مختارات من:

بقايا قرصان

مرزاق بقطاش

وقعت على هذه الورقات مصادفة في قبو من أقبية القصبة. أعترف أنني خشيت أن تتلف دون أن أتمكن من مطالعة ما جاء فيها. كانت متلاحمة فيما بينها بسبب الرطوبة، فتعين علي أن أنتظر وقتاً طويلاً لكي أقوى على فصل الواحدة منها عن الأخرى. الخط مغربي، واسع التهوية، ولون الحبر يتراوح بين الأسود والبنفسجي، وقد تبقع هنا وهناك ببعض الصفرة الباهتة. أنا لا أستطيع تحديد تاريخ كتابة هذه الورقات، لكنني أرجّح باستقراء الأحداث التاريخية أنها تعود إلى ما بين 1785 و.1795 هأنذا أعيد استنساخها كما وردت، وبالترتيب نفسه الذي كانت عليه حين عثرت عليها.

الورقة الأولى:

عدت اليوم من البحر، كنت مع الأصحاب نجوب الشواطئ الموالية لجزيرة مالطة، لم نغنم أي شيء، تراهن الأصحاب فيما بينهم على سبي بعض النسوة المالطيات، ولما أن عجزنا عن نيل مبتغانا، أحببنا أن نعرج على شواطئ سردانية. استطعنا في أحد المضائق الاستيلاء على سفينة كانت في طريقها إلى ميناء جنوة، أخذنا كل ما تحمله من أقمشة ولم نجهز على بحارتها.

في إمارة البحر بأرض المحروسة، لم نستقبل بالترحاب كعادتنا، ولم تطلق مدفعية برج (تمانفوست) شرقي الخليج طلقة واحدة إيذاناً بمقدمنا. قابلتنا مجموعة من الصيادين وعليهم سحن مرتعبة. قال أحدهم إن الطاعون انتشر في المدينة. جاء هذا الوباء عن طريق البحر وأخذ يفتك بالناس فتكاً، ثم زاد فأوضح أن أعالي المدينة هي المتضررة من هذا الوباء، تقلص شيء ما في صدري.

عندما دخلت الدار، شممت روائح القطران وقد تمازجت مع رائحة احتراق شيء ما، أنا لا أصدق أن مثل هذه الروائح تبعد خطر الطاعون أو تخفف وطأته على المصابين به. (سمية) أدركها الوباء مع أنها لم تخرج من الدار طوال مدة غيابي، وعدتها بغنيمة جميلة من أرض الكفرة، ولكن هاهي ذي في فراشها تنتظر أن تلفظ النفس الأخير.

الورقة الثانية:

.. لو أنهم أخذوا بنصحي، لما وقعت فينا مثل هذه المقتلة، نيران مدافعهم كانت قوية، أنا لم أعرف مثل هذا النوع من المدافع، ضاع منا عمر الدلسي وسعيد القليعي وعبدالرحمن الزواوي وناصر الشرشالي. وفقدنا عدداً من المجذفين المهرة، المساكين! فاجأتهم النيران في العنابر السفلية. ولولا أن الضباب كان حليفنا، لما عرفنا طريق العودة أبداً.. الرايس أرعن، لا يعرف إلا لغة القوة ولا يكاد يستخدم عقله. قلت له من الأحسن أن نلتصق بسفينة الكفرة بدلاً من أن نتبادل القذائف معها، لكنه ركب رأسه وأمرني بالعودة إلى موقعي في مقدمة السفينة.

داري صارت خالية موحشة، عندما ماتت سمية أقسمت ألا أبحث عن امرأة أخرى، ولكن، أعترف أنني في حاجة إلى أنيس، برج تمانفوست يرسل ضوءاً راعشاً في هذا الليل البهيم، علي أن أنتظر مرور موسم الشتاء حتى أعاود الانطلاق في البحر العريض مع الرفاق. نصحني البعض بأن أخطب شقيقة المرحوم عمر الدلسي، غير أنني متأكد من أنني لن أجد اللذة الكاملة في العيش معها. أنا لا أحب إلا السبايا، أما المرأة التي تأتيك طازجة من أرض الجزائر المحروسة فلا تعطيك أي نكهة. نساء (المحروسة) يجعلنك تفكر في ضيعة بالأرباض وفي الحياة الهنية، أما نساء ما وراء البحر.. يا الله.. فيحملن في أطوائهن كل ما تزخم به أرض الكفرة.. ثم إنهن يحملن معهن ذلك السيف الذي يظل مصلتاً فوق رأسي يستحثّني على التحرّك.

