من مكتبة العربي
بقلم: ستيوارت ودوريس فليكسنر
بدأ الإنسان كتابة التاريخ منذ تعلم أن يخط بيده، وربما كانت رغبته في تدوين ذكرياته عن نفسه وتسجيل خواطره،هي الدافع الأساسي له لاختراع الكتابة.
التاريخ يتناول كل شىء.. من أخبار الدول والملوك والعظماء والقادة، إلى أخبار الثوار والمتمردين والمصلحين. ومن أهم الاحداث ونظم الحياة في كل عصر، إلى كل ما استعمله ويستعمله الإنسان في حياته اليومية.
فهو وعاء الخبرة البشرية، والعلم الخاص بجهودها، والمحاولة التي تستهدف الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بجهدها في الماضي، واستشراف آفاق مستقبلها وتقدمها.
وهناك فرق بين التاريخ والتأريخ..
فالتاريخ أو التدوين التاريخي هو مجرد نقل الأحداث والأخبار من الذاكرة إلى التسجيل، وهو مادة التاريخ.
أما التأريخ فهو سرد للأحداث وتبويب لها، وتفسير لطبيعتها وتسلسلها، وتبيان لأسبابها.
ولقد تعددت التفسيرات للتاريخ:
فهناك التفسير الخرافي للتاريخ، وهناك التفسير الديني، والتفسير العرقي، والتفسير النفسي والاجتماعي، والتفسير الاقتصادي، والتفسير الحضاري، بل إن هناك تفسيرا صهيونيا للتاريخ.
ويستفيد المؤرخون الآن من كشوف الانثروبولوجيا وعلم النفس والاجتماع واللغويات والإحصاء والفولكلور والطب.. وغيرها.
وتحري الدقة التاريخية يتطلب ثقافة متميزة وتحررا من الشهوات القومية التي تلون الحقائق التاريخية وتعبث بها.
والكتاب الذي نعرض له اليوم، اختار أن ينظر للتاريخ من ناحية التشاؤم والتفاؤل، عن طريق سرد الأحداث المشئومة التي مرت بالبشرية في جزء أول، ثم سرد الأحداث المبهجة التي دفعت بالإنسانية للأمام في جزء ثان.
وقد أعد الجزء الأول الذي يحمل عنوان (دليل المتشائم للتاريخ) The Pessimist's Guide To History الأمريكيان ستيوارت فليكسنر Stuart Flexner ودوريس فليكسنر Doris Flexner وصدر عن دار أفون للنشر عام .1992
وأعد الجزء الثاني (دليل المتفائل للتاريخ) The Optimist's Guide To History الباحثة دوريس فليكسنر، وصدر عن الدار نفسها سنة .1995
والغريب أن (ستيوارت) المشارك في تحرير الجزء الأول متشائم بطبعه، ويرى أن التاريخ البشري ما هو إلا مأساة ويتجه إلى كارثة كبرى تصيب الجنس البشري، بينما دوريس متفائلة تماما. وهذا ما دفعها لكتابة الجزء الثاني من الدليل، وبالطبع لقد استعان المؤلفان بالعديد من الباحثين والدارسين لإعداد هذا الدليل.
عالم من التناقض
يرى (ستيوارت) المتشائم أننا نعيش في عالم من التعاسة والبؤس، وأن هناك من الألم والشر في هذا العالم، أكثر مما هناك من الخير والسعادة، وأن معظم الأحداث في تاريخ البشرية تؤيد وجهة نظره، ومن لا يصدقه فعليه أن يقرأ عدة صفحات من أي كتاب للتاريخ، فسيواجه على الفور بالصراع والموت والخراب والحروب التي تستمر بالسنوات، بالغزو والكوارث، بسقوط دول وامبراطوريات، بالمرض والأوبئة، بل يكفي أن ننظر إلى قرننا هذا لنرى كم من الحروب قد قامت، وكم من كوارث حطت علينا.
إن البشرية عاشت وتعيش في فوضى، فمنذ ظهر الإنسان العاقل على الأرض (20 ألف سنة تقريبا) كان جل تفكيره في معظم الأحيان كيف يسيطر على إنسان من بني جنسه أو يقتله، ومنذ قتل قابيل هابيل لم يستغرق الأمر طويلا كي يعرف البشر أن القوة هي المحور الرئيسي للعبة، وهذه المعلومة الصغيرة قادت إلى مواجهات أكبر وأكبر، وحتى اليوم كانت الحرب هي الطريقة لحل مظلمتنا إذا كانت لنا مظلمة، أو طغياننا ـ وهو الأصح في الغالب ـ واستمر الإنسان في اختراع أسلحة جديدة لمحاربة إخوته في الإنسانية، من الحراب والسهام حتى القنابل الذرية والصواريخ. شعوب تهزم شعوبا، وعدو الأمس يصبح حليف اليوم مادمنا نتبع أصول اللعبة.
