مختارات من:

مهاجر لبناني ينشئ أشهر مستشفى للأطفال

خيرية الزبيدي

ابن مهاجر لبناني من نفس القرية التي خرج منها جبران خليل جبران. تحول إلى ممثل كوميديا شهير هو"داني توماس" وقد ندر وهو على أول الطريق أن يبني صرحاً للخير إذا قدر له النجاح. ووفى بهذا النذر بمعاونة إخوانه من المهاجرين اللبنانيين والسوريين وأنشأ أشهر مستشفى لأمراض الأطفال المستعصية في الولايات المتحدة تحول إله منارة للخير والوفاء العربي في آفاق المهجر البعيد.

بدأت القصة في مطلع الأربعينيات، حيث غمرت الفرحة "مزيد يعقوب" عندما علم أنه سيصبح أبا للمرة الأولى، لكن نشوة الفرح لم تدم طويلاً، لقد استيقظ على صوت زوجته وهي تنبهه إلى ضرورة إيجاد عمل آخر أكثر ضمانا من عمله الحالي من أجل المولود الجديد. هذه الكلمات القليلة أعادته إلى واقعه، إنها على حق، فهو إلى الآن لم يثبت قدميه كفنان كوميدي والطريق أمامه شاق وطويل، لكن هل يستطيع التخلي عن حلمه بهذه البساطة، ويبحث عن عمل آخر؟ وإن لم يتخل، هل يفرض على أسرته أن تعيش نضاله الشاق والقاسي في انتظار الفرصة المواتية، وخطوة الانطلاق الأولى في عالم الكوميديا، والتي ربما تأتي سريعا وربما تتأخر كثيراً؟.. لم يستطع "مزيد" حسم أمره، ولم يجد من يلجأ إليه سوى الله، فهو وحده القادر على انتقاله من هذه الحيرة.

لم ينتظر "مزيد" طويلاً، ما هي إلا أيام وإذا بخيوط إشراقة شمسه تبدد غيوم حيرته مع العرض الذي جاءه من شيكاغو ومن أشهر نواديها، "نادي 5100 "، ليقدم به عروضه الكوميدية.

إنها البداية، بداية صعود نجم "داني توماس" كما أصبح اسمه الذي اشتهر به فيما بعد، وبدأ يتألق كفنان كوميدي له منزلته في التلفزيون والسينما، حقق "داني توماس" كل ما يتمناه في عالم الكوميديا، لكن الشهرة والمجد لم يجعلاه ينسى وعده الذي قطعه على نفسه عندما كان مغمورا وفقيرا.

وفي ممفس كانت الحكومة قد أنشأت مركزا لعلاج الأطفال هو مستشفى Le Bonheur Children's Medical Center، لذلك اقترح عليه المسئولون هناك إقامة مستشفى خاص بأمراض السرطان. وبذلك تحول مشروع "داني توماس" إلى بناء مستشفى ومركز أبحاث خاص بأمراض السرطان والأمراض المستعصية لدى الأطفال. ومشروع كهذا يحتاج إلى مبالغ طائلة. ودون تردد اتجه "داني" فورا إلى بني عرقه من المهاجرين العرب - وهم السوريون واللبنانيون في ذلك الوقت - ليساعدوه في إتمام مشروعه. وكم كانت سعادته عظيمة عندما وجد لديهم تجاوبا وحماسا لا يقل عن حماسه. وهكذا وفي عام 1957، قام الفنان "داني توماس" بتكوين الجمعية الخيرية الأمريكية اللبنانية السورية "الساك" من أجل قيام هذا المشروع الخيري، وجاء في مقدمة دستورها.. (إننا نحن الفخورين بأصلنا وحضارتنا.. قد قمنا بإنشاء جمعية خيرية، غير تجارية وغير دينية وأطلقنا عليها اسم "الساك": لتقديم العون والحب إلى جيراننا دون النظر إلى لونهم أو معتقداتهم الدينية". وتم تعيين "مايكل تامر" مديرا إداريا للجمعية لما يتمتع به من طيبة قلب وحماس شديد للمشروع. وكبداية لبناء المستشفى تم جمع مبلغ مليون دولار أمريكي.

