من المتوقع أن يصل عدد سكان الوطن العربي إلى 300 مليون نسمة ويعتبر معدل النمو السكاني العربي (3% سنويا) من أعلى المعدلات في العالم في الوقت الذي يواصل فيه الناتج العربي انخفاضه، وقد بدا ذلك واضحا في تدهور مستويات المعيشة وعدم زيادة فرص العمل..وهذا هو التحدي الذي يوضع أمام العرب.
على الرغم من أن عدد سكان الوطن العري لا يزيد على أربعة في المائة من سكان العالم البالغ 6، 5 بليون نسمة، إلا أن معدل النمو السكاني المشار إليه آ نفا سوف يرفع من أعداد العرب في هذا العالم خلال السنوات القادمة، ويرفع من نسبتهم إلى إجمالي سكان العالم إذا استمرت تلك المعدلات على مستوياتها. وتعتبر معدلات الخصوبة في الدول العربية عالية مقارنة بالمستويات السائدة في دول أخرى سواء كانت صناعية أم نامية، حيث يبلغ معدل عدد المواليد للمرأة الواحدة على المستوى العالمي 48. 3 بينما لا يزال المعدل في البلدان العربية يساوي ستة مواليد للمرأة. بيد أن هناك علامات واضحة تدل على نجاح بعض برامج تنظيم النسل في عدد من البلدان العربية وقد لقيت الحكومة المصرية تقديرا وشكرا على جهودها الناجحة في تنظيم النسل حيث تراجعت نسبة النمو الطبيعي للسكان إلى 3.2 في المائة خلال السنوات الأخيرة، وهناك بلدان عربية أخرى تسير في خطى جيدة باتجاه الحد من النمو الطبيعي للسكان مثل المغرب وتونس..من الطبيعي أن النتائج الحقيقية لهذه التطورات الإيجابية لن تكون واضحة إلا بعد مرور زمن طويل حيث ستبرز الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية.
لكن الحوار الذي يدور في أروقة المؤسسات العربية وعلى صفحات الصحف لا يرقى إلى أمية قضية السكان وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية، هناك من يقول إنه يجب عدم وضع ضوابط للنمو السكاني بحجة أن التركيز على التنمية سيحفز البشر على ضبط إيقاع التكاثر الطبيعي. ليس هناك من غبار على وجهة النظر هذه، حيث إنه ثبت أن التطورات الديمغرافية التي حدثت في أوربا وعدد آ خر من الدول الصناعية جاءت نتيجة للتحولات التي حدثت بسبب الثورة الصناعية، لكن هذه التطورات حدثت على مدى قرن أو أكثر من الزمن، ولا يمكن أن ننتظر هذه المدة من الزمن لكي نجني الثمار على الصعيد الديمغرافي. يضاف إلى ذلك أن المعالجة يجب أن تتوجه للتنمية وتنظيم النسل في آن، بعد أن اتضح أن النمو السكاني غير المنضبط يعطل مشاريع التنمية بشكل واضح.
من أهم الظواهر السلبية التي نتجت عن الزيادة السكانية الكبيرة في العديد من الدول العربية أن تزايدت أعداد المهاجرين من الريف إلى المدينة، وبذلك نضب معين القوى البشرية القادرة على العمل في قطاع الزراعة. ولذلك تعطلت فرص زيادة الإنتاج الزراعي في الوقت الذي تزيد فيه الأفواه الباحثة عن الطعام. وقد أدى التراجع في الإنتاج الزراعي إلى زيادة الاعتماد على استيراد السلع الغذائية من الخارج.. واستنادا إلى التقرير الاقتصادي العري الموحد لعام 1992 فإن قيمة واردات السلع الغذائية عام 1990 قد بلغت 18 بليون دينار تمثل الحبوب منها نسبة 35 في المائة، وتأتي الألبان في المركز الثاني، والخضر والفواكه في المركز الثالث، والسكر في المرتبة الرابعة وبعد ذلك تأتي الزيوت النباتية والحيوانية، واللحوم، وا لشاي والقهوة وغيرها.. و لا شك أن قيمة وكمية المستوردات من السلع الغذائية كان يمكن أن تنخفض لو بذلت جهود كبيرة في الإنتاج الزراعي.. ومما يفاقم من الأزمة أن الأعداد الكبيرة المهاجرة إلى المدن تزيد من أعداد المستهلكين لهذه المواد الغذائية دون أن يساهموا في إحلال بدائل للمستوردات.
