مختارات من:

هل هو زمن الرواية التلفزيونية حقاً؟

سمير الجمل

فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل.. يؤكد مقولة إننا نعيش زمن الرواية

ولقاء نجيب محفوظ مع السيناريست أسامة أنور عكاشة وما جرى

بينهما يؤكد أكثر أننا نعيش "زمن الرواية.. التلفزيونية".

فقد قال محفوظ لأسامة: "ليالي الحلمية" وقبلها "الشهد والدموع" هي روايات مرئية ميزتها أن غير المتعلم يستطيع أن يقرأ ما فيها بسهولة ومتعة, وما أكثر غير المتعلمين في العالم العربي!

وكأن محفوظ بهذه الكلمات يشير إلى أهمية رواية التلفزيون التي يقدمها الكاتب في شكل مسلسلات.

وقبل ذلك بسنوات, كان الأديب عبدالله الطوخي قد أعلن صراحة في مقال حزين وشهير عن "غروب الأدب" وكتب تحت هذا العنوان يقول:

إن مسلسلات أسامة أنور عكاشة أكثر تأثيراً في مستوى القاع الشعبي من أعمال نجيب محفوظ, واقترح أن تعقد مصالحة أو يتم زواج الرواية الأدبية والتلفزيونية فيما يمكن أن يسمى بـ"التليرواية".

وردّ فتحي غانم على الطوخي مؤكداً استقلالية الرواية عن الدراما التلفزيونية تماماً, وقال إن الرواية أكثر تأثيراً, ولكن الدراما أكثر انتشاراً, والرواية تصلح مادة للدراما, ولا يمكن أن يحدث العكس.

وأعلن إدوار الخراط أن رواية التلفزيون لاتزال تحبو, ولكنه اعترف في الوقت ذاته بأن الأعمال الدرامية التلفزيونية الجادة تعادل رومانسيات يوسف السباعي ومحمد عبدالحليم عبدالله.

وانحاز جمال الغيطاني بشكل واضح للأدب المكتوب قائلاً: الكلمة المكتوبة لها حضورها واستقلالها ونحن الذين جئنا إلى العالم لنكتب ونبدع أدباً لا يحدونا أمل كاذب لأي خلود أو سعي إلى شهرة, فكم من الوسائل تحقق الشهرة أسرع بكثير جداً من طريقنا المضني الصعب, ولكنه أيضاً عذب لا نستطيع أن نفعل شيئاً آخر, الكلمة المكتوبة هي الأطول عمراً والأعمق تأثيراً, أما مسلسلات الإذاعة والتلفزيون, فكلام يلفظ في الهواء, ولهذا فتأثيره أقل وعمره أقصر.

ويتفق علاء الديب والناقد الدكتور مدحت الجيار في الفصل تماماً بين الرواية الأدبية والنص التلفزيوني كجنس فني أدبي مختلف تماماً عن الرواية.

ومن منطلق استخفاف عباس العقاد بالفنون الأكثر جماهيرية مثل السينما والتلفزيون, يوضح الدكتور جابر عصفور أن العقاد يرد تدني الرواية أو فن القص عموماً إلى الطبقة التي يرتبط بها هذا الفن وهي طبقة الدهماء أو قطاعات الجماهير العريضة بلغة العصر.

كان عصفور يقارن بين الشعر والرواية في مفهوم العقاد, ولكنه في ثوب المدافع عن القص الروائي الأدبي, يؤكد قيمة وأهمية القص الروائي البصري سينمائياً وتلفزيونياً فيقول:

لقد شهدنا على الشاشة عشرات الروايات الذائعة التي أذكر منها "أساطير الخريف", "بقايا نهار", "البيانو", "زمن البراءة", "رحلة إلى الهند", "قلب شجاع", "بيت الأرواح", "ساعي البريد", "الكائن"... إلخ.

وتؤكد كثافة اعتماد السينما على فن الرواية في السنوات الأخيرة الدور الذي لعبته السينما ولاتزال تلعبه في انتشار فن الرواية, والدليل ما حققته الروايات العالمية من شهرة وانتشار بفضل الشاشة البيضاء التي قدمتها إلى الملايين مثل "الحرب والسلام" لـ "تولستوي", "ذهب مع الريح" قصة مارجريت ميتشل, "أنا كارنينا" لـ ديستوفسكي, "دون كيخوتة" رائعة سيرفانتس, ورواية آرنست همنجواي "وداعاً للسلاح".

ولعل العقاد كان سيضحك ساخراً لو حدّثه متحدث عن الدور الذي أسهمت به رواية مثل "كوخ العم توم", في حركة تحرير العبيد في الولايات المتحدة أو الدور الذي لعبته روايات القرن التاسع عشر في تأسيس الوعي الحديث.