ويبدو أننا لم نستطع كبح الغضب داخلنا بعد، أو نقمع ذلك الجزء من طبيعتنا البشرية الذي يرغب القوة لنا والاستسلام لأعدائنا، وكأن الحرب تشكل لنا توقا فطريا للإثارة، وكأن ذكاءنا ليس قويا بما فيه الكفاية لكي نتحكم في عواطفنا ـ إن الإنسان العاقل مخلوق متناقض.
فأمام كل اكتشاف رائع في التاريخ كان هناك مائة وباء مهلك ومقابل كل حاكم عادل كان هناك ألف طاغية.
وبجانب الحروب والكوارث الطبيعية، فقد اكتسحت المجاعة الجنس البشري عدة مرات، وأخذ المرض ـ من طاعون وأوبئة ـ دوره في طحن الجنس البشري.
ابتدعنا الوسائل العلمية والزراعية لننتج ما يكفي لإطعام العالم، ومع ذلك مازالت المجاعة متفشية، هزمنا بعض الأمراض الخطيرة، لكن هناك الكثير لم نتمكن من السيطرة عليها. ولقد سهلنا أمور موتنا باختراعاتنا الحديثة، فقد اخترعنا العجلة والعربات والقطارات والسفن والطائرات والصواريخ، فمكننا كل ذلك من أن نحرق وندمر ونقتل ونُقتل بسهولة أكثر، حروب وحوادث واصطدامات وانفجارات، كل اختراع له مزاياه، ولكن أيضا له عيوبه.
وهكذا جاء الجزء الأول (دليل المتشائم للتاريخ) يضم في ترتيب زمني ـ منذ بدأ الإنسان حياته على الأرض حتى الوقت الحاضر ـ كل ما هو محزن وشرير ومأساوي في تاريخنا من الكوارث الطبيعية كالسيول والأمطار المسببة لها، والزلازل والبراكين والعواصف والفيضانات والأوبئة والمجاعات، إلى الكوارث التي تسبب فيها الإنسان من حرائق وانفجارات ومذابح وقتل جماعي وإعدام وحشي وكوارث تكنولوجية ومالية وحروب واغتيالات وتمرد وثورات.. الخ. وأضاف المؤلفان في نهاية الكتاب مسردا ألفبائيا لكل هذه الأحداث.
اختراعات مدهشة
أما الجزء الثاني من الكتاب (دليل المتفائل للتاريخ) فإن مؤلفته المتفائلة ترى أنه برغم قصر حياة الجنس البشري العاقل بالنسبة لعمر الأرض، فإن ما حققناه كان مدهشا ورائعا. فلقد اخترعنا أدوات الصيد والزراعة. وتعلمنا صنع الخبز وبناء المساكن ونسج الملابس، وكونا القبائل ثم الشعوب والدول واخترعنا القوانين لتنظيم حياتنا، وبدأنا التجارة فابتدعنا الأرقام والحروف ومن ثم الحساب والكتابة، وتعلمنا عزف الموسيقى والغناء والرقص والرسم والنحت وبناء أماكن العبادة والقصور والمدن الكبرى كما دفعنا حب الاستطلاع لكي يكون منا الفلكيون والرياضيون والفلاسفة والعلماء، طفنا العالم واستكشفناه، وتطلعنا إلى الفضاء نحاول غزوه، وغطت اختراعاتنا كل المجالات من الأقلام البسيطة إلى أجهزة الكمبيوتر، من الترمومتر إلى سماعة الطبيب فآلات الفحص الإلكترونية، من العجلة إلى العربة فالقطار والطائرة. إنجازات المهندسين مدهشة، من الأهرام إلى الكباري والانفاق ودور العبادة والقصور إلى المدن الضخمة وناطحات السحاب.
هزمنا الطاعون والكثير من الأمراض، واكتشفنا علاجا للعدوى، ابتدعنا الألعاب وطورنا المسرح والفنون، واخترعنا الآلات الموسيقية وأمتعنا أنفسنا.
لا نهاية لما اخترعناه ونخترعه، وحين تضر بنا كارثة طبيعية كالزلازل والبراكين، أو تدهمنا حرب أو غزو مدمر، نتجمع لننهض ثانية من الرماد كالعنقاء، نُصلح الأرض ونعيد بناء المدن والمصانع والمنشآت بعزم وتصميم.
ونبغت عقول عظيمة في تاريخنا، من كونفوشيوس وأفلاطون حتى أينشتين مرورا بشكسبير على سبيل المثال.
كما ظهر عظام في مسيرتنا هدوا البشرية إلى الخير وشكلوا عالمنا وثقافتنا وألهمونا الكثير من أفكارهم، فسمت مداركنا وتقدمت معارفنا.