إشكاليات التراث والقيم
هناك اعتبارات تراثية وقيمية في الوطن العربي تحبذ زيادة الأولاد وتسلم بأن رزقهم يأتي معهم، ولذلك حارب أصحاب هذه المعتقدات والقيم كل محاولات وإجراءات تحديد النسل في أكثر من دولة عربية. إلا أن التطورات في العالم وزيادة اهتمام منظمات الأمم المتحدة دفعت العديد من علماء الدين إلى تبني مفاهيم عصرية ووافق- الكثير منهم على الترخيص لتنظيم الأسرة، وأن عارض هؤلاء عمليات الإجهاض المقصودة.. وحتى في الإجهاض فإن هناك بعض الفقهاء الذين يوافقون على القيام به في حالة تعرض الأم الحامل لأخطار تهدد حياتها نتيجة لذلك الحمل. لكن التخلف الاجتماعي وقصور التحصيل التعليمي مازالا يهددان برامج تنظيم الأسرة في العديد من الدول العربية، بل أبعد من ذلك أن هناك المتعلمين والذين حصلوا على شهادات جامعية عليا ممن يعتقدون بضرورة إنجاب أعداد كبيرة من الأبناء، وخصوصا في الدول الخليجية التي تتمتع بمستويات معيشية مناسبة. لكن هؤلاء لا يأخذون بعين الاعتبار أن مقياس القوة والمنعة ليس في الأعداد ولكن في كفاءة الأجيال الجديدة وقدرتها على تحصيل العلم والمعرفة ومواكبة الحياة العصرية.. وقد لا يقتنع الكثيرون بأن زيادة الإنجاب في الدول الخليجية من أهم عناصر اختلالات التركيبة السكانية في هذه البلدان نظرا لتنامي احتياجات الخدمات التي تزداد بازدياد أعداد المواليد، مما يؤدي إلى الطلب على العمالة الوافدة، لكن هذه الحقيقة المرة مثبتة إحصائيا وعلميا..
مما يساهم في تزايد أعداد البشر في الدول العربية ظاهرة الزواج المبكر، حيث تحرص العائلات وتضغط المجتمعات التقليدية على زواج الأبناء وهم في أعمار قد لا تؤهل لإدارة حياة زوجية معقولة، ويندفع هؤلاء الأزواج الصغار إلى إنجاب أطفال وهم في أعمار لا تمكنهم من تربية الأبناء بطريقة تفيدهم وتفيد مجتمعاتهم وأوطانهم.. ومن الطبيعي أن هذه الظاهرة آخذة في التراجع خصوصا في المجتمعات المدنية، وفي البلدان العربية أكثر تطورا والتي ترتفع فيها أعداد المؤهلين تعليميا. كذلك فإن تراجع مستويات المعيشة في مجتمعات المدن وبين السكان المتعلمين وتقلص فرص العمل دفعت الكثير من الشباب إلى العزوف عن الزواج. هناك عوامل أخرى تدفع إلى تأخير سن الزواج في بعض الدول العربية مثل ارتفاع قيمة المهور، والشره الاستهلاكي الذي يضغط على الراغبين في الزواج ويحطم إمكاناتهم المالية.. ويعجز الكثير من الذين يدخلون سوق العمل عن تحقيق طموحات تكوين أسر بسبب الضغوطات الاقتصادية، فهم لا يملكون ما يكفي لاقتناء أو استئجار سكن مناسب. وعلى الرغم من أن هذه العوامل تعطل الزواج ثم الإنجاب، إلا أنها لا تمنع الجميع- هـان كانت إمكانات الغالبية متواضعة- من الزواج. هناك من يتزوج وهو في حالة معيشية صعبة ويعيش عالة على أسرته وأبويه، وبعد أن ينجب يضغط على إمكاناته وإمكانات أسرته، وأهم من ذلك إمكانات المجتمع. بيد أنه يمكن القول إن الأوضاع الاقتصادية الصعبة سوف تنعكس على معدلات الإنجاب ومن ثم ينجم عن ذلك تراجع في معدلات النمو الطبيعية في العديد من الدول العربية.
