منى مصطفى واصف جلميران.. هذا هو اسمي الحقيقي، وقد اختصرته مع دخولي ميدان الفن إلى (منى واصف)..
وفي وقفتي في (مرفأ الذاكرة) أستعيد أيام طفولتي بنوع من الشجن المشوب برغبة ملحة في محاولة استيحاء تلك الأيام بطريقة الذين يتجاوزون الجراح القديمة إلى نوع من استقراء العبرة والموقف، والإصرار على تحدي الذات. وعلى العطاء والإبداع، وليس بموقف من يريد أن يغفر ويستغفر، فالنظرة اليوم إلى تلك المرحلة المختلفة عن حالة المعايشة الطفولة، وأنا الآن أقف على قمة أحاسيسي المترعة، بعد هذه المسيرة الحافلة التي تفرعت عبر المسرح والسينما والتلفزيون، والانتشار على أكثر المحطات العربية الفضائية والأرضية.
أبي من أكراد الموصل الذين هاجروا إلى دمشق، واسمه الكامل مصطفى واصف جلميران، والدتي إيلين عبود الأزرق من قرية سورية جميلة اسمها "حب نمرة"، التقيا وتزوجا وأنجباني في التاسع من فبراير من عام 1942، وكان أبي شبه مهزوم، وهو أشبه بالأبطال المسحوقين لدى الكاتب الروسي مكسيم غوركي، على عكس أمي التي كانت قوية الشخصية، ولعل هذا ما جعلهما يفترقان بالطلاق وكنت في السادسة من عمري.
كانت أمي امرأة متميزة، جميلة وقوية ومعتدة بنفسها، وتتحمل المسئولية، أخذتنا من أبي ناجزاً، أي أنها تكفلت برعايتنا وأعالتنا، وماتت في السابعة والأربعين، وكانت قد تزوجت من رجل آخر، موظف كبير في المالية عشنا في كنفه.
في المدرسة- ومنذ المرحلة الابتدائية (في مدرسة الفيحاء)
- كنت متفوقة في دراستي، وبصورة خاصة في دروس مادة التعبير والإنشاء، وظلت كتاباتي التعبيرية مجال تداول بين المعلمات لعدة سنوات، على عكس مادة الرياضيات التي سببت رسوبي مرتين في امتحان الشهادة المتوسطة (الكفاءة) فتركت الدراسة، وخرجت إلى العمل، عملت بائعة ملابسه نسائية، وعملت بائعة نوع من الحلوى اسمه غزل البنات في معرض دمشق، وعملت عارضة أزياء وراقصة شعبية في إحدى فرق الفنون الشعبية لمدة سنة، اكتسبت خلالها ليونة الحركة والأداء ومواجهة الجمهور، ولم أدخل الفرقة لأصبح فنانة، بل كان دخولي من أجل المعاش، ولكن يبدو أن القدر كان يخبئ لي شيئأ آخر.
بدأت رحلة الفن مع المسرح عندما أعلن المسرح العسكري في دمشق عن حاجته إلى ممثلين وممثلات، فتقدمت ونجحت، وأهلتني موهبتي الفنية التي ظهرت مبكرة لأن أصبح بطلة الفرقة التي كان مديرها ومخرجها محمد شاهين.
كانت أول مسرحية قدمتها هي "العطر الأخضر" عن نص مسرحي فرنسي، وكان ذلك في بداية عقد الستينيات، وأذكر أن أحد الصحفيين نشر لي صورة على عمودين في صحيفة النصر وكتب تحتها: "منى واصف، احفظوا هذا الاسم جيدا، سيكون له شأن في عالم الفن ".
وبعد ذلك قدمت ثلاث مسرحيات مع المسرح العسكري هي: "افتحوا النوافذ للشمس"، و"أفول القمر" لشتاين بك و"طبيب رغماً عنه" لموليير.. وفي عام 1963 تزوجت من مدير الفرقة ومخرجها محمد شاهين الذي أصبح آنذاك مديراً للتلفزيون السوري.
