مختارات من:

رواية "صخرة طانيوس" الفائزة بجائزة جونكور عام 1993

محمود قاسم

أشيب الشعر..
في الخامسة عشرة من العمر


كلمات قليلة تعمد الكاتب اللبناني الأصل، الفرنسي الجنسية أمين معلوف أن يضعها في صفحة منفردة في نهاية روايته الأخيرة "صخرة طانيوس" التي فازت بجائزة جونكور في الأدب لعام 1993.. وهي أن وقائع هذا الكتاب مأخوذة تقريبا بالكامل من حادثة حقيقية، حين قتل البطريرك في القرن التاسع عشر على يدي أبوكشيش معلوف الذي هرب إلى قبرص مع ابنه. أما بقية الشخصيات فمن وحي الخيال.

مثل هذه العبارة تعتبر مدخلا أساسيا إلى عالم أمين معلوف. فالكاتب يعود من جديد إلى أحداث حقيقية دارت في الماضي، ويستلهم من وقائعها روايته، ثم يضيف من خيالاته ما يتناسب مع روح روايته. حدث هذا حين رجع إلى ما كتبه الرحالة حسن الوزان في روايته الأولى "ليون الإفريقي" ثم إلى جزء من سيرة الشاعر عمر الخيام في رواية "سمرقند" وأيضا إلى ما توافر لديه عن حياة النبي ماني في روايته "حدائق النور" وأخيرا في " صخرة طانيوس".

لقد سعى معلوف دوما إلى أن يضفر الخيال بالواقع، وأن يجعل الأول في خدمة الثاني، ومحاولة لإحيائه بأي ثمن. فبدت هذه الضفيرة ذات شكل خاص بالكاتب، مهما اختلف الزمان أو المكان الذي تدور فيه أحداث كل رواياته.

وفي روايته الأخيرة، سعى معلوف من ناحيته إلى اتباع نفس الشكل الأدبي الذي سبق أن استخدمه في رواية "سمرقند" حيث أتى في البداية إلى العصر الحديث، مشيرا إلى أن هناك وثائق يمكن أن تلقي الضوء على المرحلة الزمنية التي يود التوغل فيها. فإذا كان هناك باحث أمريكي من أصل عربي قد تمكن من العثور على أوراق تخص الخيام، فإن المؤلف - كراوية - في "صخرة طانيوس" يؤكد عثوره على وثائق مهمة تلقي الضوء أيضا على جريمة القتل التي حدثت في الرواية عام 1838 بإحدى الضيعات اللبنانية والتي انتهت باختفاء شخص يسمى "طانيوس" أطلق اسمه فيما بعد على الصخرة الكبرى المجاورة لضيعته "كفر عبيده".

يقول الكاتب في الصفحات الأولى من روايته عن هذه الصخرة: "تأملت كثيرا هذه الكتلة من الحجارة دون أن أجرؤ على الاقتراب منها. ليس بسبب الخوف من الخطر فالصخرة بالنسبة لقريتنا هي لعبتنا المفضلة خاصة بالنسبة للأطفال. فقد اعتدت أن أرى الصغار الذين يكبرونني يتسلقونها. وفيما بعد لم يكن لدينا أي لعبة سوى أن تلتصق جلودنا بالصخرة ونحن لا نستطيع مقاومة سحرها".

حقيقة "أبوة" طانيوس

والكاتب الذي سوف يحكي لنا ما شهدته هذه الصخرة طوال ردح من الزمن، عليه في البداية أن يعرفنا على أبطال هذه الحكاية الرئيسيين قبل أن يروي لنا وقائعها، وقبل أن يحدثنا بالتفصيل عن الضيعة كمكان أشبه بحصن يضم في حشاياه كل هؤلاء البشر، الذين إذا ابتعدوا عنها أحسوا كأنهم السمك الذي خرج من الماء.

فأبطال هذه الحكاية هم: لمياء، والشيخ فرانسيس، ثم جريوس، والمرأة هي محور الأحداث هنا، ويتسمى الفصل الأول كله باسمها "إغواء لمياء" إنها تحمل جمالها كأنه عقيدتها. هي زوجة للقروي البسيط جريوس. وتعمل في منزل عمدة الضيعة وشيخها فرانسيس. وفي هذا البيت طلب جريوس يدها للزواج. فهي بمثابة ابنة لفرانسيس الرجل الذي يمزج بين الطيبة والقسوة. وبين متناقضات عديدة مثل أغلب البشر الذين يمتلكون مقدرات الأماكن والبشر.