الموقف من المرأة
تظل قضية الموقف من المرأة في المجتمعات العربية من أهم العوامل المعطلة للتنمية والتطور. حتى هذه اللحظة لا تزال المرأة معطلة القدرات والمساهمة في العديد من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، بل إن السنوات الأخيرة شهدت تدهورا واضحا في المواقف السياسية تجاه المرأة، وامتد الأمر إلى قيام العديد من المنشآت باقتصار التوظيف على الرجال. وعلى الرغم من أن تطور أنظمة التعليم دفع النساء إلى التحصيل العلمي وتحسين قدراتهن المهنية والعملية إلا أن المشاركة في النشاط الاقتصادي مازالت قاصرة ومحدودة. ومما لا شك فيه أن قبوع معظم النساء في بيوتهن لا يؤدي إلى الحد من النسل، حيث تتولد لديهن الرغبة في زيادة الإنجاب وتربية الأبناء دون الشعور بالحاجة إلى ضرورة تقليص أعداد هؤلاء الأبناء لمواجهة متطلبات الحياة. ولقد أثبت التطور في العالم الصناعي أن المرأة العاملة تفضل عددا أقل من الأبناء، لكي تستطيع أن تحسن من إمكاناتها ودورها في الحياة العملية، ولكي تستطيع بذل الجهد والمال المناسبين على تعليم العدد المحدود من الأبناء.
من جانب آخر لا يقتصر الموقف السلبي من المرأة في المجتمعات العربية على تحجيم دورها في النشاط الاقتصادي، بل يمتد إلى التقليل من أهمية مشاركتها السياسية حيث لا تزال العديد من الدول العربية لا تسمح للنساء بممارسة حقوق الانتخاب والترشيح للمجالس التشريعية وغيرها أو لتقلد مناصب قيادية في بلدانهن.. ومن الطبيعي والحالة هذه فإن قدرة النساء على تحسين مكانتهن الاجتماعية والاقتصادية تظل محدودة ومرهونة برغبات وموافقات الرجال. كما أن الدول العربية التي منحت النساء حقوقهن السياسية تشهد جزرا في المواقف السياسية والمتعلقة بحقوق النساء، ولا تؤثر النساء في تكوين القرارات السياسية بشكل كبير. ويشهد على هذا الاستنتاج التطورات الصعبة في مصر والجزائر والسودان واليمن.
أما على الصعيد الأسري والمجتمعي فإن المرأة العربية أقل نساء العالم حقوقا، فهي تعاني من طغيان الرجال في الحياة الأسرية، وأحيانا لا يحترم حق المرأة في اختيار الشريك المناسب في الزواج وتتسلط التقاليد على الحقوق المشروعة للمرأة، حتى تلك الحقوق التي وفرها الدين الإسلامي الحنيف.. ويمتد التعسف لحقوق الإنجاب وتنظيم الأسرة حتى لو كان الإنجاب يؤثر في الصحة الطبيعية للمرأة.. وغني عن البيان أن رخصة تعدد الزوجات تستخدم بأساليب متعسفة من الرجال دون التقيد بشروط الدين.. وفي هذا المجال فإن الدول العربية مهما تفاوتت التطورات الاجتماعية فيها تؤثر حقوق الرجل على التزاماته تجاه زوجته وأم أولاده ولا تضع قيودا على مسألة اقترانه بزوجة أخرى أو أكثر من أخرى.
وفي ظل هذه الوضعية للمرأة فإن إمكانية المرأة- ونعني هنا أغلب النساء في الوطن العربي- على تحديد النسل مرهونة بموافقة الرجل. ومن المتوقع أن تتداخل المؤثرات الثقافية والتراثية والاجتماعية لدفع المرأة لإنجاب أكبر عدد من الأبناء اعتقادا بأن ذلك سيؤدي إلى استقرار الحياة العائلية أو ضمان حقوق أكبر للمرأة.
تحديات اقتصادية واجتماعية
بعد استعراض المكونات الثقافية والقيمية والتراثية التي تشجع على التناسل وزيادة الإنجاب ما هي طبيعة المعضلات الاجتماعية والاقتصادية الراهنة والمتوقعة خلال المتبقي من هذا العقد؟
قد تكون وتائر التنمية متخلفة عن الاحتياجات الحقيقية للمواطنين في أغلب الدول العربية، كما قد تكون الموارد الاقتصادية عاجزة عن الإيفاء بالاحتياجات الأساسية للمجتمعات العربية، أو تكون إدارة تلك الموارد لا تتوافق مع الالتزامات الفعلية مثل هدر الموارد على بناء جيوش أو اقتناء أسلحة ومعدات عسكرية أو الدخول في مغامرات وحروب أو نزاعات محلية وإقليمية، أو على الأقل الاستخدام السفيه لتلك الموارد على الاستهلاك الترفي للطبقات الحاكمة.
