجح أنّ النسّاخ أو المحقّقين قد تدخّلوا في الأمر.
لكنّ الصيغتين غير مترادفتين، خلافاً لما في «المعجم الوسيط»، وإن كانتا متقاربتين. ومن غير الدخول في المعاني المختلفة، الحقيقيّة والمجازيّة، لجذر «نزه»، والمتّصل أكثرها بالخلاء والطهارة، والبُرْء والبراءة، نكتفي بما يتعلّق منها بالنزهة: إنّ انتزه يدلّ على طلب النزهة بصورة عامّة، على حين أن تنزّه يدلّ على تكلّف ذلك وربّما تكراره. وإذا كان بعضهم يستعمل المُنْتَزه دون المُتَنَزّه، فلأنّ المُنْتَزه أخفّ لفظاً، وأعذب وقعاً في السمع، وأقدر على الشيوع، ومن عادة المستعمِل أن يختار الأخفّ على الأثقل الذي يرادفه أو يقاربه في المعنى. ولهذا ساد استعمال مُنْتَزه في أيّامنا، وربّما في القديم أيضاً، وبدا استعمال مُتَنَزّه ضرباً من التكلّف والتعمُّل.