الورقة الثالثة:

... حملنا البارود إلى السفينة، ونقلنا إليها الكثير من اللحم المقدد والتين المجفف. جاءتنا الأوامر بالإبحار غداً، فالريح مؤاتية. أعترف أنني لم أرتو من (سيسليا). عيناها الزرقاوان تعيدان إلي ذكرى تلك الموقعة التي خضناها في أعالي بحر الأدرياتيك. فاجأنا الفلورنسيين وأخذنا منهم الشيء الكثير. اكتفيت أنا بـ(سيسليا)، فوافقني الأصحاب على اختياري هذا، بل هنأوني عليه إدراكاً منهم أن الأشهر الأخيرة لم تكن يسيرة لا علي ولا عليهم.

وعدتني (سيسليا) بأن تعزف لي مقطوعة على الكمان، قالت لي إنها ذات علاقة بالبحر. أنا لا أحب نغمة الكمان، ولكنني أعشق أصابع (سيسليا) وهي تتحرك فوق ذلك الزند الخشبي الأسود.

أمس، حين عرضت عليها جواهر (سمية)، أجهشت بالبكاء، قالت لي إنك لا تحترم ذكرى الأحبّة، اضطربت أمامها، وما كان لي أن أضطرب حتى لا تحسبني غرّاً لا يفهم شيئاً من أمور العشق، أخشى أن أركب البحر وهي كارهة لي مشمئزة من سلوكي هذا.

علمت اليوم من أحد الأثرياء أنه ما عاد للطاعون من أثر في أرض المحروسة، أنا لا أريد العودة من سفرتي هذه دون أن تقع أنظاري على عيني (سيسليا) الزرقاوين. لو كان هذا الأمر والنهي في أرض المحروسة لما تركت واحداً من هؤلاء الكفرة السجناء، هم الذين نقلوا الوباء إلينا. إنهم سبب الشر واللعنة.

الورقة الرابعة:

... أنا واثق اليوم من أن حياتي ستتخذ وجهة كان لابد منها منذ زمن بعيد، دخلت في حرب كلامية مع رايس السفينة في إمارة البحر، وصفته بالرعونة وبحب التسلّط والانفراد بالرأي، وكادت الأمور بيننا تنتهي بالاحتكام إلى السيف على رصيف الإمارة.

هذا الرايس ذو علاقة قوية بالداي. لست أدري من عينه على متن سفينتنا. قال البعض: الداي نفسه يقف وراء هذا التعيين، وقال البعض الآخر: بل هم الإنكشاريون. لم تعد الراحة ممكنة مع هذا الداي. أما رجال الإنكشارية فحيثما تلفت وجدتهم واقفين لي بالمرصاد. في بعض الأحيان ينتابني الشعور بأنني غبي، مغرق في الغباوة، أغامر مع غيري في أرجاء البحر المتوسط وأضطر في آخر المطاف إلى اقتسام الغنائم مع الداي نفسه ومع الإنكشاريين. لابد من الثورة على مثل هذه الأوضاع.

ترددت الأنباء بأن سفينة من سفننا أسرت سفينة حربية أمريكية في بحر الظلمات، لكنني لا أرى لها أثراً في جفنة خير الدين بإمارة البحر. لعل الداي أرسلها إلى السلطان الأعظم باسطنبول تقرّباً إليه. وإذا صح هذا الافتراض فإنني لن أتنازل للداي عن أي نصيب من غنائمي في المستقبل.

الورقة الخامسة:

... هؤلاء الإنكشاريون جبناء حقاً، أنا لا أصدق أنهم شجعان، إنهم يختبئون وراء الزي الرسمي، وفيما عدا ذلك لا ينطوي الواحد منهم على أي قيمة في حد ذاته. تبادلت كلمات نابية مع واحد منهم صباح اليوم عندما كنت في طريقي إلى إمارة البحر لأستفسر عن الرحلة القادمة. الغيرة هي التي دفعته إلى اعتراض سبيلي. كنت مرتدياً أحسن ما عندي من أثواب، متمنطقاً سيفاً فضي المقبض. وصفني بالغرور والتبجّح، فأجبته بأن الأثواب التي علي أنتزعتها انتزاعاً من أنحاء البحر المتوسط. وأضفت بأن الداي لم يتصدّق علي في يوم من الأيام، سحب سيفه المعقوف فجابهته. قال لي:

- سأشرب دمك...

