مختارات من:

الجامعة العربية .. بين الماضي والمستقبل

هيثم الكيلاني

هل انتهى عمرها الافتراضي؟
لا نكـران في أن الـذكـرى الخمسين للجـامعـة العربيـة تأتي في وقت فترت الحماسـة لها، وضعفت روابط الـرحم القومي، فهناك من يـدعو إلى أن يستبـدل بها نظامـا شرق أوسطي جـديـدا، أمـا المشفقـون عليهـا والـراثـون لحالها فهم يتنـادون إلى إجـراء عمليـة إصـلاح سريعـة، فهل يمكن إنقـاذ مـا يمكن إنقـاذه؟

أصبح الحديث عن الجامعة، بعد أن بلغت من العمر خمسين عاما، من شئون الساعة واهتمامات الناس. وذهبت الأحاديث مناحي شتى، تتراوح بين داع إلى الحفاظ على الجامعة وتطويرها، باعتبارها البيت الذي ينتدي فيه العرب، وداع إلى طيها من الوجود، إذ تجاوزها الزمن، وأصبحت غير قادرة على العيش ونحن نقترب من القرن الحادي والعشرين، ولا بد من أن يحل محلها تنظيم إقليمي من نوع آخر، في الشكل والمضمـون. ويقف بين هذين الحدين دعاة آخرون، يرى بعضهم أن إصلاح الجامعة هو الحل البديل، وبرى البعض الآخر أن الإصلاح يجب أن يكون جذريا فيطال الميثاق والمفاهيم والهيكل والأجهزة حتى يبلغ الأمر حد تأسيس جامعة عربية جديدة. ثمة ظاهرتان تعبران عن هذا الانشغال بالجامعة ومستقبلها. وتتمثل الظـاهـرة الأولى في ذلك السيل المتـدفق من الدراسات والمقالات والتصريحات التي تشد الانتباه إلى حالة الجامعة، وما هي فيه من مأزق وظيفي ومالي، أدى إلى إصابتها بالعطالة وبالعجز عن معالجة انهيار التضامن، ونمو النزعة القطرية، وتعاظم الخلافات العربية عددا ونوعا، وتكاثر الاتهامات الموجهة إلى الجامعة وتحميلها مسئولية ما وصل إليه حال العرب من تدهور. أما الظاهرة الثانية فتتبدى في تكاثر الندوات والمؤتمرات التي تجعل في صدر حواراتها مسألة الجامعة، وبخاصة تعديل ميثاقها وتطوير وظائفها وبنيتها حتى تستجيب للمتغيرات الطارئة على الأوضـاع العربية والإقليمية والدولية. وفي أدبيات هاتين الظاهرتين تعرضت الجامعة لطعون ونقود كثيرة ومستمرة، بلغت ذروتها في إثر حـرب الخليج الثانيـة. ونجحت تلك الطعون والنقود في إيجاد مناخ من الشك والفتور حيال الجامعة وميثاقها وما فيهما من ثغرات وما يفقدانه من وسائل الفاعلية القومية.

عودة إلى التأسيس

لقد نشأت الجامعـة في مارس/ آذار 1945، في إطار النظام العالمي الذي رسمت معالمه وترسخت دعائمه في إثر الحرب العالمية الثانية. ومن الطبيعي أن تكون الـدول المؤسسة للجامعة- وهي سبع- في موقع التأثر بالنفوذ الغربي بعامة، والأمريكي بخاصة، إذ كان الاستعمار البريطاني- الفرنسي متشبثا يومـذاك بمعظم أنحاء الوطن العربي. وقد عد بعضهم الرضا البريطاني عن تأسيس الجامعة مأخذا على المؤسسة القومية. كـما جاء ميثاقها مبنيا على أساس استقلال الدول الأعضاء وسيـادتها وداعيـا إلى التعـاون فيما بينهـا في مختلف المجالات.

وقـد يحسن بنا- من قبيل الذكرى- أن نتذكر أن التيار القومي في الأربعينيات كان وراء قيام مفاوضات ما يسمى يومذاك "الاتحاد العربي" وحينما بدأ رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس بـاشا تلك المفاوضات نص في دعوته إليها على ضرورة "السعي للوحدة العربية بجبهة متحدة بالفعل" من أجل تحقيق الأغراض التي تنشدها "الأمة العربية"، وذلك ببحث "أسس التعاون العربي في المستقبل" وبحث "شكل الوحدة المنشـودة بين الدول العربية المختلفة".