والشيخ فرانسيس هو سيد الضيعة ولذا فكم يتمنى الجميع الحصول على رضائه، وحيث يردد أحدهم مثلا: "لقد رأيت الشيخ اليوم" بشيء من الغمز، بينما يردد الآخر: "اليوم قبلت يد الشيخ" كأنه حصل على رضاء الزمن. فهذه اليد - كما يقول معلوف - قد تأتي بالسعادة، أو التعاسة لأبناء الضيعة. وهي من القوة بحيث إنها تمثل مهابة خاصة لهؤلاء الذين ذاقوا قسوتها حين انهالت عليهم مصائبها. يجب أن يحترمه الآخرون، وأن يطلبوا حمايته، وربما أشياء أخرى خاصة النساء.

تلك كانت ملامح عابرة عن الشخصيات الرئيسية التي ستكون ذات علاقة فيما بعد بالوليد طانيوس ابن لمياء. أما المكان فهو ضيعة غير موجودة على الخريطة اللبنانية تسمى "كفر عبيدة" ولكنها تمزج بين سمات العديد من الضيعات في ذلك العصر. إنها واقعة هناك في الجبال، تخضع للنظام الإقطاعي، حيث يملك الشيخ الكثير رغم أن النظام الإداري في ذلك العصر سيفرض عليه حاكما وبطريركا. والناس في هذا السهل المنخفض لا يتطلعون إلى أعلى، فهم يرون أن العمدة لا يمكن أبدا تجاوزه. ولذا فإن معلوف يفرد له عددا من الصفحات للحديث عما يتمتع به من سمات متناقضة.

أما الزوج جريوس، فهو رجل قليل الكلام، والابتسام. ولم تكن لمياء تطمح في أن يكون لها زوج خلافه، رغم أنه يكبرها سنا "بين الزوج وامرأته كانت هناك مسافة زمنية". فقد كانت في ربيعها الخامس عشر، أما هو فكان في خريفه الثلاثيني. ومع ذلك فهي سعيدة. بل إن الكثير من نساء القرية يحسدنها على مكانتها. فهي ذات حظوة خاصة بالنسبة للشيخ الذي يناديها أمام الناس بـ "بنتي" وهي حين تسمع هذا النداء تشعر بسعادة غامرة، ولكن يقال إن حدود هذه العلاقة قد تعدت مرحلة الخطر. لذا فعندما ولد "الصغير" طانيوس راحت تثور الأقاويل عن هوية الأب الحقيقي: هل هو فرانسيس أم جريوس؟.

لقد ظل هذا الأمر الموضوع الرئيسي لأهل الضيعة "رغم أنهم يتكلمون أقل، إنهم يأكلون ما يكفيهم ويتعاملون مع الشيخة زوجة فرانسيس بنوع من الازدراء، عكس نظرتهم إلى زوجها " وليست هناك إشارة من سكان القرية إلى حقيقة أبوة طانيوس، ولكن الكاتب أشار إلى ذلك تلميحا في البداية. ثم ما لبث الأمر أن تأكد فيما بعد.

ثلاثة أزمنة.. متراكبة

فليست لمياء مجرد خادمة في البيت، ولكنها عندما تدخل على الشيخ تقدم له الفاكهة، تشاركه التقاط بعض الثمار رغم أنها أعلنت لزوجها، خفية، عن مخاوفها من الدخول إلى الشيخ لأنه يطلب منها في بعض الأحيان أشياء أخرى لا تلبث أن تتهرب من الحديث عنها، حتى لا تثير شكوك زوجها.

وقد أشار المؤلف إلى أن لمياء ظلت بعد زواجها من جريوس مسطحة البطن طوال عامين. وأنها قد حملت بعد أن تناولت من ثمار تلك الفاكهة، ولذا ولد طانيوس في يوم صيفي ولكنه ملبد بالغيوم. وقد احتار أبوه في اختيار اسم له فكان "عباس" أولا، ثم استقر المقام على طانيوس وهو اسم غريب بالنسبة للضيعة التي اعتادت أن تطلق أسماء أخرى على أبنائها.