- أنت لا تشرب إلا دم النعاج...

- وسأستولي على دارك...

- ذلك أمر ممكن، فأنت قد تستولي عليها عندما أكون أنا في عرض البحر، أما الآن فإنني أستطيع أن أجلسك على خازوق.

وانصرف عني، وأنا مضطر بعد هذه المعركة الكلامية ألا أخرج إلى البحر العريض، لا أريد أن أجاهد في وقت ينتظر فيه الإنكشاريون الاستيلاء على أرزاقي.

الورقة السادسة:

... عدت اليوم إلى داري بعد أسبوع قضيته في السجن، (سيسليا) تداوي الندوب التي أحدثتها سياط الإنكشاريين في ظهري. خافوا أن يقتلوني لأن رجال البحر من رفاقي وسكان المحروسة وأرباضها بدأوا يفصحون عن غيظهم. قال لي قائد الإنكشاريين: ينبغي أن تضبط لسانك يا هذا. أجبته بأن الله خلقني خلقاً مفرداً وعلي أن أفكر وأستعمل لساني ضد أي شيء لا يروقني. تعجّب من إجابتي هذه وتساءل قائلاً: كيف لا يقنع شخص مثلك بأسباب العيش التي يوفّرها له الداي? انصرفت عنه وهو يلوك لسانه غيظاً.

ريح سبتمبر رائقة هذه الأيام، وقد انطلق الرفاق في البحر العريض وتخلّفت عنهم. أحمد الله على أن (سيسليا) ليست وراء تخلفي هذا. أنا لا أريد أن أفسح في المجال للإنكشاريين لكي يطلقوا العنان لأهوائهم. أمس بقر أحدهم فتاة لم تنصع له. وأشيع عنه اليوم أن الداي أمر بقتله درءاً لانتشار مثل هذه الفضيحة وسط أعوانه. كذّابون.. أفّاقون!... أنا أعلم أن هذا الإنكشاري في طريقه الآن إلى ميناء من موانئ البحر المتوسط كي يقضي به وقتاً ممتعاً بعيداً عن كل التقوّلات.

الورقة السابعة:

... لست أفهم شيئاً من أمر المعاهدة بيننا وبين الدولة الجديدة التي نشأت وراء بحر الظلمات. لقد تحارب أبناء هذه الدولة مع الإنجليز وانتصروا عليهم. الأخبار تقول إن قائدهم جورج واشنطن رجل عظيم، لكنني عاجز عن فهم السر وراء هذه المعاهدة. وأنا مطالب بفهم كل ما تصطخب به أرض المحروسة. فقد صرت وكيلاً لرجال البحر خلال الأسبوع الفائت. جرى تعييني في جفنة خير الدين، فاستاء وكيل الخرج لكنه لم يقل شيئاً. أنا الآن في موقع قوة، وعلي أن أستفسر من الداي نفسه عن سر المعاهدة، الرفاق يقولون إنها ستقف حاجزاً بيننا وبين الغنائم القادمة من وراء بحر الظلمات. وأنا أوافقهم كل الموافقة.

الداي رجل خرف مهذار، بلغ من الكبر عتيّاً، سألته اليوم بحضور وكيل الخرج عن أسباب المعاهدة، فأجابني الوكيل نيابة عنه بأن الداي رأس الأمة، ينفرد بالرأي كيفما شاء، اشتعلت عينا الداي وعادت إليه قواه العقلية حين قلت: إن رجال البحر هم الذين يصنعون تاريخ الجزائر المحروسة، وأن عليه أن يستشيرهم في كل صغيرة وكبيرة. وتبادل وكيل الخرج نظرات ذات مغزى مع سيده ثم قال: إن المعاهدة ستمكّننا من الحصول على سفن سريعة مزوّدة بمدافع قوية. لكنني لم أصدق كلامه. عندما خرجت من قصره تبعني عدد من الإنكشاريين، فأدركت أنهم يريدون الفتك بي. دُهشت حين جابهني أحدهم قائلاً:

- نحن نريد الانضمام إليك..

أمسكت بمقبض سيفي وتأهبت للدفاع عن نفسي:

- الإنكشاريون لا يمثلون الأمة. إنهم يمثلون السلطة، وسلطتكم فرضت بالقوة.