وبالرغم من هذه "النيـات" القومية الرفيعة، انتهت المفاوضـات إلى صياغة ميثاق ساد فيه منطق "الدولة" بالحفاظ على سيادتها واستقلالها بشكل مطلق، وخلا من لفظة "الوحدة العربية"، وأقام تنظيما اختيارياً أساسه التنسيق والتعاون، والرضا العام والتوافق الجماعي. ولهذا فالقرارات الصادرة منه ملزمة لمن يقبلها فقط. ولقـد مثلت هذه الأسس عنصر قـوة وعنصر ضعف في الوقت نفسه. فإلى جانب أنها وفرت للتنظيم عوامل المرونة والقدرة على التطوير، وضمنت المساواة بين جميع الدول الأعضاء، أدت قاعدة الإجماع في اتخاذ القرارات إلى عدم الاهتمام في موضـوعات الجامعة وشئونها، وإلى اللا مبالاة في تنفيـذ القرارات، سواء وافقت عليها هذه الدولة أو تلك أو رفضتها.

وفي مثل هذا النوع من التنظيم، الذي يقوم على الاختيـار والـرضـا الجماعي، والحافل بالخلافات والمنازعات البينية، كـان من الطبيعي أن يسيطر العامل السيـاسي على سـائر العـوامل، وأن تطغى المصـالح والسياسات القطرية على المصالح والأهداف القومية.

وحينما اتفقت الـدول المؤسسـة في بـروتـوكـول الإسكندرية على أنه "لا يجوز في أية حال اتباع سيـاسة خارجية تضر بسياسة جامعـة الدول العربية أو أية دولة منها" عادت فألغت بعد ستة أشهر فقط هذا "القيد" في ميثاق الجامعة. وهكذا خلا الميثاق من مبدأ الالتزام بتوحيد السياسات والمواقف الخارجية، وخضع ذلك كله للمبدأ العام الـذي يقول إن قرارات مجلس الجامعة تلزم من يوافق عليها، حتى بلغ الأمر ببعض الدول أن تلغي- من ذاتها وبـذاتها- قـرارات كـانت قـد وافقت عليها ونفذتها.

وهنا تجدر بنا الإشارة- كمثل- إلى لبنـان الذي كان أكثر الأعضاء حساسية واهتماماً بالنص على سيـادة الـدول الأعضاء واستقـلالها، حتى أن بـروتوكـول الإسكندرية تضمن تأييـد الدول العربيـة "احترامها لاستقلال لبنان وسيادته بحدوده الحاضرة". غير أن ما ناله لبنان من تأييد لاستقلاله وسيادته الكاملين في إطار المؤسسة القومية، نالته جميع الدول الأعضاء دون تسمية محددة لكل منها. وهكـذا وقفت جميع الدول العربية تنادي بجامعة قوية دون أن يتنازل الأعضاء عن مقدار شعرة واحدة من سياداتهم وإراداتهم الحرة. فكـان أن نمت السيادة والإرادة القطريتان نموا عظيما في إطار الجامعة على حساب إهزال المؤسسة القومية وإضعافها إلى حد الشلل والعطالة.

وحينما برزت الجامعة إلى الـوجـود، لم تخل بنيتهـا وميثاقها من النواقص والسلبيات الكثـيرة، التي كانت موضع النقد والطعن، حتى عدها دعاة الوحدة العربية عائقا في سبيل الهدف القومي الأسمى. وبالرغم من ذلك، استطاعت الجامعة أن تطور ذاتها، وأن تدفع بالعمل المشترك إلى جميع مجالات الحياة، وسارت به من خـلال المنظمات المتخصصة والمجـالس الـوزاريـة والتشكيلات النوعية خطوات واسعة على دروب التعاون والتنسيق. لكن الظروف والعـوامل السياسية حسرت تلك الخطوات، وحدت من مشروعات الإنجاز. وهو ما أوقع الجامعة في مأزق التناقض بين المقرر والمنفذ، أو بين النص والتطبيق، ذلك المأزق الذي يعبر عنه بلغة أدبية رفيعة بشعار "الجامعة بين الواقع والطموح".

