قبل أن أبدأ في كتابة هذا المقال، كنت قد انتهيت من إغلاق صفحة «الفيس بوك» الخاصة بي، لا لشيء يخص هذا المقال، بل بحكم العادة، التي لا أظنني الوحيد الذي أمارسها اليوم، بل ملايين من البشر في أرجاء العالم. وأظنني كلما سأتوقف للاستراحة أو استجماع الأفكار سأعود إليها. والمدهش أنني كنت قد ألغيت حسابي على الفيس بوك قبل نحو شهر لأجل غير مسمى، معلنا ذلك للأصدقاء، لإحساسي بأن وقت تصفحها بات يقضي على الكثير من الوقت المخصص للقراءة والكتابة والعمل، لكن وعدي ذاك لم يستمر لأكثر من أسبوع واحد عدت بعدها على استحياء.
أصبحت «الفيس بوك» اليوم ظاهرة، بفضل فكرة مبتكر هذه الشبكة الاجتماعية، مارك زوكربيرج، الذي أصبح أحد أصغر المليارديرات في التاريخ، بفضل الشبكة التي أصبح عدد مستخدميها في العالم يزيد على 500 مليون شخص، وهو ما منحها لقب «دولة الفيس بوك» في الكثير من الأدبيات التي تتناول ظواهر الشبكات الاجتماعية الافتراضية، باعتبار أنها تقرب بين البشر من أكثر من ثقافة في ارجاء العالم لتبادل الأخبار والتعليقات والحوار، وبث فقرات صحفية من مصادر متنوعة، والتعليق على الكثير من أحداث العالم السياسية والثقافية والفنية والاجتماعية.
وما أرغب في التوقف عنده في هذه الزاوية هو طبيعة تأثير الفيس بوك التي امتد تأثيرها إلى هوليود، ممثلا في إنتاجها أخيرا فيلما بعنوان «الشبكة الاجتماعية» يتناول القصة الحقيقية لمخترع «الفيس بوك» وأصدقائه، عبر سرد وقائع حياته، وطبيعة علاقاته بأصدقائه، وبعائلته، وصولا لتحقيق هذا الابتكار العالمي الذي اصبح ظاهرة غير مسبوقة في عالم الإنترنت.
وتدور أحداث الفيلم حول مارك الشاب المنطوي، الذي يهوى التكنولوجيا بمختلف أنواعها، واستطاع أن يصمم موقعًا للتواصل مع أصدقائه في الجامعة، وتنقلب حياته رأسا على عقب بعد أن يتحول الموقع لشبكة عالمية تضم أكثر من 500 مليون شخص، ويصبح من أثرياء العالم، بعدما كان يعيش في منزل متواضع لا يمتلك فيه جهاز تليفزيون، والفيلم مأخوذ من كتاب The Accidental Billionaires «أصحاب المليونيرات بالصدفة» للكاتب بين ميزرك.
وبالرغم من نجاح الفيلم وتصدره قائمة أعلى مبيعات فى ظل منافسة العديد من الأفلام لكبار نجوم هوليود، إلا أن «زاكربرج» مؤسس الفيس بوك قال في مقابلة مع مجلة «نيويوركر» نشرت عقب عرض الفيلم مباشرة إنه لا ينوي مشاهدة الفيلم الذي كتب نصه آرون سوركين مبتكر مسلسل «ذا ويست وينج» وأخرجه ديفيد فينشر صانع فيلم «فايت كلوب». لكن صحيفة «نيويورك تايمز» وغيرها أفادت بأن العاملين في فيس بوك بمن فيهم «زاكربرج» حضروا العرض الأول للفيلم في دار سينما بالقرب من مقر فيس بوك في مدينة بالو ألتو بولاية كاليفورنيا.
فن بناء الكراهية!
ومثل هذا الاهتمام العالمي بهذه الشبكة لا يعبر عن حجم تأثيرها فقط، بل وعن التوقعات المستقبلية لما يمكن أن تفرزه هذه الشبكة في المستقبل المنظور.