وقد حاول معلوف أن يعطي العديد من التفسيرات للتسميات اللبنانية، فاسم عباس كان تيمنا بعم الرسول "صلى الله عليه وسلم" الذي سمي باسمه اثنا عشر خليفة حكموا المنطقة العربية ردحا طويلا من الزمن. أما اسم فرانسيس فقد استمد من القديس فرانسوا داسيس الزاهد المعروف.

وهناك فصل بأكمله حول الخلاف الذي دار إلى أن استقر على اختيار اسم الوليد الجديد. لكن المثير حقا هو ذلك الفضول الذي استبد بإحدى النساء لمعرفة الاسم الحقيقي الذي على الوليد أن ينتمي إليه. هل هو الزوج جريوس، أم الشيخ فرانسيس؟ فذات يوم أتت زوجة القس إلى بيت الرجل. ويدور بينهما حوار مثير: - آخر مرة، طلبت يد "بونا" بطرس وأعطيتها لك. فماذا تريد هذه المرة؟.

- هذه المرة أريد يدك، يا شيخ.

ويرتبك الرجل، ولكن المرأة، التي هي أيضا شقيقة لمياء، تطلب منه أن يعترف لها، حتى وإن كانت امرأة، إذا كان هو الأب الحقيقي للوليد، وبكل ثبات وثقة يردد: "إذا وددت أن تعرفي.. فهذا الطفل ليس من صلبي " وهو يعلم تماما أنه كاذب.

ورغم أن الشيخ يكذب، فإنه يذهب إلى بيت لحم من أجل إقامة مراسم الحج. أما جريوس الزوج، فإنه يتلقى التهاني وعليه أن يصدق جيدا، داخل نفسه، أن طانيوس ابنه. فهو إذا لم يصدق ذلك فسوف تتحول حياته إلى جحيم.

وينتقل الكاتب من الهم الخاص، إلى الهم العام، فالبلاد في تلك السنوات تعتبر طريق مرور للجيوش المصرية إلي الشام، والعاصمة العثمانية، بينما يعم إحساس بأن هناك نهضة قادمة، كأن لبنان تستعد لدخول العصر الحديث.

والجدير بالذكر أن معلوف هنا قد استخدم ثلاثة مستويات من الأزمنة فهو يعود من عام 1838 إلى 1821 حين ولد طانيوس. ثم هناك زمن المؤلف نفسه، الذي يروي في إطاره وقائع الرواية باعتبار أن أحداثها قد انتهت، ولعل هذا يذكرنا بنفس الكيفية التي تناول بها الكاتب الكولمبي "جابرييل جارثيا ماركيث" روايته "وقائع موت معلن عنه "، فنحن سلفا نعرف ما ستسفر عنه الأحداث، لكن من أجل معرفة المزيد- وحكي التفاصيل مثير دائما للمتعة - يجب علينا أن نقرأ الرواية.

وإذا كان المؤلف قد انتقل بين هذه الأزمنة، بكل سهولة، فإنه فيما بعد يختار أن يتتبع طفولة طانيوس الذي ينتظر مصيرا قدريا مليئا بالمعاناة، فهو مولود حاملا معه "ثأره" الخاص. تحوطه تلك الصخرة الرابضة في التاريخ التي عليها أن تتسمى فيما بعد باسمه. وهناك أيضا أبواه: أحدهما حقيقي والآخر يحمل اسمه.. ومجموعة من الأشخاص الذين سيلعبون دورا مؤثرا في مصيره مثل البطريرك وهو رجل أشد قسوة وظلما من فرانسيس.. وأيضا حاكم البلاد الذي يصدر الفرمانات الواجبة الطاعة.

طفل أشيب

الجدير بالذكر أن هناك تقاربا واضحا بين بعض وقائع هذه الرواية، ورواية ماركيث السابق الإشارة إليها، ليس فقط في الصياغة الأدبية، ولكن أيضا في أن أحداث كلتا الروايتين مأخوذة عن وقائع حقيقية ذات علاقة بالمؤلف نفسه.