في تفسير الوضع الراهن

ولقد ظهر اتجاهان رئيسيان في تفسير حالة الجامعة. ذهب أحدهما إلى أن القصور التكويني للجامعة يكمن في الميثاق نفسه. وعوضاً عن أن تسد الدول الأعضاء أوجـه القصـور وثغرات الميثاق بسلوكيات قوميـة، أضافت بعض تلك الدول مجموعة من الممارسات أدت إلى زيادة أوجه القصور وفتح ثغرات جديدة. وهو ما أدى بالتـالي إلى انهيار بنية النظـام العربي. ويسرد أصحـاب هـذا التفسير قـائمـة طـويلـة من تلك الممارسات، يدرجونها تحت عنوانين كبيرين هما: انتهاك مبادئ الميثاق، وتفشيل خطـط ومشروعات التعـاون والتكامل الاقتصـادية والثقافية والسياسيـة. ولا يعدم أصحاب هـذا الاتجاه أن يجدوا من الوقائع والأمثلة ما يدعمون به رأيهم، وهو كثير ومتنوع على مدار نصف قرن.

أما الاتجاه الثـاني فينظر إلى الـواقع العربي من زاوية أخرى. فهو يرى أن الأقطار العربية تملك، مجتمعة، عناصر كـافية لتحقيق تكامل يمكنهـا من أن تحل الأمة العربية في منزلـة مناسبـة على الصعيـدين الإقليمي والدولي. ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الجامعة قامت بوظائفها، بقدر ما أتيح لها وما قبلت الدول الأعضاء أن تقوم بـه، فنجحت أحيانا وفشلت أحيـانـا أخرى. ويستعـين أنصار هذا القول بقائمـة طويلة من الوقائع والشواهد، مدعومة بالإحصاءات والخطط والمشروعات التي أقـرتها مؤتمرات القمـة ومجلس الجامعة والمجالس والمنظمات المتخصصة.

بـادئ ذي بـدء، لا بد مـن ملاحظة أن الجامعة منظمة فريدة في نوعهـا في العالم، وذات مواصفـات متميزة وخاصة بها، بحيث لا تشاركها فيها أية منظمة أخرى. وجـوهر مشكلتها أن على الجامعة أن تنظر في مصالح وشئون أمة واحدة مقسمة على اثنتين وعشرين دولة. وهـذه معادلـة جـد صعبـة ولا خلاص من صعوبتهـا وتعقدهـا قط في الوقت نفسـه. فمن خلال تباين الآراء والمواقف والسياسات التـي قد تبلغ أحياناً حد التنـاقض، يجب على الجامعة أن تنسج رأيا واحدا وموقفا واحداً وسياسة واحدة.

في النزاعات وعدم الالتزام

وبالرغم من أن الجامعـة غدت تجسـد النظام الإقليمي العربي، بـانضمام جميـع الـدول العربية إلى عضويتها، ظلت نظاماً فاقداً البعـد القومي والقدرات التي تتمتع بها المنظمات الإقليمية المماثلـة، حين حرص كل عضو على أن تكون سيادته كاملة، وحين رفض أن يتنازل عن بعض سيادته من أجل أن يؤسس المحـور القومي للجـامعة، وأن يوفـر لها العوامل التي تحولها إلى منظمـة إقليميـة ذات محتـوى قومي. وليس ذنب الجامعـة، أن هـذه القـوة الإقليمية لم تكن بالفـاعلية المطلوبـة الآن، أي بعد نحـو خمسين عامـا. ذلك أن الأعضاء السبعة حرصوا- وسايرت الأقلية الأكثرية في هذا الحرص على مضض- على أن تظل المؤسسة القومية أصغر حجما وأقل قدرة من كـل دولة عضو، وذلك بأن يظل كل عضـو فيها ناظما ارتباطه بها بالشكل الذي يشاء، وحراً في أن يلتزم أو لا يلتزم بأي قرار يصدر من الجامعة. وإذا نفذ التزامه فبطريقته وعلى هواه، دون أن يخشى حسـابـاً من الجامعـة المكلفة بمتـابعـة تنفيذ القرارات، وهـي لا تملك قـانـونـاً أو قـوة أو وسيلة تستخدمها في إلزام الأعضاء بتنفيذ ما قـرروه، أو بعدم الانسحاب من قرار قبلوه ونفذوه ثم بدا لهم أن يخرجوا عليه.