والسؤال الذي أجد نفسي مهتما بطرحه هنا هو الدور الذي يمكن أن تلعبه الشبكة الاجتماعية «فيس بوك» في موضوع الهوية وأوهامها، ومدى قدرتها على كسر ارتباط العنف بالهوية عبر ما نشاهده اليوم من صراعات تقوم على الفتن الطائفية والمذهبية في أرجاء العالم. وهنا أستدعي مقولة مهمة للكاتب والفيلسوف الهندي امارتا صن يقول فيها: «إن كثيرا من النزاعات والأعمال الوحشية في العالم تتغذى على وهم هوية متفردة لا اختيار فيها. وفن بناء الكراهية يأخذ شكل إثارة القوى السحرية لهوية مزعومة السيادة والهيمنة تحجب كل الانتماءات الأخرى، وعندما تعطي هذه الهوية شكلا ميالا للقتال يمكن أيضا أن تهزم اي تعاطف إنساني أو مشاعر شفقة فطرية قد تكون موجودة في نفوسنا بشكل طبيعي والنتيجة يمكن أن تكون عنفا عارما مصنوعا داخل الوطن. أو إرهابا وعنفا مراوغا ومدبرا على مستوى كوكبي».
وهذا هو حال العالم اليوم حين يثير الفتن مجموعات تدعم لدى أنصارها التعصب وإثارة لون من الإحساس بالأفضلية فيما يختص بالعقيدة أو المذهب أو الطائفة.
بداية يروق لي تأمل فكرة أن التعصب المذهبي يأتي من سيطرة إحساس يغذيه صانعو العنف المذهبي بتصغير انتماءات الفرد بحيث ينحصر انتماؤه في حلقة ضيقة جدا يتصور أنها كل عالمه وهو الانتماء المذهبي أو الطائفي، متناسيا أن اي شخص في الحقيقة له انتماءات عديدة جدا هي التي تشكل هويته الحقيقية، ومن هذه الانتماءات تفضيلاته اللغوية، والسياسية، وذوقه الفني، والطبقة التي ينتمي إليها، والموسيقى التي تعبر عن هويته وثقافته.
في كتاب «عنف الوهم» للكاتب الهندي المشار إليه سابقا أمارتا صن يدلل على هذه الفكرة بالقول إن البنغالي المسلم يجمعه مع الباكستتاني نفس الهوية الإسلامية، ومع ذلك فقد طالب بالانفصال، لأسباب تتعلق بتفضيلات أخرى يعتز بها مثل لغته البنغالية، وموسيقاه، وأدبه، إضافة للأسباب السياسية.
احترام الآخر
يتحدث العالم اليوم عبر وسائل الإعلام وعبر ملاحظات البشر، بل ويتحدث العالم عبر سلوكيات جماعاته في العديد من بقاع العالم شرقا وغربا عما يحب البعض أن يراه بأنه صحوة دينية، لكنه في واقع الأمر ليس إلا النتاج الطبيعي لتزايد الاعتماد على التصنيف القائم للبشر في العالم على الدين، وهو ما يجعل وفقا لصن- رد الفعل الأوربي على الصراع والإرهاب الكوكبي يحدث بطريقة تخلو من اي براعة. فاحترام «الناس الآخرين» يتم التعبير عنه بالثناء على كتبهم الدينية، بدلا من ملاحظة الأنشطة والإنجازات المتعددة الأوجه في مختلف المجالات الدينية وغير الدينية على السواء- لأناس مختلفين في عالم متفاعل على مستوى الكوكب. ففي مواجهة ما يطلق عليه «الإرهاب الإسلامي» في التعبيرات المشوشة لسياسات العولمة المعاصرة، فإن القوة الفكرية للسياسة الغربية، موجهة بشكل أساسي لمحاولة تعريف، أو إعادة تعريف، الإسلام. وهذا التركيز على التصنيف الديني الضخم وحده لا يعني فقط أن يفوت علينا الاهتمامات والأفكار الأخرى التي تحرك الناس، بل إن ذلك يؤدي أيضا إلى التضخيم بشكل عام من صوت السلطة الدينية.