افتتاح المستشفى

وفي عام 1962 م تم افتتاح المستشفى لاستقبال المرضى بعد أن تم تجهيزه بكل ما يلزم. تولى إدارة المستشفى الدكتور "دونالد بنكل" الذي كانت اهتماماته وجهوده منصبه على علاج اللوكيميا (ALL) حين كانت نسبة النجاح في علاجها 4%. وقد كانت إدارته للمستشفى دقيقة ومخلصة ومتفانية تماما، كما تمنى "داني توماس". ومنذ افتتاح المستشفى وحتى 1995 م، تم علاج أكثر من ثلاثة عشر ألف وخمسمائة طفل من مختلف بلدان العالم.

وعملا بأهداف المشروع الخيري فإن المستشفى يرتبط بعلاقات تعاون مع مراكز علاج السرطان والأمراض المستعصية لدى الأطفال المنتشرة في العالم، حيث يقدم مستشفى "سانت جود" الكثير من الخبرات لهذه المراكز، كما يستقبل أطباء وممرضين لتدريبهم وإكسابهم خبرات يشيدون منها في بلدانهم. ومن هؤلاء هناك عدد لا بأس به من الدول العربية، التقينا منهم الدكتور باسل أبوشلاح من السعودية، إخصائي سرطان الأطفال وأمراض الدم عند الأطفال.

وبفضل جهود العلماء العاملين بالمستشفى ومركز الأبحاث تم تطوير علاج الكثير من الأمراض المستعصية، منها إمكان منع انتقال الإيدز إلى الأجنة من الأم المصابة، بواسطة العلاج الكيميائي المستخدم في مقاومة السرطان، ونسبة نجاح هذه الحالات وتجاوبها مع العلاج وصلت حتى الآن إلى 67%. كما أن للدكتور "والتر هيوز" الذي كان أحد علماء المستشفى فضلا كبيرا في الأبحاث التي تجري للتقليل من الآثار الجانبية التي يسببهما العلاج الكيميائي للسرطان والتي تضعف جهاز المناعة لدى الطفل المريض فلا يستطيع مقاومة أضعف الأمراض وتتسبب أحيانا بوفاته.

ويعتبر مستشفى "سانت جود" مركزا للتقارير التي تقوم بها هيئة الصحة العالمية في شمال القارة الأمريكية بالنسبة لأبحاث فيروس الإنفلونزا وتطوير الأمصال المضادة له.

برج "داني توماس للأبحاث"

وأتناء جولتنا في برج "داني توماس للأبحاث"- والذي يتكون من سبعة طوابق، مساحة كل طابق تساوي مساحة ملعب كرة قدم، ويحتوي على مائة مختبر- التقينا الدكتور " فيكتور جارسيه" أحد العلماء الرواد في الأبحاث المتعلقة بمرض نقص المناعة المكتسبة، "الإيدز" في المستشفى. لقد ركز الدكتور "جارسيه" أثناء حديثه معنا على الاتصال بين العلماء في جميع أنحاء العالم لتبادل الخبرات والنتائج، وهو يرى أن ذلك يؤدي إلى إيجاد علاجات ناجحة للأمراض المستعصية. ويقول إن سهولة التواصل الآن متيسرة خاصة عن طريق "الإنترنت" التي أصبحت مهمة جدا في حياتنا، وصديقا حميما للعلماء. وحول رؤيته المستقبلية كعالم بالنسبة للأمراض المستعصية، يقول د. "جارسيه": إن العالم يقف دوما على الحافة، فهو على علم تام بما خلفه لكنه لا يستطيع التنبؤ بما سيجده أمامه ويضيف أن السرطان يختلف عن غيره من الأمراض، فهو ليس مرضا واحدا، بل عدة أنواع تتحدد بحسب الجزء المصاب من حمض (DNA)، ونحن ندرس توزيع الخلايا وتوزيع البروتينات في الخلايا الحية من خلال مسطحة الليزر التي تظهر جميع الشرائح وتركيبها في الخلية الحية بواسطة جهاز مدى الليزر ومنها يمكن معرفة كيفية عمل الجينات الموروثة لاستخدامها كوسائل جديدة لعلاج الأمراض السرطانية في الأطفال.