كان زوجي- وهو من مواليد 1932- يكبرني بعشر سنوات، وقد أحاطني بعطف الأب وحنان الزوج، وهو فنان طموح شعرت معه بالأمان، ولكنه أصر على أن أعتزل الفن، وامتثلت لشرطه على مدى أشهر، وقبعت في البيت شبه مقهورة، كنت أشعر أنني لم أخلق لمثل هذه الحياة الروتينية، وكان أن تدخل المخرج رفيق الصبان ومعه وزير الإعلام آنذاك، وأقنعا زوجي بإعادتي إلى الفن، ولو لم يوافق لكنا وصلنا إلى نقطة الفراق.
وأحب أن أستدرك هنا لأقول: في بداية الستينيات تشكلت ثلاث مجموعات رئيسية في دمشق: فرقة المسرح العسكري، ندوة الفكر والفن، المسرح القومي.
هذه المرحلة كانت نقلة نوعية مهمة في تاريخ المسرح السوري، وهي تؤرخ لمرحلة متطورة للمسرح في سوريا بحيث نستطيع أن نسميها مرحلة الولادة الثانية، بعد تجاوز واقع ومفهوم الفرق الخاصة التجارية، أو فرق الهواة، إلى واقع الفرق الرسمية التي تعمل بإشراف الدولة.
ومرة ثانية أحب أن أستدرك- ما دمنا في مرفأ الذاكرة- لأقول إنني وبعد عودتي إلى الفن بعد الاعتزال القسري الذي دام حوالي عام، ولدت ابني البكر عمار فاعتزلت الفن من أجله سنة واحدة، ولكن بإرادتي هذه المرة، ثم عدت لأتابع مسيرتي في المسرح القومي الذي كنت بطلته على مدى عشرين عاماً، وقدمت على خشبته وفي مواسمه ثماني وعشرين مسرحية باللغة العربية الفصحى، وفي أعمال صعبة وخاصة من المسرح العالمي، كانت آخرها مسرحية "حرم معالي الوزير" التي أعيد تقديمها ثلاث مرات خلال ثماني سنوات، وقدمت في الفترة نفسها مسرحية غوغول الشهيرة "المفتش العام".
أشعر دائماً أن المسرح لدي أكثر أهمية من التلفزيون أو من السينما، فهو أبوالفنون، وهو الذي يحقق التواصل المباشر مع الجمهور، ولذلك لا أستطيع أن أدير ظهري له.
كنت أقرأ كل ما كتب شكسبير وما كتب عنه إذا شاركت في تقديم مسرحية له، حتى أعرف مسرح هذا الكاتب، وحتى أكون مؤهلة للدخول في حوار حول العمل وحول مسرح شكسبير بشكل عام، وهذا ينطبق على بقية الكتاب الذين كنا نقدم لهم أعمالهم، حتى عندما كان المخرجون يختارون فنانين للسينما والتلفزيون، كانوا يختارون منهم الأنضج مسرحياً.
لم أكن منذ البداية، أحب الأدوار العادية أو الروتينية، الأدوار الباردة والمتشابهة، كنت أحب- وما زلت- الشخصيات الاستثنائية والمركبة والصعبة، وكنت أحب النموذج الطفرة بين النساء، سلباً أو إيجاباً، كدور "هند" في فيلم الرسالة، ودور "زنوبة" في فيلم "بقايا صور" ودوري في "الشمس في يوم غائم" وبقية أدواري في المسرح وهي كثيرة.. وكنت أتوق إلى دور الملكات، ولا أحلم بالسلطة على أنها دائماً قسوة وشراسة وبطش، ولهذا أحببت دوراً مثل دوري في مسرحية "حكاية حب" لناظم حكمت، وعلى الطرف الموازي شدتني مثلاً الملكة جليلة بنت مرة في مسرحية "الزير سالم" في انتقامها وفي أخذها بالثأر الذي دفعت ثمنه "جوكاست" التي أديت دورها في مسرحية "أوديب ملكاً".
