الغريب أن هذه هي المرة الأولى، بعد ثلاثين سنة من الغياب تصل فيها إلى القرية قبل العيد بيوم مدينة ملاه كاملة، تجرها سيارتا شحن زرقا وإن ساحرتان، ويرافقهما خمسة رجال طوال القامة، سمر تفوح منهم روائح السفر، وثلاث نساء لهن ملامح قرباطية دافئة ملتفات بثياب مزهرة، موشاة بالقصب. وقد اخترقت القرية برمتها في الدائرة البيضوية التي يرسمها الطريق الرئيسي فيها، جامعة وراءها الصبيان حفاة، عراة صارخين كالثعالب، وهم يتأملون المدينة المؤلفة من قلاب، ومراجيح منوعة وقردين ناريين، جعلا حشود الأطفال المروعين بالسحر النادر الذي نزل بأرضهم هذا المساء، مباغتين مذهولين.
نعس أحدهما- وربما كان يمثل- فأوكفأ إلى صدره وأغفى. ثم أفاق فجأة، وأدار قفاه البنفسجي لهم. فترنحوا مقهقهين، وحين أوشكت العربتان العتيقتان على الوصول إلى السور القديم تعلق الأطفال بهما، وقد سقط محمود بن جادو، وتهشم وجهه، وسحجت يداه، غير أنه واصل ركضه، خالطا الضحك بالبكاء، تقوده لهفة الاستطلاع، ويمسه اضطرام المكان بالحضور العارم للمدينة الذائبة في الجمال "تعالوا في الصباح! " هكذا قال لها شاب ضامر طويل الذقن وهو يحاول إبعادهم، لكن أحد القردين ألم يعرفوا إن كان هو الذي تناوم منذ قليل) أومأ لهم برأسه، وتثاءب، ومد لسانه في قفا الرجل، فعلا صراخ ا لأطفال، وزعيقهم، وهرجهم، وصاروا يركضون حول الدائرة الغامضة التي أسرتهم، ثم قعدوا قبالة المدينة، وهم يتفرجون على طقوس الاستعداد لنهار الغد. حتى اضطر الشاب لطردهم، وهو يشتمهم: "شياطين! كلاب! " ففعل القرد مثله، عندها جن الأطفال وتاهوا فرحا.
الغريب أكثر، أنهم في الصباح لم يجدوا شيئا، رحلت المدينة ومحت الأمطار التي هطلت بغزارة كل آثارها، وقد حلف جادو وحسان أبو شارب أنهما ظلا مستيقظين طوال الليل، يحرسان الخيمة المزركشة، وينتظران الصباح- دون أن يهجعا- من نافذة غرفتهما. لكن هل ناما؟ هل سطا عليهما النعاس في ساعات الفجر، فأغفيا، واختفت المدينة؟.
اختفت تاركة الأولاد مصفدين بالحزن، وأطفأت ترانيم الفرح التي انبثقت في أعماقهم، فناءوا بهذا الهشيم. ماذا سيتذكرون من هذا العيد؟ يا رب العالمين! هل رأيتم الرجل العملاق الواقف على الحافات؟ كل عضلة من عضلاته تقلبك، وتقلب أباك يا محسن العلي! "والقرود!! " إبراهيم يقول ما لا يمكن تصديقه، فالحليق الشعر يقلد العجائز، ويخبز كالنساء، ويدخن. ثم إن القرد الثاني يسقي الحاضرين، ويرقص، وينفذ الرغبات، ويجلس إلى المائدة، ويأكل كالأمراء، ولا بد أنه يثرثر وهو يتلفع بعباءة كالرجال.
وماذا تقولون عن النساء اللواتي تجرأن، وأبدين ترحيبا خفيا بقاسم الكايد الذي أرسل نحوهن سهام غرامه
"لكن هذا كله كلام سامق يمكن سماعه، لكنه لم يوجد" هكذا قال أولئك الذين لم يروا المدينة.
عندها اندفع الذين رأوها، إلى اللغة، يغترفون منها فضائل الفوز الذي استأثروا به "رائعة! " "مثل الخيال! " "يا الله!"
وقد حرض التمجيد بضعة فتيان للذهاب إلى القرى المجاورة بحثا عن المدينة المختفية، ممتلئين بالآمال في اللحاق بالسحر الراحل. هل سيجدونها؟.
أما الغيوم الواطئة فقد أسدلت ستارا غامضا على الرحيل الملتوي وجعل البرد يشتد، واندفعت سيول المياه التي خلفها المطر في أقنية حفرتها في الصخر. لكن الأولاد دخلوا في العيد يجرجرون شوقهم وحكاياتهم المضخمة بالأسى واللهفة إلى ضائع حبيب حتى إذا تبددت الغيوم عند الضحى أيقنوا أن المدينة كذبة، سراب دارس ذراه البرد، وأذابت حقيقته الأمطار.