ويتعمق جابر عصفور محللاً متنقلاً ما بين السرد الأدبي, والسرد البصري السمعي, ويؤكد أن تقنيات الكتابة الروائية نفسها بعد السينما أصبحت تحتفي بالمدركات الحسيّة بوجه عام, والمدركات البصرية بوجه خاص مفيدة من تقنيات المونتاج واللقطات القريبة "Close-up", والاستعادات "Flash backs", بحيث تحقق التأثير المتبادل بين الرواية والسينما سرعان ما جمعت بينهما الجماهيرية كصفة متبادلة من تداخل "عصر الفيلم", مع "عصر الرواية".

ويقول جي دي موباسان في مقال مهم عن الرواية: الجمهور مكوّن من مجموعة مستويات لكنه يطالبنا كروائيين قائلاً: واسوني, سلّوني, أحزنوني, ابعثوا فيّ الحنان, اجعلوني أحلم, أرعبوني, أضحكوني, أبكوني, اجعلوني أفكّر.ومهارة تصميم الرواية لا تقوم أبداً على الانفعال أو الفتنة أو الإثارة, وإنما في الجمع البارع للوقائع الصغرى الثابتة التي سينطلق منها المعنى النهائي للعمل, وهي ما يسمى بالتفاصيل الصغيرة.

ويستكمل "جارسيا فينو" ما أوضحه موباسان مؤكداً على أن الرواية تستهدف رسم واقع معين للقارئ له صلة بالواقع العام, والمدارس الروائية كلها محاولات لرسم الواقع بدراية وفن وقوّة.

ونستخلص من قيمة التفاصيل الصغيرة كعنصر أساسي في البناء الروائي, مدى اقتراب هذه المواصفات من السيناريو الروائي التلفزيوني الذي يقوم في الأصل على مهارة اصطياد الوقائع الصغيرة وتجميعها في مشاهد ولوحات متتابعة تؤكد المعنى العام والإجمالي للعمل, أي ما ينطبق على الرواية المكتوبة, ينطبق تمام الانطباق على الرواية المكتوبة لكي تتحوّل بعناصر إضافية إلى روائية مرئية ومسموعة, وبعد المسلسلات التلفزيونية المكتوبة بحسّ روائي أدبي, وتتوافر فيها ولها كل عناصر الرواية الأدبية, بعد هذا, ألا يحق لنا أن نقول إننا نعيش "زمن الرواية التلفزيونية"? ولنأخذ "ليالي الحلمية" نموذجاً, لقد استفاد أسامة أنور عكاشة في البناء الروائي لها, من روايات نجيب محفوظ خاصة الثلاثية بصفة خاصة, ولم يفعلها أسامة في قفزة واحدة, ولكنه الحلم الذي طارده طويلاً, فقد كان في المهد "قاصاً", ولما استدرجه الإبداع التلفزيوني ظل لسنوات يحاول ويحاول ويتمرّن ويتدرّب, عبر أعماله العديدة: عابر سبيل, أدرك شهرزاد, المشربية, الحصار, أبواب المدينة, الشهد والدموع, وتأثر إلى حد كبير بروائع الأدب العالمي, وأخذ من جون شتاينبك "اللؤلؤة", وحولها إلى "وقال البحر" وهو أول عمل يقول صراحة إنه رواية تلفزيونية, ويضيف:

"عندما فكرت في أن أعد وأحوّل بعض القصص والروايات العالمية والعربية إلى أعمال درامية أدركت أنني في ورطة لأن المعد عليه أن يحوّل الخيال المطلق إلى خيال مجسّد ومحدد, وعليه أن يعادل الأدب المكتوب إلى أدب مرئي, وقد أدركت بعد تجاربي القليلة مع أجاثا كريستي ونجيب محفوظ أنني أتطفل على صاحب القصة الأصلية لأن الإعداد في تصوّري هو عملية تهجين, والسيناريو المعد في الغالب عن عمل أدبي هو مولود من أبوين مختلفين في الجنسية.

ولذلك اخترت بحاستي الأدبية أن أمارس إبداعي الكامل في رواية تكتب خصيصاً للتلفزيون, وإن كنت أدين بالفضل لثلاثة صنعوا عالمي الروائي وهم نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقي".

في تعريف "فورستر" للرواية يقول: "هي كل عمل خيالي يزيد على 05 ألف كلمة, والدعائم التي تقوم عليها هي الحكاية, الشخصيات, الحبكة الروائية, الخيال, التنبؤ, النموذج, الإيقاع".