بيد أنه ما من شك في أن تزايد أعداد السكان قد يعقد عملية التنمية، مهما حسنت النيات وتوافرت الإدارات السياسية والاقتصادية المناسبة.. وفي ظل أحسن الإدارات ربما لا يمكن تحقيق تنمية مناسبة في ظل انفجار سكاني، كما أن عملية التنمية في عصرنا الراهن تستلزم تنظيما دقيقا للمجتمع ومن عناصر ذلك التنظيم تحقيق نمو سكاني متناغم مع القدرات الحقيقية على النمو
ومع تفاقم الأزمات الاقتصادية برزت معضلة البطالة في أكثر من بلد عربي، بل إن المرء يمكن أن يقول إن هذه الأزمة تكاد تخنق شتى المجتمعات العربية سواء في الوقت الراهن أو في المستقبل القريب. أو عندما تجرى دراسات ديمغرافية للتركيب العمري للسكان في الدول العربية فالق ن!سبة عالية.. هناك ما يقل عن 45 في المائة من السكان تقل أعمارهم عن 15 عاما، وإذا ارتفعنا بالأعمار إلى سن الخامسة والعشرين فمان نسبة من تقل أعمارهم عن هذه السن تبلغ ما يقارب من سبعين في المائة.. ولا بد أن نسبة جيدة من هؤلاء الشباب قد تكون دخلت سوق العمل وتبحث عن فرص عمل تتناسب مع طموحاتها وإمكاناتها العلمية والمهنية، وفي ظل التخلف الاقتصادي وعدم ترشيد استخدام الموارد فإن الكثير من هؤلاء الشباب ينخرطون في جيوش العاطلين عن العمل.. وتتفاوت نسب العاطلين من بلد عربي إلى آخر، وفي بعض البلدان تصل النسبة إلى عشرين في المائة من قوة العمل، وفي بلدان أخرى تصل إلى ثلاثين في المائة.
ولا تقتصر التحديات على مشكلة البطالة، ولكن هناك أيضا قصور إمكانات التعليم والعلاج في ظل تراجع المداخيل الحكومية، وتفاقم أزمة عجوزات الموازنات. فكيف يمكن للحكومات في الكثير من الدول العربية أن تواجه التزايد في المواليد وتوفر لهم العلاج الصحي والوقاية الصحية في غياب المستشفيات والمصحات وعناصر العلاج المتماشية مع أبسط احتياجات العصر؟ كذلك عندما يبلغ الأطفال السن التي لا بد من بعدها أن يلتحقوا بالمدارس الأساسية حيث لا تتوافر المدارس والكفاءات التعليمية التي تتناسب مع الاحتياجات، وإذا توافرت المدارس فإن كفاءة التعليم تكون متدنية إلى درجة كبيرة بحيث لا يؤسس التلاميذ والطلبة بشكل يؤهلهم لاستيعاب العلوم في مراحل التعليم اللاحقة.
هذه التحديات الاقتصادية والاجتماعية، هل يمكن أن يتم تجاوزها دون معالجة التزايد السكاني غير المنضبط؟ وإذا كانت التنمية والتطور يؤديان إلى ضبط التزايد السكاني، خلال زمن معقول ومنظور إذا لم تعالج الأزمة السكانية..؟ إن الاقتصاديين العرب وعددا آخر من المفكرين الذين يدعون إلى عدم تحدي مشاعر الناس وتركهم لاتخاذ قرارات الإنجاب والتزايد كما يحلو لهم، يطرحون مبدأ صحيحا، ولكن لأهداف مشبوهة. هناك في الوطن العربي نسبة عالية من السكان التي لا تعي النتائج الوخيمة لعدم ضبط الإنجاب، حيث إن هؤلاء لم يتلقوا تعليما مناسبا، أو أي تعليم على الإطلاق، كما أن العديد من هؤلاء لم يتعرضوا لحملات توعية مناسبة توضح لهم أهمية تحديد عدد الأبناء بما يتناسب مع إمكاناتهم المالية وقدراتهم على تعليم الأبناء وتحسين فرص المستقبل أمامهم. كما أن هيمنة العربية تجعل النساء دون رأي أو موقف من قضية التزايد السكاني.. وعندما تقرر المرأة أن تستفيد من برامج تحديد النسل فإن ذلك يحدث بعد اقتناع الزوج بأن ظروفه الاقتصادية لا تساعده على الاستمرار في الإنجاب وتحمل أعباء العديد من الأبناء.. ولكن على الرغم من حدوث تطورات إيجابية في مسائل تنظيم الأسرة في العديد من المجتمعات العربية، إلا أن هذه التطورات لا ترقى لحجم المعضلات والتحديات القادمة، كما أنها لا ترقى للتطورات في هذا المجال في بلدان نامية أخرى مثل دول أمريكا اللاتينية أو دول شبه القارة الهندية. إذن لا بد من الاستمرار في صناعة الوعي، والسير في خطين متوازيين هما زيادة وتائر التنمية بكل أبعادها، ودفع عمليات تنظيم الأس ة إلى مستويات متقدمة.