وفي التلفزيون حققت طموحي الملكي في دور الملكة "زمرد خاتون" في مسلسل "الذئاب"، وهي الملكة التي قتلت ولدها في سبيل الحفاظ على السلطة والعرش، ومع هذا لم يبق معي شيء من هذه الشخصيات، أصبحن صديقات بعيدات.
وإضافة إلى هذه ا لأدوار، أعشق "لوسي" في مسرحية جان بول سارتر "موتي بلا قبور" وأحب شخصية "دورين" في مسرحية "طرطوف" وشخصية "جيفيكا" في مسرحية "حرم سعادة السفير"، وعلى الرغم من أنني أنتهي من الشخصية بعد أدائها، فإنها عندما تذهب تترك مجرد ندبة في نفسي، لأن أكثر أدواري كانت حزينة وشرسة ومقاتلة وحنونة في الوقت نفسه. وقد ذهبت "الخنساء" وخلفت لي أصداء المراثي عن "صخر" ومازلت بين حين وآخر اسمع صراخ "منيرة" في مسلسل "أسعد الوراق"، ولكني أحاول تجاوز الشخصيات السالفة إلى شخصيات قادمة.
في تجربتي مع الشاشة الصغيرة لم أحاول يوماً أن أحصي عدد الأعمال التلفزيونية التي شاركت فيها وهي كثيرة ومنوعة، ذلك لأنني لا أهتم كثيراً بالكم إذا لم يكن متوازياً مع الكيف، وقد لعبت على الشاشة الصغيرة أدواراً كثيرة متباينة.
وأصارحكم أنني أشعر بسعادة كبيرة لأن الله وفقني في هذه الأعمال التي كانت علامات متميزة في مسيرة التلفزيون العربي بشكل عام، كما أعترف بأن التلفزيون نقلني إلى الوطن العربي وحقق لي المزيد من الانتشار.
لقد سألني أحد الصحفيين مرة ان كنت قد تمنيت أن أؤدي دوراً معيناً على الشاشة، فأجبته.! "تمنيت أن أؤدي دور "شجرة الدر" ودور "أنديرا غاندي" فهاتان أنموذجان متميزان للمرأة على الرغم من اختلاف الشخصية بينهما".
وإذا كان الفنانون قد هجروا المنصة إلى الشاشة فلأن هذا يرتبط بالإبهار والانتشار اللذين أحدثهما التلفزيون في العالم. بالإضافة إلى المردود المادي الأكبر، ومع هذا تظل للمسرح ريادته التاريخية وتأثيره المباشر في المتلقي، وقيمته الفنية الكبرى إذ إنه أبو الفنون على الإطلاق منذ خمسة وعشرين قرناً حتى الآن.
وهناك موضوع أحب أن أقف عنده وهو الانطباع الذي قد يتكون لدى البعض حول طريقة تقديم دور المرأة القوية. وعما إذا كان جزءاً من شخصيتي الحقيقية.
صحيح أنني أسعى لتشخيص دور المرأة القوية والمنتقمة والمتحكمة، وأنا أعتز بثقتي بنفسي، ولكن في أعماقي امرأة مختلفة عن أدواري، فأنا في الحياة العادية لا أؤمن بالنقمة أو بالانتقام.
ولا أفلسف تعاملي كثيراً مع الحياة، بل أعيش الكثير من حالاتي ببساطة متناهية، فأنا أمرض إذا كانت هناك صديقة عزيزة علي تعاني المرض، وأتصل بها باستمرار لأطمئن عليها، لقد وجدت نفسي كممثلة وكإنسانة وضمنت المكانة الاجتماعية التي أبعدتني عن الملل، وأعني تحديدا الملل والضجر الشرقي، أنا أجلس في البيت ساعات طويلة باختياري، وأقرا ساعات طويلة باختياري، أجد متعتي أحياناً في سقي أصص الزرع والورد في منزلي، ومع هذا ما زلت اعتقد أن أكثر الفنون عندنا، ومنها التلفزيون، لم تقدم الصورة الحقيقة للمرأة العربية كامرأة وكإنسانة وأتساءل دائماً: متى تخرج المرأة من ركن التعليب إلى النور؟
وأنتقل إلى تجربتي مع الشاشة الكبيرة، السينما، وهي عشرة أدوار في أفلام أعتز بها، وأدوار أخرى في القطاع الخاص، أعترف بأنها لم تكن في المستوى الذي يرضي طموحي، وكانت في فترة البدايات.