وفي كتاب "بناء الرواية", تأليف "أدوين موير" يقول:

إن أبسط شكل للقصص النثري أن تحكي سلسلة من الأحداث هي بوجه عام خارقة للعادة, وأن يثير الكاتب موجة من الانفعالات الحادة كالتوقع والفزع والخوف والدهشة وغيرها باستخدام سياق مترابط لا مجرد وقائع متعاقبة وإحلال الحدث المركب مكان الأحداث الكثيرة المتتابعة.

وهذه المواصفات نستطيع العثور عليها بشكل أو بآخر في مسلسلات التلفزيون, على اختلاف مستوياتها, لكن الأعمال ذات الحسّ الروائي هي الأكثر ارتباطاً بالمتفرج, وقد قدم التلفزيون - خلال مسلسلاته كل الأشكال الروائية, فشاهدنا مسلسلات السيرة الذاتية من نوعية "الأيام" لطه حسين و"عبدالله النديم" و "أم كلثوم".

وهناك الرواية الشخصية من نوعية "أبو العلا البشري" والرواية التاريخية وما أكثرها, إلى جانب روايات الجاسوسية والروايات ذات الصبغة الملحمية.

وأهم أعمال الشاشة الصغيرة هي تلك التي كتبها أصحابها بمنهج روائي خالص, عبر وسائط من التصوير والتمثيل والديكور والاضاءة. ومن خلال رؤية المخرج وهو الجسر الذي يتم من خلاله تحويل النص الأدبي إلى نص مرئي مسموع, ولا يكفي وجود النص الجيد, لكي نرى رواية تلفزيونية عالية القيمة, متعددة المستويات الثقافية, بل إن المخرج والأدوات المكملة المساعدة له هم الحد الفاصل بين الجيد والرديء في عالم المسلسلات أو الروايات التلفزيونية.

وفي السنوات الأخيرة, قدم التلفزيون العربي خاصة في مصر وسوريا تحديداً العديد من الأعمال الشامخة, البارزة منها "الجوارح", "إخوة التراب", "زيزينيا", "المال والبنون", "بوابة الحلواني", "الضوء الشارد", "جمهورية زفتى", "جلباب أبي"... وغيرها, وكلها تتمتع بخصائص روائية أدبية عالية.

حتى الرجل البسيط الذي لا يقرأ ولا يكتب, تصالح مع أدب نجيب محفوظ ويوسف إدريس وثروت أباظة ويحيى حقي وبهاء طاهر وطه حسين ويوسف السباعي, وقرأ هذه الأعمال بالبصر والسمع والفؤاد.

وهاهو أحد الأدباء الشبّان في عام 1945, وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية, يكتب في مجلة "الرسالة" القاهرية:

"لقد ساد الشعر في عصر الفطرة والأساطير, أما هذا العصر, فهو عصر العلم والصناعة والحقائق ويحتاج حتماً إلى فن جديد قادر على التوفيق بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم إلى الخيال, وقد وجد العصر بغيته في القصة, فإذا تأخر الشعر عنها في الانتشار, فليس لأنه الأرقى من حيث الزمن, ولكن لأنه تنقصه بعض العناصر التي تجعله موائماً للعصر, فالقصة على هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديثة".

وتنتهي كلمات الكاتب الشاب الذي حصل بعد 43 عاماً من نشرها على جائزة نوبل كأعظم روائي عربي عالمي وهو نجيب محفوظ, وهو نفسه الذي بشّر شفاهة بعصر الرواية التلفزيونية بعد أن فتح الباب للرواية لكي تكون ديوان العرب بعد الشعر. وفي زمن الإنترنت, وثورة الاتصالات والأقمار الصناعية والمحطات المنتشرة في العالم, لا نتجاوز الرواية ولا الحقيقة, إذا قلنا إننا نعيش زمن الرواية التلفزيونية, وقد شهد شاهد من أهلها اسمه نجيب محفوظ عندما صافح أسامة أنور عكاشة وشد على يده قائلاً: أنت روائي العصر الحديث.. أنا كتبت للمثقفين وأنت تكتب للأجمعين.

الدراما العربية المستقبل والمصير

في كل استطلاعات الرأي, تأتي الدراما في مقدمة المواد الأكثر جماهيرية بين المشاهدين, والدراما العربية تستطيع أن تقهر حواجز الغربة وتكسر المسافات والحدود بين أرجاء الوطن العربي الكبير, لقد أدرك المشاهد الكثير عن اليابان من خلال مسلسل "أوشين", واستوعب تفاصيل الحياة الأمريكية أكثر من حياته العربية بفضل الدراما السينمائية والتلفزيونية بصفة خاصة التي تدخل كل بيت وتصل إلى مشاهده أينما كان وبالمجان.