والحقيقة أن موضوع الهوية موضوع مركب وبالغ التعقيد، على اعتبار أن الأشخاص بشكل عام تتراوح ميولهم بين التعبير عن هويتهم عبر الانخراط في جماعات تمثل الاشتراك الجماعي في سمة أو خاصية تحظى بالقبول وتعزز مكانة الفرد من انتمائه لهذه الجماعة التي قد تكون قبلية أو مقدسة، لكن المؤكد ان هذه الجماعة، أيا كانت طبيعتها، لا يمكن أن تمثل كامل هوية الفرد الذي ينتمي لها، والثابت أن الذين يقودون الفتن، أو يحرصون على تشديد ولاء شخص أو مجموعة أشخاص لجهة هوية بعينها يقومون برفع قيمة هذا الانتماء، وعزل الأشخاص داخل هذا الانتماء الضيق الوحيد.
اليوم في الفيس بوك، وكما أشرنا في موضع سابق (عدد سابق من مجلة العربي)، نجد ان مستخدم الفيس بوك يجد في هذه الشبكة منفذا للتعبير عن هويته متعددة التكوين، فنجد الشخص ينضم أو يعبر عن إعجابه بواحدة أو أكثر من مجموعات تختلف مشاربها، لكنها تكون منظومة تعكس ذوقه وتفضيلاته وقيمه، من فريق موسيقي إلى كاتب محدد أو فيلسوف أو فن من فنون الخط، إلى مجموعة تعبر عن نشاط اجتماعي أو رأي فكري، أو كتاب، أو جمعية أهلية، أو جمعية أهلية افتراضية تنشأ على الفيس بوك نفسه، وغير ذلك من مجموعات. وبالتالي فإن «الفيس بوك»، عن سابق وعي أو بلا قصد، تسهم في تحديد الشخص للون من ألوان هويته عبر تحديده لانتماءاته، وتفضيلاته التي تشكل لونا من التعددية الطبيعية المتوافقة مع طبيعة البشر.
وفيما يتعلق بموضوع الهوية والعنف، سنجد دوما لونا من انعكاس الواقع الطائفي على صفحات الفيس بوك عبر إنشاء مجموعات تندد بظاهرة فتنة في بقعة من بقاع العالم، والأمثلة قد تناولناها سابقا سواء في الدعوات المناهضة للإسلام مثلا، من قبل بعض العنصريين، والرد عليها، أو عبر مباريات كرة القدم التي أثارت ضغائن بين بعض الشعوب العربية، والمجموعات المناهضة لتلك المشاعر العدائية التي حاولت أن تحجم تلك الظاهرة، أو بعض الجماعات التي تبدو ذات توجه طائفي، وعلى الفور تنشأ جماعات مناهضة لها وتدعو للتعايش ورفض أشكال الصراع الطائفي.
دور مزدوج
بالتالي فإن الفيس بوك رغم أنه قد يظهر ألوان التمايز والاختلاف الطائفي، والإثني، أو القومي، كما يحدث إثر بعض مباريات كرة القدم بين دول تتعصب شعوبها لدولها بشكل متطرف، فإنه، في الوقت نفسه يمتلك إمكان مقاومة مثل هذا اللون الطائفي والتحيزات.
ولا يفوتني هنا الإشارة إلى طبيعة هذا العنف الطائفي وكيف يصبح طبيعيا بديهيا بالنسبة لأنصار العقيدة أو الرأي أو المذهب او الفكرة القومية، إلى آخر هذه الهويات، وذلك من خلال هذا المثال الذي اورده من كتاب «الأنماط الثقافية للعنف» من تأليف باربرا ويتمر وترجمة ممدوح يوسف عمران وصادر عن سلسلة عالم المعرفة (337) حيث تقول المؤلفة: «يلاحظ كيفن روبينز(في كتابه «الشاشة مسكونة بالأشباح») كيف يمكننا أن ننظم علاقاتنا مع صور الألم التي نرى نموذجا لها على شاشة التليفزيون وفي الفيديو. إنها لحظة عزلة عن الألم الفعلي(..)» وتتناول مثالين من العنف على فيلم فيديو كمثال صارخ.. أحدهما كان فيديو أخذه طيار طائرة أباتشي في حرب الخليج يصور الجنود العراقيين وهم يتمزقون بسبب نيران الهليكوبتر. بعد مشاهدة اللقطات عند عودتهم إلى قاعدتهم كان الطيارون يربتون بعضهم على ظهور بعض لأنهم اعتقدوا أنهم كانوا قد اطلقوا النار على مزرعة.