ومضيت عبر دروب القصبة وأنا واثق كل الوثوق من أنها لعبة من وكيل الخرج.

الورقة الثامنة:

... أنا لم أخرج إلى البحر العريض منذ وقت طويل، اضطررت لبيع عدد من النفائس والأحجار الكريمة. عندما بلغ أمري مسامع الداي، استدعاني إليه، فأدركت أنه يريد استدراجي. لم أمكث عنده وقتاً طويلاً، وعدني بأن يؤمرني على سفينة من سفنه، فتذرّعت بأن البحر لم يعد مصدر رزقي.

العديد من الإنكشاريين تخلّوا عن أزيائهم الرسمية وانتشروا هنا وهناك لكي يتسقطوا الأخبار. مدينة الجزائر المحروسة تتأجج نقمة وغيظاً هذه الأيام، سفن الإنجليز ترابط على بضعة فراسخ بحرية من سواحلنا. والداي لا يتحرك إلا لكي يرفع الضرائب. تُرى، أهي نهايتنا هي التي قربت؟ أم تراها نهاية الداي وجماعته من رجال الإنكشارية؟

حرّاس برج تمانفوست أبحروا صباح اليوم. سفينة إنجليزية ذات مدافع عدة تعبر البحر صوب الغرب، مَن يدري، قد تعود في قلب الليل وتمطرنا وابلاً من القذائف المحرقة، لولا أنني أحب القصبة ومَن فيها، لتمنيت أن تتقاطر القذائف على قصر الداي. ولكن، وا أسفاه! قلبي يحدّثني بأنها لن تنال قصره. التاريخ أثبت هذه الحقيقة، كل القذائف التي صوّبها المحاصرون نحو قصره لم تقع في نهاية الأمر إلا على بعض المساكن والحواري.

السيف هو الذي ينبغي أن ينهال على رقبة الداي. أما القذائف فلن تضره في شيء، وحتى وإن حدث المستحيل، فإنه سينهض في اليوم التالي ويصدر (فرمانا) برفع الضرائب لتدارك خزينته التي نهبها الإنكشاريون.

الورقة التاسعة:

... اليوم مات الداي، واعتلى العرش مكانه داي آخر. كلهم يتشابهون فيما بينهم فكراً وسلوكاً، الأصحاب يقولون لي: كن حذراً يا دحمان، فأنت على رأس القائمة السوداء، إنهم لا يفرّقون بينك وبين أي شخص آخر.

أنا أحب الجزائر المحروسة على طريقتي. أما الانفراد بالرأي، فإنني محوته من ذهني منذ زمن بعيد جداً.

لكم أحبّ الآن الخروج إلى ما وراء جبل طارق. المسئولية التي أضطلع بها عرقلت تحرّكاتي لكنها أراحت ضميري. أنتظر عودة السفن والأشرعة إلى جفنة (خير الدين) لأوزع الغنائم بالتساوي بين أهل البحر. وكيل الخرج يكاد يموت من الغيظ، أمس لفت الحرّاس انتباهي إلى أن جماعة من الإنكشاريين يقتفون خطواتي أنى وليت، يجب علي أن أقضي عليهم بطريقة ذكية. لابد من إعمال السيف فيهم، حياتنا السياسية هي التي تفرض اللجوء إلى القوة.

وضعت (سيسليا) مولوداً صباح اليوم، لم أختر اسم هذا القادم الجديد. البحر هو الذي سيختار اسمه. قررت أن أطلق عليه اسم قائد أول سفينة تعود إلى إمارة البحر تيمّناً بكل مَن يتحرك في عرض البحر ويصنع تاريخ هذه المحروسة.

الورقة العاشرة:

... ارتكب هذا الداي الجديد جريمة تاريخية لا تُغتفر، أمر بمد يد المساعدة إلى الفرنسيين، فشحن عدداً من السفن بالحبوب، لم يستشر أحداً، لولا أنني أحترم سمعة المحروسة لأمرت رجال البحر باعتراض هذه السفن وتوجيهها إلى بني جلدتنا هنا وهناك، زعم الداي أن فرنسا تحمينا من أطماع الإنجليز. فالعداوة القائمة بين هذين البلدين تفتح دوننا المجال للتحرّك على هوانا في أنحاء البحر المتوسط وفي بحر الظلمات على حد سواء. لكنني أرى أن إنجلترا وفرنسا شقيقتان تتصارعان يوماً وتتحابّان دهراً طويلا. وكل شيء يتم على حسابنا نحن.