والذين يتمسكون بحاجز اللهجات المحلية سبباً ومبرراً للحيلوله دون أن يتلقى المشاهد الغربي ما ينتجه الخليجي والشامي, وما ينتجه السوداني, هؤلاء نختلف معهم تماماً, لأن اللهجة المصرية مع وفرة الإنتاج وصلت للجميع, والسورية الآن تنتشر, ومع ذلك فإنني أتصوّر الإنتاج الدرامي العربي ناطقاً بلغة صحفية وسط, تصلح للجميع وبذلك لا نهدم الفصحى, ولا نقدم الدراما بطريقة جامدة باردة مثل عملية الدوبلاج التي تتم على المسلسلات المكسيكية وهي بكل المقاييس ضعيفة المستوى, هادمة للقيم والأعراف العربية واتحاد الإذاعات العربية بالتعاون مع بعض الشركات الخاصة يستطيع أن يلعب دوراً مهماً هو من صميم رسالته الإعلامية حتى لو تمثّل وتبلور ذلك في عمل درامي نموذجي تتكاتف فيه كل العناصر الفنية العربية ويمكن تسويقه وتوزيعه ودبلجته ليذاع في كل المحطات الأوربية والأمريكية.

أيضاً هناك اتحاد الفنانين العرب, ومهرجانات التلفزيون التي تقام هنا وهناك في شكل احتفاليات وجوائز ترضية للجميع دون تحقيق فائدة نأملها في رفع مستوى الإنتاج الدرامي والانطلاق به نصّاً وتمثيلاً وتكنيكاً وإخراجاً إلى آفاق جديدة.

والنص هو رأس الأمر كله, عندما تتوافر له الأركان والمقومات الروائية الأدبية والحرفة الدرامية, يستطيع أن يتجاوز الآفاق الضيقة التي يدور فيها من موضوعات اجتماعية حول الزواج والطلاق والصراعات الطبقية بين الفقراء والأغنياء والكبار والصغار.

وبداية, يجب الاستفادة إلى أقصى حد من الوطن العربي, من محيطه إلى خليجه, واستثمار تنوعه الجغرافي والبشري ليصبح "استديو" مفتوح الجوانب والأركان.

وتستطيع رواية التلفزيون أن تكون نقطة انطلاق ذهبية في إزالة الصدأ من فوق سطح القومية العربية, وحبل تواصل واعتصام بين الأشقاء عندما يدخل الليبي بيت الأردني, والعراقي بيت التونسي, والمغربي بيت اللبناني, والموريتاني بيت القطري.

وعندما أقول البيت, فإنني أعني العقل والوجدان, والضغط والتأكيد على عناصر الالتقاء والتوحد وإبرازها في قوالب فنية نستطيع أن نواجه من خلالها إعصار الشرق أوسطية, والمكان هنا باتساع الوطن شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً يعني اندلاع تلك الشرارة بين العربي وأرضه, حتى تتحقق عبارة "الوطن الواحد", ومهما تفاعل المواطن مع مجلات وصحف, فإن التفاعل الأعظم الأبقى يأتي من الدراما التي تقوم على المكان والزمان والإنسان في إطار صورة ملوّنة متحرّكة حية وكأنك تلمسها وتشم روائحها.

ومهمة الكاتب الروائي التلفزيوني مع الألفية الجديدة أن يتربّص للأزمنة العربية المضنية قديماً وحديثاً, ويعمل على اصطيادها وإعادة تصويرها وإفرازها درامياً, فيتحول الليل الحالك إلى نهار مشرق بالتلاحم والتواصل والاقتراب.

عناوين الختام

لن تنهار امبراطورية الكلمة المكتوبة لأنها أساس وصلب كل الإبداعات المرئية والمسموعة بأنواعها.

ومهما تغيرت وتطورت تكنولوجيا الصورة, تزدهر الرواية تحت جناح الشعر وتتجاوزه من حيث الجماهيرية لا القيمة, وتعلو رواية التلفزيون فوق الجميع, وأيامها قادمة, فالمحطات والقنوات لا تكفّ عن البث, وتبحث عن الجديد والمنافسة في ظل القنوات والسماوات المفتوحة ستدفع المبدع التلفزيوني إلى آفاق حداثية مبتكرة في عالم القص الدرامي المرئي, وعلى أهل الأدب المكتوب أن يواجهوا تلك الحقيقة بشجاعة مثلما فعلها نجيب محفوظ "أبو الرواية العربية", ولا أظن أن أستاذنا جابر عصفور سيترك الأمر هكذا كما أطلقته من عندي, ودون تعليق من عنده.

سمير الجمل مجلة العربي نوفمبر 2000

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016