إن التبرعات التي ترد إلى المستشفى لم تعد محصورة بجمعية "الساك"، ولا بالأثرياء فقط بل إن السمعة الطيبة للمستشفى وما قدمه من خدمات جعلت الكثير من الأفراد والعائلات ذوي الدخل المحدود يقدمون ما باستطاعتهم حيث لا تتعدى قيمة تبرعاتهم الشهرية الخمسين دولارا أمريكيا. كما أن هناك وصايا الإرث التي تعد مصدراً مهما للتبرعات وتشكل نسبة لا بأس بها. وتصل تكاليف المستشفى اليومية إلى ثلاثمائة وستة وخمسين ألف دولار أمريكي، حيث كلفة علاج الحالة العادية من اللوكيميا اللمفاوية الحادة تبلغ 120 ألف دولار للمريض الواحد موزعة على سنتين ونصف هي مدة علاجه. بل إن المشروع التوسعي الذي بدأ في شهر نوفمبر عام 1987 م، والذي يعتبر برد "داني توماس للأبحاث" هو أحد أبنيته قد بلغت تكاليفه 140 مليون دولار. لذا فعلينا أن نتخيل مدى اتساع قاعدة المتبرعين. إن التبرعات لا تنحصر بالمال أو بالأجهزة التي يتبرع بها أفراد أو عائلات أو مؤسسات، إنما هناك أيضا 300 من المتطوعين يعملون في أقسام المستشفى المختلفة دون مقابل، وأيضا هناك الدم الذي يتبرع به العاملون بالمستشفى للمرضى، والذي تبلغ قيمة الكيس الواحد منه 300 دولار لو أراد المستشفى شراءه من بنك الدم.

نترك "برج داني توماس للأبحاث" متجهين إلى العيادات الخارجية. إن هذه العيادات مجهزة لاستقبال أكثر من مائة مريض يوميا، يأتون مع ذويهم لتلقي العلاج اللازم، البعض منهم قدم من ولايات أخرى من أجل العلاج ثم يعود في نفس اليوم مع ذويه إلى حين الجلسة التي تليها. أما المرضى من البلدان البعيدة فإن المستشفى يكفل لهم ولمرافقيهم جميع سبل الحياة التي يحتاجون إليها إلى أن تنتهي مدة العلاج وكل ذلك دون مقابل. وهذه العيادات مجهزة تجهيزاً كاملا بأحدث ما توصل إليه العلم من أجهزة طبية ومعدات للعلاج. ندخل العيادات في جولة سريعة وهدوء لكي لا نتسبب بإثارة ضجة تزعج المرضى، نشاهد الأطفال وهم يتلقون علاجهم باستسلام لا يخفي آلامهم خاصة أن بعض هذه الجلسات تستغرق اثنتي عشرة ساعة متواصلة. نشعر وكأننا في رحلة عذاب، نود لو نعرف حالة كل مريض ونسبة شفائه وكم من المدة يحتاج، وأملنا بإجابة تخفف ما نشعر به تجاه أطفال بدأت حياتهم بمصارعة هذا المرض الخبيث وآلامه. وقبل أن نغادر العيادات مررنا بطفل يستعد لتلقي العلاج وما إن شاهد مرافقتنا حتى هش لها، وهي بدورها اقتربت منه تلاطفه وتحتضنه بحنان، لكنه تعلق بها لا يود أن تتركه وكأنه يرى بها طوق نجاة مما ينتظره في جلسة العلاج، برغم ما يتلقاه من معاملة لطيفة من القائمين على علاجه.

أثناء انتقالنا في أروقة المستشفى تلفت نظرنا مرافقتنا إلى لوحات حفرت عليها أسماء أشخاص أو عائلات تبرعوا بمبالغ ضخمة للمستشفى، وهذه اللوحات تتمايز حسب قيمة المبلغ المدفوع وأقلها 25 ألف دولار أمريكي. ثم نصل إلى ركن يحتوي على رسوم كاريكاتير تظهر "داني توماس" وكأنه ملاك أو قديس، هذا ما ظهرت به الصحف المحلية بعد وفاة "داني"، وهذه الرسومات الأصلية قام رسامو الكاريكاتير بإهدائها للمستشفى.