ويبـدو أن الآباء المؤسسين للجامعـة، لم يتنبأوا بـما يمكن أن تكـون عليه الخلافـات البينية، وتطوراتها المحتملـة، حتى تبلغ حـد العدوان بالقوة المسلحـة. وبالرغم من ألوف القرارات التي اتخذتها مجالس الجامعة على مدار حوالي خمسين عاماً، والتي بلغ بعضها حداً كبيراً من الأهمية وخطورة المسئـولية، ليس بين تلك القرارات ما ينشئ آلية قادرة على استيعاب الخلافات التي لا مفر من نشوئها، وعلى معالجتها بالحد من تطورها ثم بتسويتها.

لقد أراد أصحاب البيت أن يتركوا المؤسسة القومية تنظيما إقليميا خـاويا من أي بعـد قـومي حقيقي لا ظاهري فقط. ومن هنا افتقدت الجامعة القدرة على إنقاذ مشروعاتها القومية من وهدة الخلافات، وتحييد المشروعـات الاقتصاديـة والاجتماعيـة من التأثيرات والمواقف السياسيـة. لقد حرصت الدول الأعضاء على ألا تكون للجـامعة سلطة فعلية واضحة ومحددة في أي مجال قومي، تستطيع بممارستها أن تنجز مشروعاً قومياً. إن بطرس غالي، الأمين العام للأمم المتحدة، يضع في إحدى دراساته القديمة اليد على الجرح حين يقول "هذا البناء الاتفاقي ما هو إلا واجهة تخفي الأزمة التي يمر بها التعاون العربي". إن "الدول العربية ليست لديها رغبة حقيقية في الارتباط مع بعضها بالتزامات أساسية فعلية، بل هي، في الوقت نفسه، راغبة في أن تبين للرأي العام أنها منطلقة بحزم في طريق الاندماج".

ومهما قيل في أسباب محنة النظام العراقي، وبخاصة الأسباب الخارجية، فلا بد من الاعتراف بأن هذا النظام وهنا أستعير قول الدكتور محمد الرميحي- قد قوض من داخله، ولم تكن الأسباب الخارجية- إن وجدت- سوى عوامل مساعدة.

في تطوير الجامعة

هناك عامل بدا متواتراً على مر السنين، حتى غدا وكأنه أحد الثوابت في الفكـر السياسي العربي، وهو أنه لا بديل للجامعة، ولا خيار آخر للعرب إلا أن ينتظمهم هذا البيت. غير أن هذه القولة تتعرض الآن للمراجعة، وبخاصة أن النظام العربي يقف على مفرق طرق، بعد أن تطور نوع تدخل القوى الخارجية في شئونه وتغير حجما وفاعلية، وتسارعت وتيرة تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي، وتكـاثرت المشكـلات العربية حتى أورثت الجامعة العجز.

إن هذه العوامل، وغيرها، وضعت المؤسسة القومية على مفترق طرق. فقد يستمر الوضع العربي الراهن مدة من الزمن، وقد تنشأ عوامل أخرى تدعو إلى إقامة نظام إقليمي بديل، أو تدفع بـالجامعـة- وهذا هو المأمول والمرجح- إلى إحياء التضـامن العربي، على أسـاس تطوير المؤسسة القومية في ضوء التجـارب والممارسات والعبر التي عاشتها طوال نصف قرن، وبخاصـة أن وسائل التطوير متوافرة، فالميثاق بمرونته قـادر على استيعاب التطوير المنشود، وعلى الاستجابة لما يستجد من مفاهيم وآليات.

وإذا ما تتبعنا الأدبيات التي تناولت الجامعة بالبحث والنقد، فإننا نجد ناظما يجمع معظمها، ويكـاد يكون القاسم المشترك بينها. وجوهره الدعوة إلى تطوير الجامعة، فلم يعد مقبولا أن تبقى المؤسسة القومية عاطلة بإرادة أعضائها، فلا هي حي فيرجى، ولا ميت فينسى.