وقد اختار معلوف أن يجري بالسنوات، حتى بلغ طانيوس سن الصبا. فما إن أصبح في الخامسة عشرة حتى انقلب فرانسيس فجأة على معاونه القديم "رافوز" بعد أن رفع حصة الضرائب "الميري" فلم يكن أمام الرجل سوى الهروب. وما لبث الإقطاعي أن أصدر أمره بمنع دخوله الضيعة. ويشير المؤلف إلى أن السبب الحقيقي لهذا الغضب والطرد ليس أبدا الضرائب وإنما لأن الإقطاعي حاول أن يغرر بامرأته مثلما فعل مع لمياء، ولكنه تصدى له، وما لبث جريوس أن حصل على وظيفته، ولكن "رافوز" ما يلبث أن يعود ومعه شفاعة من نائب الحاكم المصري للعفو عنه. ثم يلتقي بطانيوس الصغير ذات يوم فيحدثه أنه ليس مطلوبا منه أن يقبل يد الشيخ يوميا، مثلما يفعل أبوه. ولكن عليه أن يدرس ويتثقف، ويصبح بذلك أباه الروحي.

ويقبل طانيوس على التعليم، ويعرف أن هناك فرقا بين ما يتلقاه من معرفة وبين ما يدور من حوله من عادات وتقاليد. ويزامله في الدراسة "رعد" الابن الشرعي للشيخ فرانسيس. وتتوطد العلاقة بالبطريرك ويتردد الرجلان على بيت الحاكم العام للجبل.

وفي الضيعة هناك شخص آخر يدخل في خضم الأحداث يدعى "القس شتولتون". والذي يروي في مذكراته أنه فوجئ بأن السنوات تقدمت فجأة بطانيوس، وأنه رغم سنوات عمره الخمس عشرة فإن بعض الشعيرات البيضاء قد بزغت في رأسه: "تصورت أن هناك أسطورة في هذا الركن من الجبل تتعلق بالشيب الذي يصيب الصغار. وبالفعل يحدث هناك شيء مرعب".

وتشاع الأقاويل عن علاقة ما بين زوجة القس وبين "رعد". وفي مجتمع صغير مغلق مثل هذا لا تلبث أن تتسرب الحكايات، الحقيقي منها والمزيف، فلا شيء يختبئ بما فيها حكاية أبوة طانيوس. فإن قصة رعد تنتشر على ألسنة النساء، وتعود إلى الأذهان قصص الأب القديمة. ويغلق الصبي طانيوس على نفسه أبواب المكتبة من أجل الاستزادة من المعرفة، ربما رفضا لهذا العالم، وربما بحثا عن وسيلة أفضل لفهم الحياة. ثم يحس أن هناك مشاعر ما تنتاب المرء حين يرى فتاة جميلة، مثل "أسماء" التي يحبها ذلك الحب الطفولي الجميل، ويحاول في البداية أن يحفظ سره في داخله. إنها ابنة معلمه الكبير "رافوز" الذي يناديه دائما بـ "ابني". وهي لم تتجاوز الثالثة عشرة بعد لكنها أيقظت فيه مشاعر رائعة مقدسة.

الثأر على طريقة طانيوس

لكن هذا الحب النقي في حياة طانيوس لا يلبث أن يختفي، ففي عام 1938 تتعرض الضيعة لهزة أرضية عنيفة تصدع قصر فرانسيس الضخم، والذي يعيش فيه أغلب أبطال الرواية، كما تتصدع المنازل القروية. وينتج عن ذلك سلسلة من المآسي. فبالإضافة إلى الموت. هناك القحط. ويقرر الحاكم مضاعفة الضرائب، أما البطريرك فيحس أن عليه أن يمارس سلطاته لمصلحته الخاصة. إنه رجل لا يهمه أن يكون هناك شرف، بل أن تأتي إليه العوائد بأي ثمن وهو لا يكن للمشاعر النبيلة أي تقدير، حيث يسعى إلى أن يزوج "أسماء" لابن أخيه.

ويصاب طانيوس بألم عظيم ويهرب إلى امرأة أخرى "لقد عرفت امرأة، لم أكن أتكلم لغتها، ولم تكن تعرف لغتي. لكنها كانت تنتظرني على السلم. وذات يوم طرقت بابها لأخبرها أن سفينة تنتظرنا من أجل الرحيل".