أوّاه من غطرسة الداي وتفنجه. يقول كلاماً وإذا بأفعاله تعاكس أقواله. يظن أن الحيلة تنطلي عليّ أنا وعلى غيري من أبناء البلد عندما يستشهد بآيات من القرآن الكريم. إنه يستخدم القرآن لقضاء مآربه ليس إلا. الرعاش يصيبني حين أسمعه يزوّق حديثه بصور من بطولاتنا في عرض البحر. غير أنني أعلل نفسي بأن الإنكشاريين أنفسهم غير راضين عنه. لقد عزل الكثير منهم، وقطع رءوسهم، ونفى العشرات منهم أيضاً إلى موانئ البحر المتوسط.

حبائل السياسة لا فكاك منها.

الورقة الحادية عشرة:

لقي الداي مصرعه خلال الأسبوع الماضي، لم نعلم بموته إلا حين رأينا الداي الجديد يتفقّد أبراج المحروسة ويأمر بوضع مدافع قوية بعيدة المدى مكان المدافع القديمة، الإنكشاريون الذين كانوا يقومون على حراسته هم الذين قضوا على الداي. خنقوه خنقاً في غرفة إحدى محظياته.

أنا على موعد مع الداي الجديد. استدعاني إلى قصره. أعترف أنني صرت أخشى الدخول إلى القصر، فقد لا أخرج منه حيّاً ذات يوم. إنني أتخذ كل حيطتي وأعتذر عن تلبية الدعوات الليلية. ولا ألج القصر إلا في وضح النهار وتحت أنظار العديد من رجال البحر ومن أبناء الجزائر المحروسة حتى يكونوا شهوداً قاطعين على دخولي إليه.

تردد أن خزينة الداي فارغة، وأنه في حاجة إلى المال لترضية بعض الإنكشاريين. وفهمت من دعوته لي أنه قد يترجّاني للتوسّط لدى رجال البحر حتى تكون حصة الخزينة من الغنائم أكثر ارتفاعاً مما هي عليه في المعتاد. أنا حائر، وعلي أن أتدبّر حيلة للخروج من هذا المأزق. الداي هو الداي لأن كرسي الحكم يظل هو الكرسي، ومن ثم ينبغي أن أوصد الأبواب أمام أي مناورة لإذكاء نار الفتنة بين الإنكشاريين ورجال البحر وأهل البلد.

الورقة الثانية عشرة:

أشعر بمغص شديد بعد أن عدت من قصر الداي، لم أمسك نفسي عن عناقيد الأصداف والقشريات البحرية التي قدمت لي بالليمون والزعيترة. لم يتناول الداي إلا القليل من بعض الحلويات التركية. تشاغل بالحديث عن الأمم التي صارت تهدد المحروسة. وتأسف على إفلاس خزينته. لم أفهم سبب لباقته وكياسته. لعلني اغتررت بحديثه. أنا لم أعده وعداً قاطعاً. عندما ورد ذكر الجزائر المحروسة على لسانه وما يتهددها من أخطار، نسيت استبداد الدايات وغطرسة الإنكشاريين. انتظرت منه أن يصدر لي أمراً على غرار الدايات الأوائل، لكن عينيه التمعتا بشيء غريب ما أظنه ينطوي على خير. لقد وقفت في وجه العديد من الدايات ووكلاء الخرج بسبب انفرادهم بالرأي. وهاهو هذا الداي الأمرد الذي اعتلى العرش على أكتاف رجال الإنكشارية يستخدم الخيلة للإيقاع بي.

أنا مضطر للتوقف عن الكتابة، فالمغص قد تحوّل إلى مسامير حادّة في كامل معدتي، سأطلب من (سيسليا) أن تعد لي شراباً من النعناع المنقوع، لم أعد أحتمل هذا الألم، أخشى الآن أن يكون الداي قد وضع لي السمّ في عناقيد الأصداف والقشريات، ما كان أغباني حين قبلت الجلوس إلى مائدته، الآن، أفهم سبب دماثته وحسن معاملته لي.

ذلكم ما ورد في أوراق القرصان.

مرزاق بقطاش مجلة العربي سبتمبر 2000

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016