وأحب أن أقف هنا بصورة خاصة مع فيلم "الرسالة" للمخرج مصطفى العقاد، عندما اختارني للدور لم يكن قد رأى لي سوى دورين صغيرين بعد أن حدثه عني المرحومان عبدالرحمن الشرقاوي وعبدالله غيث.
كان أداء دور "هند بنت عتبة" يحتاج إلى شجاعة استثنائية والى مقدرة استثنائية، خاصة أن دورها في قريش جعلها تقرر ذلك الثأر المرفوض من الوجهة الأخلاقية والدينية، أي أن الدور كان سلبياً وكان منطلق مصطفى العقاد في إسناد هذا الدور لي في النسخة العربية، والى الممثلة إيرين باباس في النسخة الأجنبية هو: "عليك أن تختار الممثل المناسب للدور المناسب، كي يعطيك الأحسن، لا أن تعطيه أنت كمخرج".
كان هناك بالطبع اختلاف في أداء الدورين، في التصور، وفي الحركة، وخاصة في المشهد الذي تقرر فيه هند الانتقام بعد موقعة بدر، وكان هذا الاختلاف إحدى ميزات الفيلم.
وإذا ما كان فيلم "الرسالة" قد أوصلني إلى العالمية، فانني أقول إنه لا يهم إن كان قد أوصلني أو أوصل غيري إلى العالمية، المهم أن مقولة الفيلم وصلت إلى العالم، وبمثل هذا النوع من الأفلام يمكن للسينما العربية أن تصل إلى العالمية.
ولعل القارئ الكريم يلاحظ أن أربعة أفلام من أفلامي مأخوذة عن روايات للكاتب الكبير حنا مينه وهي: اليازرلي- بقايا صور- الشمس في يوم غائم- آه يابحر.
فحنا مينه كاتب روائي كبير، ويكتب بشفافية وانسانية عن المرأة، حتى عن نموذج الساقطات، يتحدث عن أجسادهن التي جرحت، ولكنه يقدم نفوسهن بنبالة، أنا أحب أدب مينه، ومتأثرة جداً بنسائياته، وأنا سعيدة، بتشخيص أدوار أربع من بطلات رواياته.
إذا تحولت إلى بعض حالاتي خارج العمل الفني، وأنا التي أحب أن أجسد نموذج المرأة الفارسة متحدية احتكار الرجل هذا اللقب، أقول- كما أجبت عن أسئلة من هذا النوع كانت تطرح عليّ- إننا لا نرى نموذج الرجل الفارس إلا في الروايات والمسرحيات والأفلام، وعندما تم انتخابي لمنصب نائب نقيب الفنانين، كانت المفارقة حتى في التعريف أي في المشكلة اللغوية، فالذكورية هي الطاغية في مثل هذا المجال، لأن صفة النيابة هي للمنصب وليس لصاحبه كما نقول إن المرأة في المجلس النيابي "عضو المجلس".. علماً أن موضوع الجنس لم يعد مطروحاً في هذا المجال بعد أن دخلت المرأة أكثر الميادين بكفاءة لا تقل عن كفاءة الرجل، إن لم نقل إنها تفضله في بعض الأحيان، وما أقوله عن منصب نائب النقيب أقوله عن تجربة ترشيح نفسي لمجلس الشعب السوري (البرلمان)، فقد حصلت على ثمانية وعشرين ألف صوت دون أن أقوم بأي دعاية وكنت بحاجة إلى سبعة آلاف صوت للنجاح.. وقد رشحت نفسي لأن السياسة لا يمكن أن تنفصل عن حياتنا العصرية، فهي جزء منها، والفنان يجب ألا يكون معزولاً عن حياة الوطن والأمة والعالم، ولم يشكل لي عدم النجاح أي عقدة بدليل أني قد أرشح نفسي لدورة قادمة، لأنني أستطيع من خلال هذا المجلس أن أتبنى قضايا كثيرة وبصورة خاصة قضية المرأة العاملة.