ويرحل طانيوس بعد أن مات البطريرك صريعا برصاصة أصابته بين حاجبيه. كما يموت جريوس مقتولا. وتندلع حرب طائفية في الضيعة، بالغة القسوة مثل حرب الأمس القريب في لبنان. وكما يقول "شتولتون" في أوراقه الخاصة: "لقد رجوت طانيوس أن يرحل. كان هذا هو واجبي نحوه. وأنا أقول له: فكر، فأنت لست صاحب مصلحة في هذه الحرب. ليحكم المصريون جبلك، أو العثمانيون، وليلعن الفرنسيون الإنجليز، لكنه ردد: لكنهم قتلوا أبي".

وعندما يرحل طانيوس إلى قبرص، تنقطع صلته بضيعته، فلا أخبار تأتيه من هناك، كما أن أخباره لا تصل إلى أهله، وخاصة أمه لمياء. إنه واحد من كثيرين سافروا بسبب هذه الحرب إلى لندن وباريس وفيينا والقاهرة، ولكن قلوبهم ظلت معلقة بالوطن، يرغبون في عبور البحر للعودة حتى لو تعرضوا للنيران. ويفكر في العودة من أجل الثأر. لقد وجد نفسه أمام وجهي عملة للثأر: الأول مرتبط بدماء أبيه، والثاني يتعلق بالازدراء الذي يحسه داخل نفسه، وتنسكب الأحزان والهموم داخل قلب الشاب الذي أصبح شعره أبيض تماما. رغم براءة وجهه "أنت يا طانيوس يا ذا الوجه الطفولي، والرأس المتسع لستة آلاف عام، لقد عبرت أنهار الدم والوحل وخرجت كالشعرة من العجين، لقد مزجت جسدك بجسد امرأة، وألقيت بعذريتك فوق الأرض. اليوم أصبح مصيرك معلقا وبدأت حياة أخرى، فانزل من فوق صخرتك، وانغمس في البحر، واجعل جسمك يلعق نقطة واحدة من الملح".

لكن طانيوس لا يعود لينتقم على طريقة الثأر العربي، بل ليرى أمه. فيكون اللقاء حارا للغاية التي تصرخ باكية: "أنا في حاجة إليك. فلا تبتعد مرة أخرى". ولكن الغريب أن طانيوس عاد ليختفي من جديد، ويكون الاختفاء هنا أقرب إلى عبثية مصائر أبطال الأساطير الذين لا يعودون أبدا، فقد فشل طانيوس الشاب الأشيب في الاندماج داخل هذا العالم الضيق، المليء بالقسوة. ولذا لا يجد أمامه سوى حل واحد هو الخروج من الوطن. وقد تحدث الكاتب عن هذا الخروج في حديثه إلى إبراهيم العريس في مجلة الوسط "العدد 94" قائلا: " لا يهمنا أين ذهب. وكيف ذهب. يهمنا قراره كرد فعل على ما يحدث. النهاية هي خروجه من عالم الرواية، اختفاؤه. هذه هي فكرة الكتاب. حكاية الهجرة ما قبل الهجرة. فإذا كان علي أن أواصل سيكون من الضروري أن أحكي قصة أخرى لا علاقة لها بالأولى".

كلمات عربية.. عربية

تلك كانت وقائع رواية "صخرة طانيوس" لأمين معلوف، وقد حاولنا سردها قدر الإمكان، رغم صعوبة ذلك كثيرا. فمعلوف ليس فقط روائيا موهوبا، ولكنه لا ينسى في داخله المؤرخ والصحفي. فهو لا يحدثنا عن قصة "ثأر" امتلأ التاريخ العربي بالملايين من أمثالها، ولكنه يروح يؤرخ للبنان، في تلك الآونة، وينقل صورة صادقة وحية لكل ما كان يحدث في ضيعة لبنانية في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقد وقع معلوف في حيرة لترجمة الأسماء والألفاظ إلى الفرنسية التي يكتب بها فتركها في أغلب الأحيان عربية بلا دلالات. وكأنه كتب "صخرة طانيوسس" لأبناء وطنه الذين يعرفون الفرنسية وليس لقراء اللغة الفرنسية، أيضا وليس للقارئ العربي الذي لا يعرف الفرنسية. وتلك سمة واضحة لدى الأدباء العرب الذي يكتبون عادة باللغة الفرنسية.

محمود قاسم مجلة العربي فبراير 1994

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016