لسنا كاملين بالطبع، فلنا أخطاؤنا الكبيرة والصغيرة، ولم نستطع أن نرى بعد، كيف يمكن أن نتعايش جميعا في سلام، ومازال بعض منا جوعى للقوة، شرهين للشر. مازال هناك مرض وجوع، وهناك من لا يجد مأوى، هناك حروب وغزو وقسوة ووحشية، اغتيالات وانفجارات، لكننا حققنا الكثير والكثير، لقد قمنا بالمستحيل.
وسردت المؤلفة كل ما شكل حضارتنا الراهنة عبر العصور بترتيب زمني، مع إضافة مسرد ألفبائي في نهاية الكتاب، من الأعمال الهندسية والزراعية الفذة إلى ما حققه الإنسان من تقدم في الفنون والتعليم والاقتصاد ومعدات الحياة اليومية. من الاكتشافات المختلفة وغزو الفضاء إلى الطعام والشراب والملابس، من الاختراعات والتكنولوجيا المتقدمة إلى وسائل التسلية واللهو والرياضة والألعاب واللعب، من وضع القوانين وحقوق الإنسان إلى الإنجازات البشرية في الطب والرياضة والفلك والعلوم الأخرى، من الوسائل السياسية المختلفة والمعاهدات إلى المؤسسات التي ترعى الثقافة والعلوم والتربية والطفل وغيرها.
الهوى القومي
إن الذي قام به المؤلفان هو جمع لمادة تاريخية، فلم يكن هدفهما أن يحللا ويربطا ويستنتجا أو أن يبينا الأسباب والدلالات، لقد قدما مادة تاريخية مهمة ومفيدة وطريفة أيضا، ولم يكن مطلوبا منهما في حدود منهجهما وحجم دليلهما أكثر مما قدماه.
لكن تبقى ملاحظة:
لقد قدما مادة تاريخية.. لكن هل فعلا ذلك بحياد وتحرر من شهواتهما القومية التي قد تلون الحقائق التاريخية أو تعبث بها أو تتجاهل بعضها?
إذا كنا ـ كعرب ـ نتفق معهما في معظم ما جاء في دليلهما، خاصة فيما يتعلق بالتقدم العلمي أو الفني أو الاقتصادي أو حتى الكوارث والفواجع التي حلت بالبشرية وفي معظم ما سرداه عن الأمور السياسية والحوادث المأساوية التي تسبب فيها البشر، إلا أن الهوى القومي تغلب عليهما في بعض ما سرداه أو لم يسرداه. وإن كان لهما بعض العذر ـ فالإنسان يظل إنسانا يغلبه هواه أحيانا مهما تحلى بالموضوعية، كما أن بعض الأحداث قد تكون شئوما عند فئة معينة، وفألالفئة أخرى، مهما كانت نتائجها على مسيرة البشرية سواء بالخير أو بالشر ـ إلا أن الأمر إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده كما يقول المثل.
ولنضرب بعض الأمثلة:
ـ حرب 1948 وقيام أو زرع دولة إسرائيل في قلب الأمة العربية، والكوارث التي حلت بالمنطقة من جراء ذلك، ثم حرب 1967 التي مازالت أمتنا العربية تعاني آثارها حتى الآن، لم يأت ذكرهما في الدليل لا بالخير ولا بالشر، على الرغم من ذكر حروب في مناطق عدة في العالم أقل منهما أهمية وخطرا وتأثيرا.
ـ ذكر الدليل عشرات المذابح التي مرت بالبشرية، بينما لم يأت بإشارة إلى المذابح العديدة التي قام بها الصهاينة، من دير ياسين حتى عشرات المذابح خلال أكثر من أربعين عاما، وأرى أن ذكر المؤلفين لمذبحة (صبرا وشاتيلا) لم يكن إلا لإلقاء تبعتها على حزب الكتائب كما جاء ذلك صراحة عند سردهما لتفاصيل المذبحة.
ـ لم ير المؤلفان في غزو العراق للكويت وفي حرب الخليج الثانية أي مأساة إلا ضرب صواريخ سكود العراقية للقوات الأمريكية في الظهران وقتل 28 أمريكيا وجرح 89، هذه هي كل المأساة في نظرهما!?
ـ الذي لم أفهمه هو ذكر المؤلفة في أحداث العالم المبهجة: اتفاق أوسلو الذي وُقع في واشنطن في 13 سبتمبر 1993، ومعاهدة السلام الأردنية ـ الإسرائيلية التي وُقعت في 25 يوليو 1994، وإغفالها ذكر المعاهدة المصرية ـ الإسرائيلية عام 1979!?
ثير من الأحداث المعاصرة التي وردت في الدليل ملونة بالهوى الأمريكي، ولم تؤخذ بشكل موضوعي أو حيادي، وربما هذه هي نقطة الضعف الوحيدة في هذا الدليل الطريف. وآفة الرأي الهوى.