وإذا كـانت الجامعة صنيعـة أصحـابها، ومـرآة أوضاعهم، فتكـون كما يشاءون، فإنها، في الـوقت نفسه، كالمصهر الذي تختلط فيه مجموعة من المعادن، وتخرج منه سبيكة جديدة تختلف في صفاتها عن صفات كل معـدن على حـدة، وتحمل، في الوقت نفسـه، خصائص كل معدن اندمج في صياغة تلك السبيكة.

وحين تدور عجلة تطوير الجامعـة، لا بد من أن يسعى التطوير إلى توفير آليـة تستطيع الجامعة بها إدارة الأزمات، واستيعابها فـور وقوعها، من أجل إيجاد حل لها، على أن تملك تلك الآلية الوسيلة القادرة على فرض ذلك الحل. إن ما جرى في صيف 1990 يبقى ماثلا في الفكر أنموذجاً للعبرة.

ومهما أرادت الجامعة، بأمانتها العامة، أن تتحرك وتنشط في برامجها ومشروعاتها القومية، فإنها تبقى أسيرة إرادات أعضائها، فهم أصحـاب القرار فيها، وهم الذين لم يريدوا، حتى اليوم، أن يعدلوا الميثاق ليمنحوا المؤسسة القومية الإمكانات والصلاحيات التي تؤهلها للقيام بدورها كمنظمة إقليمية قومية. لهذا فإن أية مقاربة لإصلاح الجامعة لا بد من أن تنطلق من إرادات الأعضاء ومن قرارهم. وفي غير هذه الوسيلة، ستبقى الجامعة كـما أراد لها أصحابها، منتدى قوامه الضعف وفقدان القدرة على التدبير.

ولقد أدرك العاملون في الجامعة مدى الحاجـة إلى التغير. ونشطت المساعي من أجل ذلك، وطرح الأمين العام أمام مجلس الجامعة ما انتهت إليه مؤتمرات الدول والخبراء من تعـديلات للميثـاق، وهيـاكل جـديـدة للجامعة، وتطويرات جذرية لوظائفهـا. وقد أخذت تلك الجهود والصياغـات في حسبـانها ثلاثة أمـور رئيسية، أولها تحديث الجامعة لتصبح قادرة على التعامل الكفء مع المتغيرات العربيـة والإقليميـة والـدوليـة. وثانيها إعطاء الميثاق صبغة أكثر قومية، بترسيخ وتعميق البعد القومي الذي كـان مفتقدا في الجامعة كمؤسسة إقليمية قومية. وقد امتـد هذا البعد إلى جميع المجالات، بدءاً بالإنسان العربي، وانتهاء بالأمن القومي، ومرورا بـالاقتصـاد والثقـافة والاجتماع والعلم والتكنولوجيا والقانون. وثالـث الأمور إيجاد آليـة تعـالج الأزمات بمختلف أشكـالها وفي حين نشوئها، وتتوقـاها قبل حدوثها إن أمكن ذلك.

قبل أن نصل متأخرين

ونحن إن عدنـا إلى مجموعـة الأدبيات التي قيلت في الجامعة وميثاقها، وبخـاصـة منـذ صيف 1990، ووضعنا جـانباً ما كان منها متطرفاً أو مغرضاً أو وليد الانفعال، فإننا نلاحظ أمرين: أولهما أن معظم ما وجه إلى الجامعة وميثاقها من طعـن ونقد يحمل في طياته كثيراً من الحقائق والوقائع ويسلك درب الإصلاح من منطلق قومي. والأمر الثاني أن تلك الحقائق والوقائع مردها إلى أصحاب البيت أنفسهم، أي إلى الدول العربية، وليس إلى الجامعة أو الميثاق.