وإذا كان لنا في مرفأ الذاكرة لابد من الاقتراب من بعض الخصوصيات، كالحياة الزوجية مثلاً، خاصة أنني متزوجة من فنان، وهناك لغط كبير حول استمرارالحياة الزوجية في مثل هذه الحالة، فأقول: موضوع النجاح أو الفشل في الحياة الزوجية مرتبط بحالات مختلفة ومتباينة وكثيرة في حياة الناس جميعاً وليس في حياة الفنانين فقط، ولكن لأن أهل الفن في دائرة الضوء فهذا يجعل من زواجهم حدثاً ومن طلاقهم "جرسة"كما نقول في الشام، إن لقاء الزوجين على أرضية من المحبة والتفاهم والاحترام المتبادل يكفل الاستمرار والنجاح لزواجهما، وقد يكون زواجهما سبباً إضافياً لنجاح هذه التجربة، إذا تفهم كل منهما ظروف عمل الآخر، وتعاون معه ليساعده على تحقيق المزيد من العطاء، وفي هذا أنا متفاهمة مع زوجي المخرج محمد شاهين، فهو فنان ذو موقف وموهبة وشفافية خاصة، ونظرة واضحة إلى أمور الحياة، وباختصار هو رجل متوازن، وهذا ما جعلنا نتعايش ونتفاهم، ونعمل أحياناً معاً، وأحياناً في أعمال منفصلة، وهو بعد هذا فنان مجتهد يحب عمله ويخلص له، وخاصة بعد أن تفرغ للإخراج السينمائي.
ومحطة أخرى- أثارها معي يوماً أحد مقدمي البرامج التلفزيونية في حوار- حول ما إذا كانت هناك منافسة بيني وبين نجمات مصر الشهيرات.. أقول: إنني لم أشعر يوماً بالمنافسة التي يسألونني عنها، لأن لكل ممثلة دورها- أو أدوارها- التي اشتهرت به، وأنا لي أدواري التي اشتهرت بها، فقد أشتهرت من خلال أدوار قلة من الممثلات في مصر يقدمنها، ليس لأنها صعبة، بل لأنها يمكن أن تكون مرفوضة أو مكروهة. ومنها مثلاً دور هند بنت عتبة في فيلم "الرسالة"، وهذه شخصيات استثنائية ونادرة ويجب أن تؤدى ببراعة.
وأراني أعود إلى أسئلة سابقة طرحت علي ومنها حول كون أكثر المخرجين من الرجال، والواقع أن هذا الأمر لا يرتبط بالذكورة والأنوثة بل لظروف المهنة، ففي حين بدأت السينما بالمخرجين الرجال، بدأت السينما العربية بالمخرجات النساء أمثال: عزيزة أمير- بهيجة حافظ- فاطمة رشدي وكذلك في الإنتاج مثل: آسيا داغر- ماري كويني وكان ذلك في العشرينيات والثلاثينيات.
وإذا استأذنت في الدخول قليلا إلى أعماقي يمكن أن أعترف بأنني أعاني القلق ولكن بمفهوم الاضطراب النفسي، أعيش قلق العطاء، قلق الإبداع، وخاصة عند بداية التصوير أو بداية الدخول إلى منصة المسرح، ولكني سرعان ما أتخلص من هذه الحالة عندما أبدا بالتمثيل وعندما أواجه الجمهور الذي يعطيني الكثير من الثقة، والقلق لدى الفنان في لحظات العطاء سببه حرصه على أن يقدم دائماً الأفضل والأجمل.