ندخل إلى غرفة الأشعة، التي تحتوي على جهاز ضخم، يعتبر الأسرع من نوعه في العالم، وتبلغ كلفته مليون دولار، وقد حرص المستشفى على اقتنائه بسبب طبيعة الأطفال الميالة للحركة الدائمة وقلة الصبر، والتي تتناقض مع ما تتطلبه صورة الأشعة من السكون وعدم الحركة. ويستخدم العاملون بهذا القسم الأساليب المختلفة تشجيعا للأطفال لكي لا يقوموا بأي حركة أثناء عملية التصوير كأن تقدم لهم جوائز بعد الانتهاء من التصوير دون حركة.

حتى يكون العلاج شاملا

ولكي يكون العلاج متكاملا، فإن المستشفى يحتوي على قسم للأسنان يتطلبه ما يحدثه العلاج الكيميائي من آثار جانبية على الأسنان. وطبيب الأسنان بهذا القسم يكون على علم كامل بحالة كل مريض وعلاجه. ويبدأ دور الطبيب مع المريض منذ البداية حيث يرشده إلى كيفية العناية بأسنانه. ولا يقتصر هذا القسم على مداواة الأسنان، بل إن هناك أبحاثا يقوم بها أطباء هذا القسم لحماية أسنان المرضى من العلاج الكيماوي. ومن نتائج هذه الأبحاث ما توصل إليه الدكتور "هابكونز" من حماية الأسنان من العلاج الذي يتعرض له المريض بواسطة عازل. كما يحتوي المستشفى أيضا على قسم أورام العين الذي يرأسه الدكتور "بيرك حايك"، ويعتبر الدكتور "حايك" من الرواد على المستوى العالمي في هذا المجال.

ومن الأقسام المهمة في المستشفى قسم العلاج الطبيعي. إن العلاج الذي يتلقاه مريض اللوكيميا يؤثر في المفاصل والعضلات، ومن ثم فإن هذا المريض يحتاج إلى علاج طبيعي يعيد المرونة والقوة لأطرافه، بالإضافة إلى المرضى الذين ركبت لهم أطراف صناعية بديلا عن أي طرف بتر من أطرافهم المصابة بالورم الخبيث، فهم أيضا بحاجة إلى تمارين خاصة ليعتادوا على هذه الأطراف الصناعية، ومن هنا تأتي أهمية هذا القسم.

يتكون قسم العلاج الطبيعي من صالة واسعة تحتوي على استعدادات لاستقبال المرضى على مختلف أعمارهم، حيث يوجد بها غرفة صغيرة بألوان أدواتها الزاهية والتي تناسب الأطفال الرضع. وتعتبر عملية علاج هؤلاء الأطفال عملية مسلية فالطفل في هذه السن لا يدرك أن هذه عملية علاج.

أما بالنسبة للأطفال الأكبر سنا فالوضع يختلف قليلا، فهم يدركون ما يقومون به ويأتون في أوقات معينة إلى الصالة للعلاج بمرافقة المختصين. وهناك المرضى الذين أجريت لهم عملية زرع نقي العظام ولا يستطيعون النزول إلى الصالة، فإن الإخصائي يصعد إليهم ويتم علاجهم في غرفهم. تحتوي الصالة الكبيرة على تجهيزات منزل كاملة من مطبخ ومحتويات من حوض للجلي وبراد طعام وخزائن، ثم حمام ومستلزماته، وأثاث منزل كامل، وأيضا درج، وطبعا ما يلزم من أدوات للعلاج الطبيعي. أما باب الصالة الخارجي فإنه يفضي إلى ساحة كبيرة تحتوي على طرق معبدة وأخرى ترابية، ومناطق مستوية وأخرى تحتوي على مرتفعات ومنخفضات. وكلها نماذج لما يمكن أن يواجه الإنسان في حياته العادية، فالعلاج الطبيعي ليس فقط أن أجل تقوية العضلات والمفاصل بل أيضا لتدريب المريض ليعود لحياته العادية ويتصرف كما كان قبل مرضه، وخاصة الأطفال الذين فقدوا أحد أطرافهم وركبت لهم أطراف صناعية، فإن هذه التمارين تعودهم على استخدام هذه الأطراف كما كانوا يستخدمون أطرافهم الطبيعية قبل البتر، ومن ثم يخرجون من المستشفى إلى ممارسة حياتهم الطبيعية دون أي صعوبات. أما بالنسبة للأطراف الصناعية فإن كلفتها وتركيبها تقع على عاتق المستشفى، وهناك وحدة خاصة في المستشفى لتركيب الأطراف الصناعية، وهذه الوحدة تتعامل مع شركة متخصصة في هذا المجال، وتبلغ قيمة الطرف الصناعي الواحد عشرة آلاف دولار.