ولنحتكم إلي الميثاق. وسنجد أن الميثاق بمجمله كان نصاً بسيطا، غير معقد. قال أفكاراً قليلة. وحدد أهدافاً متواضعة، ولكنه- في الوقت نفسه- فتح الأبواب والنوافـذ والسقوف كلها لكي يحول أصحـاب المؤسسة القومية هذا البيت الصغير الضيق المتواضع في شكلـه ومحتواه إلى حصن لا تناله العواصف. إن مقارنة نجريها بين ميثاق الجامعة المؤلف مـن 20 مادة وميثـاق الأمم المتحدة المؤلف من 111 مادة، تبين الفوارق الشاسعة جدا في جميع المجـالات بين الميثاقين،، بالرغم من أن الفـارق الزمني بين صيـاغة الميثاقين لا يتجـاوز ثلاثة أشهر.

لقد نادى ميثاق الجامعـة بتوثيق الصلات بين الدود الأعضاء، وتنسيق خططها السياسية، تحقيقاً للتعاون بينها وصيانـة لاستقلالها، والنظر بصفة عامة في شئون البلاد العربيـة ومصالحهـا. ومنع الميثاق الالتجـاء إلى القوة لفض المنـازعات بين دولتين أو أكثـر من دول الجامعة، وأوجـد آلية أولية لمعالجة ورد أي عدوان يقع على دولة عضو.

هذا بإيجاز جـد شديد- وأعترف بأنه مخل أيضـاً- جوهر الميثاق، الذي نـص على مبدأ إنشاء محكمة عدل عربية، وأباح لأصحاب البيت تعديل الميثاق. وبالرغم من مرور خمسين عاماً على هذا الكـلام، لم تقم محكمة العدل، ولا الميثاق عُدّل.

وإذا كـان الميثاق وليد عالم 1945، فإن من حق الأمة العربية أن يكون لها ميثاق هو وليد مطالع القرن الحادي والعشرين. ونستطيع القول إنه ليس هناك ما يمنع تعديل الميثاق، إن أجمعت إرادة الدول العربية على تعديله. ولكن هؤلاء الأعضـاء لم يجمعوا، أو لم يريدوا، أن يفعلوا ذلك. لقد تركوا البيت خاويا من مقومات الحياة، سوى أصداء أمنيات وبيـانات وخطب ذهبت مع الريح، وقرارات كثيرة وافق عليها أصحابها دون أن تكون لهم نية العودة إلى معظمها إلا للذكرى.

ونحن إذا استعرضنا تاريـخ الجامعة، منذ أن كانت مؤلفة من سبع دول حتى غدت تضم 22 دولة، وقرأنا قرارات إحدى وعشرين قمـة، وأكثر من 150 دورة لمجلس الجامعة، لاستنتجنا الوقائع التالية:

1 - لم يقف الميثـاق قط أمـام أي تطور في ترسيخ التعاون وتنويع مجالات العمل المشترك وإقـامة الوحدات أو الاتحادات بمختلف أشكـالها. لقد شجـع الميثاق ذلك كلـه.

2 - وكـان الميثاق منفتحـاً في روحه القومية، وترك المجـال واسعاً لمفاهيم الأخوة القومية التي تتميز بها الجامعة.

3 - وبلغ العمل المشترك ذرى عاليـة من التخطيط والتنوع واتساع الأفق، بالـرغم من أن فترات تلك الذرى كانت قصيرة الزمن إذا ما قورنت بحالات الانحدار والاختلاف والتمزق.

4 - ولأن الجامعة عاصرت، طوال نصف قرن، تحولات وتغيرات عربية وإقليميـة ودولية كثيرة ومهمة، ولأن ميثاقها يتسم بالمرونة والبساطة، فقد استطاعت أن تطـور أهـدافها ووظائفهـا ووسائلهـا وهيكلها بالممارسة، دونـما حاجة إلى تعديل الميثاق.

ليس هذا الكلام دفاعـاً عن الجامعة والميثاق، وإنـما هو نوع من التوضيح، نسوقه في وقت توضع فيه الجامعة وميثاقها موضع الشـك والتجريح، في حين أننا لا نزال نأمل أن يوضعا موضع المعالجة والتطوير والتعزيز.

من عاداتنا أن نأتي متأخـرين، وأن يفوتنـا القطار. ولعل الحكمة العربية القديمة التي تقول "المرء حيث يضع نفسه" تنفع في تذكيرنا وحثنا على العمل، قبل أن نصبح من مدمني الانتظار بلا أمل.

هيثم الكيلاني مجلة العربي مارس 1995

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016