المثال الآخر الذي يعطيه روبنز من فيلم «هنري..بورتريه لقاتل محترف» يصور الفيلم هنري مع صديقه أوتيس اللذين سرقا آلة تصوير فيديو واستخدماها في تسجيل تعذيبهما وقتلهما لعائلة في الضواحي. بعد ذلك أخذا يتفرجان على عرض التسجيل، بل ينامان أمامه». يتساءل روبنز كيف أن الأعمال السادية في كلا المثالين تتحول إلى تلذذ بالنظر يبعد المقاتلين عن أي التزام اخلاقي. في هذا المثال الذي تشير إليه المؤلفة تصل إلى أن روبنز، في كتابه السابق الإشارة إليه الذي تقتطف منه باربرا ويتمر, يصف القاتلين بـ«الاختلال العقلي» لأنهما غير قادرين على التمييز بين الواقع والوهم، أما الطيارون فلا يوصفون بالاختلال العقلي وفقا للمصدر ذاته، إذ بإمكانهم أن يفصلوا أنفسهم عن واقع العنف الذي اشتركوا فيه. بإمكانهم أن يشرعوا أعمالهم باعتبارها «عقابًا للشر»، موضحا كيف ان آليات الإنكار والتنصل والكبت تحفظ وتحمي السلامة العقلية ضمن بيئة غير سليمة عقليا، وهذه هي عملية الفصل في اضطراب ضغط عقب الصدمة يتوازى مع ما يدعوه «انفلاق» أو تقسيم الذات والتبرؤ من جزء من الذات. وهذا التبعيد المقصود يبعد سرعة التأثر العاطفي وينكره فمن خلال الانفلاق «يمكن للأفراد أن يتمكنوا من التعايش كقتلة وكأناس يبدون طبيعيين في آن».
إن إعادة تأمل «الفيس بوك» كمخزن للهويات، وكاشف لها، يمكن أن يوجه العديد من الدراسات المختصة بالبحث في إشكاليتي الهوية والعنف، وبحث الإمكانات المستقبلية لهذه الشبكة الاجتماعية في تقليل الحد من وهم الهوية الذي يستقطب العالم اليوم أو جموعا منه للتحيز والتعصب، وصولا لعنف من المتوقع أن ترتفع وتيرته، إذا لم يتمكن الباحثون والمهتمون من وضع مياه الحل الثقافي التي ينبغي ان تكون مياها باردة تطفئ نيران التعصب وتخمدها قبل فوات الأوان.
وهناك في جذر فلسفة الوجود الافتراضي لكل صاحب صفحة على الفيس بوك عوامل تؤكد له يوميا مدى التنوع والتعدد الذي يعيشه عبر الكثير من الاختيارات التي يختار من بينها، وعبر ما يوثقه من تفضيلات، وما ينضم إليه من مجموعات تتباين فئاتها. مما يجب أن ينبهه إلى تعدد هوياته فقد يكون محاسبا، محبا لموسيقى الجاز، أو الروك، أو الموسيقى العربية، نباتيا، أو مغرما باللحوم، متضامنا مع حقوق الإفريقيين، وقد يكون طبيعيا في علاقاته العاطفية لكنه مدافع عن حقوق المثليين مثلا، وفي هذا كله نرى كيف تتعدد الهوية وكشف تنوعها، وهو ما يجب ان يلتفت إليه البشر باستمرار بغية التخلص من وهم واحدية الهوية التي تغرق العالم اليوم في أتون «صناعة الكراهية»، والفتنة، والقتال، أو الدعوة إليه أو التربص وغير ذلك من اشكال العنف.
إن واحدا من أبرز ما قد يفرزه «الفيس بوك» هو فكرة المواطنة الافتراضية التي تقوم على لون من الفردية، من جهة، وتعبر عن انتماء افتراضي ذي طابع كوكبي، يرغب في الذوبان في افق عالم أكبر من حدود الهوية الواحدة المغلقة، وهو موضوع يحتاج إلى أمثلة أكثر وملاحظات وتفصيلات أكثر كثيرا ربما تكون موضوعا لهذه الزاوية في الشهر المقبل، خصوصا وأن التقاتل باسم الدين اصبح خطرا لا يهددنا كعرب ومسلمين فقط، بل هو تقريبا ظاهرة تطفو فوق خارطة العالم من اقصاها إلى أدناها.