شخص ما تساءل: إذا لم تأت المدينة فعلا، وإذا كانت الأحاديث عنها خيالا، أو أنقاض كلمات، فماذا يمكن أن نقول عن مهرجان الأمس؟ رؤيا!، أم صورة مفككة لأمنيات سطت على عقول الأطفال! كيف بزغت الفكرة؟ ما الذي يعنيه هذا الإشراق الرابض في الحيطان الموشحة بانبثاقات مدهشة "كان يشير إلى تلك الكتابات المتقدة والصور المنداة بألوان الرمان "؟ فقال ضامن الخليل "وهو حرباء لعينة": صحيح. ومن أين جاء الأولاد بفكرة المدينة؟ كيف استطاعوا أن يرسوا وجودها في ذاكرة القرية (وقد نقض ضامن كلامه فيما بعد مرات كثيرة يوم حلف أته رأى القرباط بعينيه وهم يخيمون قرب السور الغربي. وسمعهم وهم يثبتون الأوتاد ويشدون الأطناب ويلغطون بلغة غريبة كالنحاس). أما علي الحداد، فقد ضحك حتى الكلب على قفاه. وهو يقول: "كذابون! " وصف الأولاد بلا تردد، وهم يحدقون فيه. لأن علي هذا، كثيف وحوشي كدغل، يثني ذراعه، ويشير بإصبعه ويحكى: "شوف! يوم السفر بر لك، ستي صادت الضبع! "أو: "شوف مرة أخذنا حمل قمح ورحنا إلى الجولان، طلع لنا قطاع الطرق " ومن أين يأتي بكل تلك التفاصيل الرحبة المتلألئة كالعناقيد؟ كيف يمضي بعيدا، ثم يئوب سالما معافى لا تقتله الطلقات أو السيوف أو الخناجر أو العصي؟! لا أحد يعلم. لكنه لم يرض برواية الأولاد. لقد أهلكوه، وملئوه بالضغينة والهم، حين عجز عن تخيل جمال المدينة الموصوفة بسحر خارق وما أتيحت له الفرصة كي يعرف هل جاءت أم لا؟ وحين حاول سؤالهم لم يعبئوا به، لأنهم صاروا يحشدون قواهم، ويجمعون من تراخى أو تقاعس، تحفزهم غواية الأمل الذي حملته كلمات الشاب القرباطي طويل الذقن: "تعالوا في الصباح! "
اندفعوا في الأزقة يحملون الأعلام "وقد صنعوها من قمصان وحفاضات أطفال، ووسائد ملونة" لا تهمهم طراطيش الوحل التي رشتهم بها المستنقعات الصغيرة، مخربشين على الحيطان كتابات غامضة في احتفال ملون وصفه أبوداود في قصيدته التي كتبها بأنه (ورد وقمح حامت عليه العصافير).
كانت صورة موفقة، فرح بها، فالأولاد كانوا يترنحون، وهم يدومون كالطيور في انتظار المدينة، مخفورين برغبة الحمام، وقد شيعهم أهلهم مفعمين بأمل أخضر في عودة الراحلين الذين اختفت أخبارهم أيضا. تضاربت أقوال أهل القرى المجاورة عنهم، ولم يؤكد وجودهم من الكبار سوى أبناء الحسن (الذين يعرف الناس كلهم خيالهم الرخيص المحتشد بحضور شائه للكذب).
لكن روايتهم كانت دقيقة على نحو مدهش، وقد وصفوا لون القردين وشكل السيارات، وطلعة الرجال الخمسة، بتفصيل رصين لا يخلقه أي خيال. فكانت مؤازرة حصيفة زادت تفكير الأطفال طوفانا، فاندفعوا مرة أخرى يدندنون ترانيم جديدة اخترعوها، وأماديح اقتلعوها من أغاني العيد، فقال سالم وهو مقرفص على حافة البركة القديمة ينظر في الماء: إنهم مثل الضفادع تماما! فقال له الناس: "الله لا يعطيك العافية" حين لم يعجب التشبيه أحداً، وقد استنتجوا أنه قدم من تأثير الماء الآسن (الذي حركه المطر) ومن ارتخاء الرجل، وتعوده الخطر على الحافة الزلقة. ومع هذا فإنه قال: "شوفوا" فالأولاد لم يكفوا عن (نقيق الضفادع) وأضحوا الآن يغنون حول محاطب الجلة وا لأوراق، بعد أن أنهكهم التجوال والبرد.
الغريب أنه لا أحد أمكنه أن يجبرهم على تكذيب كشفهم، وقد صنعوا لأنفسهم مدينة أخرى تناوبوا فيها العمل: "بعضهم صار حمارا، أو سائقا، أو حصانا، أو قردا أو عربة. وفي العشية، أحضروا كلسا، وطحينا، ثم شرعوا ينقشون على الجدران مدينة ملاه وضعوا فيها رجلا يقود كلبا، وقرودا بنفسجية وخيمة، ثم رسموا عربات متخيلة، وأشرطة زينات، ملئوها باللون الوحيد الذي استطاعوا تدبيره من خليط غير متقن لقشر الرمان والزعفران، ورواقا عجيبا راحت تجوس فيه أشكال فاصلة لأطفال متلهفين عاشقين. وهم يأملون أن المدينة سوف تعود يوما، حاملة على متنها قرودا أخرى، وسعادين، وراقصات، ورجالا زرق، وشبانا بشوارب، وسائقين شامخين، وعمالقة، وأعلاما، ومراجيح، ودواليب، وطبولا من جميع القياسات، ودفوفا، ومغنين، ونايات، و...، و.....