وأرجو ألا أتهم بالنرجسية، وبحب الانتقام، الذي قلت إنه ليس من شيمي، عندما يذكرني أحد بقول لي في أحد تصريحاتي بأنني قتلت جميع الذين عذبوني.
فقد تضاربت الآراء يومئذ حول هذا التصريح وتوضيحاً للأمر أقول إن الإنسان لا ينسى الكثير من العذابات التي مرت في حياته وأثرت في نفسه وخاصة في الطفولة، وحتى لا أحقد على أحد، قتلت هؤلاء في أحلامي، هؤلاء الذين عذبوني، وخاصة في طفولتي ولهذا كنت أهرب إلى شخصيات أخرى، وأكونها، كنت أنا الملكة، وكنت أنا الفراشة، وكنت العصفور، وكنت المنتصرة على كل المعاناة والمتاعب، وكان قصري دائماً على جبلنا العالي "قاسيون".
وعن موضوع الاختيار والانتشار، أترك أعمالي تتحدث عني، فأنا أمارس عملية اختيار صعبة وقاسية بالنسبة للأدوار التي تعرض علي، وقد اعتقد كثيرون في الماضي أنني تركت المسرح لأعمل فقط في التلفزيون، وساقوا لهذا الكثير من الأسباب التي لا أعرفها أنا شخصياً.
ولكن هؤلاء فوجئوا عندما وجدوني أختار دوراً مسرحياً، حيث قدمت على مدى ثلاث سنوات متتابعة دور "جيفيكا" بطلة مسرحية "حرم سعادة الوزير" على خشبة المسرح القومي في دمشق، وهكذا يصبح الاختيار كياناً متحرراً من القوالب الجامدة، ولهذا أنا أرفض أدوار " بطولة الشرف " أو "ضيف الشرف" وعندما أسأل عن شروط انتقائي للعمل أجيب على الفور: أن يقدم المرأة كعمل وليس كهامش، أي أن تجري أحداث، أمثل من خلالها المرأة، لا أقبل أن أكون هامشية، وهذا يعني أنني لا أقبل الأدوار الصغيرة في عمل كبير أنا لا أبحث عن البطولة، بل عن دور أقول فيه ما أريد.. ولا أقبل أن أقدم كفنانة شباك تذاكر تساعد في بيع وترويج وتسويق العمل الفني، ما يهمي هو نوعية العمل ومستواه.
أنا امرأة من برج الدلو، ومتابعة الأبراج قد تكون هواية، أو نوعاً من حب الفضول، هناك أشياء نشعر بأنها قدرية ومحتومة لا ندركها، دائماً أفاجأ بالجانب المعذب من حياة "المرأة الدلو" فهي عصبية، ولكن عصبيتها غير ظاهرة وإن كانت من النوع الانفعالي الذي يظهر في أي لحظة، وقد يفاجأ القارئ العزيز إذا قلت له إن عصبيتي هي من الداخل، وتظل دفينة.
ويقولون إن "المرأة الدلو" جريئة ومحافظة بآن واحد.. أي أنها تعرف الحدود التي تقف عندها.. إلى آخر هذه الصفات، في حين أبحث عن المرأة المميزة، التي تعني أنوثتها الحضور والقوة، وليس الإغراء، ويكون ذكاؤها المتقد شعلة ثفافة لا نار إغواء.
امرأة كهذه تعد في نظري أجمل السندريلات، لذلك أنا أرى أن الفنون لم تقدم لنا الصورة الحقيقية والإنسانية للمرأة، فالسينما العربية قدمت لنا نماذج من النساء المسحوقات كالخادمة والراقصة، وأنا أريد دور المرأة التي لي داخلها ملكة، وفي عينيها قوة وإشعاع وسيطرة وحنان، وداخل صدرها صرخة مدوية حتى تنال حقوقها كاملة، كنت أشعر دوماً أن المرأة في مجتمعنا الشرقي مظلومة، وهذا الشعور المتنامي، ومنذ بدايات طفولتي، كان أكبر من حجمي جسدياً وفكرياً وعمراً.