المستقبل واحتمالاته
هناك ربط في الوقت الحاضر بين النمو السكاني وقدرات البيئة الطبيعية على التحمل وتوفير إمكانات الحياة، ويربط عدد من العلماء بين هذا التزايد السكاني والتدهور في البيئة في العديد من البلدان.. ولا يقتصر الأمر على البلدان الفقيرة، فهناك، أيضا، سوء استخدام للبيئة في الدول الصناعية.. لكن الوضع في الدول العربية لا يسر المهتمين بشؤون البيئة، فقد استغلت أراض زراعية للاستخدام السكني نتيجة للهجرة من الريف إلى المدن وتحولت حقول زراعية بالقرب من المدن الرئيسية مثل القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت إلى مناطق سكن عشوائية، أو مدن صفيح أو عمارات سكنية عادية. وبعد أن كانت تلك الحقول تمد المدن بالخضر والفواكه أضحت بيئات سكنية غير كاملة المواصفات من حيث النظافة والشروط الصحية المناسبة، ولم تعد مناسبة للعطاء الزراعي.
إذن ماذا يحمل لنا المستقبل في ظل احتمالات الزيادات السكانية المتوقعة في جميع البلدان العربية..؟ لا شك أن السيناريوهات غير وردية وهناك إمكانات كبيرة لتخريب الأراضي الزراعية وتحويلها إلى أراض سكنية أو مبان ومكاتب أو مكار للمصانع.. كذلك فإن هذه الزيادة السكانية سوف تعقد مسألة الهجرة من الريف إلى المدن وتزيد من كثافة السكن في المدن وحولها، ولا يخفى أن هذه الاحتمالات ستؤدي إلى رفع تكاليف التعليم والعلاج، وتزيد من أعداد العاطلين عن العمل، وتفجر- أو بالأحرى تزيد من تفجر- الأوضاع الاجتماعية والسياسية.
ولا يمكن للمرء أن يكون متفائلا حيال هذه الأوضاع مادامت العقليات الفكرية والسياسية ترفض جميع المقترحات العملية الهادفة للحد من الزيادة السكانية بدعاوى عدم ملاءمتها للقيم والأخلاق أو عدم انسجامها مع التراث أو ببساطة لأنها قادمة من الغرب أو الشمال. وقد أبرزت الحوارات والمجادلات التي دارت قبل انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة حول السكان في القاهرة وخلاله وبعده أن العقل العربي قد أغلق تماما وأصبح لا يتعامل مع حقائق العصر بأسلوب مرن وديناميكي وأن مسألة السكان ستظل تراوح في مواقعها، وإن تحسنت الأحوال فإنها سوف تتحسن ببطء لا يتوافق مع الواقع الاقتصادي والأزمات الاجتماعية والسياسية.
وبناء على هذه الحقائق فمانه ليس من الغريب أن يصبح عدد سكان الوطن العرب أكثر من ثلاثمائة مليون نسمة، وأن تعجز العديد من الحكومات العربية عن مواجهة التزاماتها الوطنية، كما أنه ليس من الأمور غير القابلة للتصور أن تندفع بعض الحكومات إلى الأمام لمعالجة مشاكلها القطرية عن طريق محاولة التعدي على بلدان عربية مجاوزة أو التحرش جمها لإلهاء شعوبها.. وفي ظل عجز الموارد الطبيعية والاقتصادية، ومن أهمها موارد المياه، فإن إمكان قيام نزاعات إقليمية في هذه المناطق وبين البلدان العربية بعضها ضد البعض الآخر من الأمور المحتملة.. ولن يخفف من احتمالات النزاع إلا مواجهة المعضلة السكانية.