كانت النساء حولنا بائسات، مظلومات، فأنا من أحد أحياء دمشق القديمة، وفي هذه الأحياء تنتشر الحكايات بسرعة، والحب عندنا كان أكبر العيوب. وكان الطلاق سمة بارزة، والمرأة هي التي تدفع الثمن، كانت تطرد في كثير من الأحيان دون نفقة، وكانت تحرم من أولادها، وهذه الشخصيات- تبرز أمام عيني دائماً، وأتمنى أن يقدمها الفن بأبعادها الحقيقية.
وأنا بعد هذا مشروع أديبة، كنت أحلم أن أكون أديبة منذ طفولتي، خاصة أنني كنت أتفوق على رفيقاتي في المدرسة في مادة التعبير والإنشاء ولكني أعتقد الآن وبعد هذه السنين الطويلة من عملي كممثلة، وصار عندي كم من القراءات المختلفة، من شتى الآداب العالمية، إنني لا أستطيع أن أكتب كهؤلاء الكتاب الكبار، ولكني أستطيع أن أمثل ما كتبوا.
ومع هذا مازلت أعشق حلمي القديم، أن أكون أديبة، وعشقي لهذا الحلم جعلني- عندما أقدم عملاً ما- أرسم الشخصية التي سأؤديها، مخططاً حياتياً له ماض وله حاضر، له أعداء وله أصدقاء، وآمال وطموحات وفشل ونجاح وحب وكراهية، أكتب بنفسي سيناريو لشخصيتي، لكن تكون منسجمة مع الحياة، وليس فقط على ورق الكتابة، ثم أعيدها إلى نصها الأصلي، ولكن بفهم أعمق وبحب، إنني أحب هذه الشخصية بكل تناقضاتها وبكل ما تعطي، وحتى بأخطائها التي أجد لها أحياناً المبررات المطلوبة.
ومن الأدب إلى الثقافة بمعناها الواسع والحقيقي، فأنا لا أعتبر نفسي مثقفة بهذا المقياس، ولكني أحب أن أكون كذلك، أنا امرأة أبحث واجتهد كي أكون مثقفة، لأني أعتبر الثقافة سلاحاً أحمي به موهبتي وأنوثتي، وكي أتمتع بحياتي، فأنا مع كل كتاب جديد أقرؤه، أعيش عوالم جديدة، ويمكن أن ألخص مصادر ثقافتي بأنها من الحياة والتجارب والكتب.
عندما عين الفنان دريد لحام سفير اليونيسيف للطفولة في سوريا ثم في شمال إفريقيا، وبعد ذلك عين الفنان جمال سليمان سفيراً لقضايا الانفجار السكاني، لاحظت أنه لا يوجد هناك نساء بين السفراء، على الرغم من أن الأمم المتحدة كمؤسسة عالمية يجب أن تكون منفتحة وحيادية، فقط من بين السفراء المختارين كانت هناك الفنانة صفية العمري التي كسرت القاعدة، ثم أنا الآن، فقد تم اختياري سفيرة للنوايا الطيبة من البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة ومن هنا فأنا ضد بعض المصطلحات المتداولة والتعريفات التي تقول بـ "الأدب النسائي" و"الإبداع النسائي" وكأنها تضع المرأة في درجة أدنى من الرجل.
وبعد.. إذا كان هناك من يطلق عليّ لقب "فنانة سوريا الأولى" أو "سيدة المسرح في سوريا" أو "نجمة الشاشتين والمنصة" أو "الفنانة التي تجاوزت القطرية إلى اتساع الوطن العربي وإلى العالم" فأنا أفضل بين جميع هذه الألقاب التي سبق أن أطلقت عليّ، اسمي الخاص "منى واصف".. أو "أم عمار" نسبة إلى ابني الوحيد عمار الذي يختصر وجوده في حياتي الدنيا كلها.