الرعاية الاجتماعية والترويح

نترك قسم العلاج الطبيعي إلى قسم الإخصائيين الاجتماعيين. برغم تطور علاج السرطان وازدياد نسبة النجاة من براثنه بشكل يدعو إلى الكثير من التفاؤل، فإن هذا لم ينف بعد رائحة الموت من اسمه، لدى الكثير من الناس، إضافة إلى طبيعة علاجه الطويلة والتي تحتاج إلى الكثير من الصبر والإيمان، ومن أجل ذلك كانت حتمية هذا القسم، فمهمته العناية بالحالة النفسية للطفل المريض وأهله أيضا، ومساعدته على تحمل مرضه والعلاج الذي يتلقاه ويبدأ دور الإخصائي الاجتماعي منذ بداية قدوم المريض إلى المستشفى والتأكد من إصابته، وتحدثنا مرافقتنا "اشيل لين " عن تجربتها الشخصية مع هذا المرض، ودور الإخصائي الاجتماعي، حيث أصيبت شقيقة زوجها بالسرطان تقول: ما إن تأكدت إصابتها بالمرض حتى اجتمع الإخصائي الاجتماعي إلى العائلة بكاملها، وشرح لهم طبيعة المرض والحالة النفسية التي سيمر بها المريض أثناء فترة العلاج، ثم اجتمع مع المقربين من المريض كل على حدة وناقش معهم وضع المريضة كاملا، ظروفها، وضعها النفسي وكيفية التعامل معها، وأخيرا تحدث إلى المريضة عن وضعها وحالتها.

ومما يقلق الأهل إذا كان الطفل طالبا في المدرسة ويقلقه هو أيضا، مدة العلاج الطويلة، التي تتسبب في انقطاعه عن الدراسة، وبالتالي تؤثر في تحصيله العلمي. لذلك فقد تدارك الإخصائيون الاجتماعيون في المستشفى الموضوع وأولوه اهتماما خاصا، ومن أجل ذلك عين بالمستشفى اثنان من المدرسين للإشراف على دراسة الأطفال ومتابعة تحصيلهم العلمي، يساعدهم في ذلك قسم خاص للكمبيوتر وبرامج تعليمية تسهل على الطالب المريض متابعة دراسته، ويقوم المدرسون بإرسال التقارير إلى مدارس الأطفال المرضى لاعتمادها، وبذلك لا تتأثر دراسة الطالب أثناء فترة علاجه.

ونتجه بعد ذلك إلى صالة الألعاب، صالة أنيقة تزين جدرانهـا اللوحات الجميلة التي تصور جو الأطفال الساحر، بعض هذه اللوحات من صنع الأطفال أنفسهم، يعبرون بها عما يجول داخل رءوسهم الصغيرة من أفكار، أو حتى هموم أكبر من سني عمرهم القليلة، فرضتها عليهم الأقدار وهم ما زالوا بمقتبل العمر، وجعلهم مرضهم يذوقون مر الحياة قبل حلوها، وفي جنبات الصالة تتوزع الألعاب المنوعة من أدوات رسم إلى أجهزة كمبيوتر، إلى ألعاب أخرى بألوان زاهية جميلة، وأمام أحد أجهزة الكمبيوتر يجلس طفل مستغرقا مع إحدى ألعاب الجهاز تراقبه والدته عن كثب. في هذه الصالة يسترخي الطفل ويمارس طفولته الحقيقية يلعب ويعبر عن نفسه بالرسومات بعيدا عن الأدوية والحقن، ومن أجل المحافظة على شعور الطفل بالأمان والاسترخاء، لا يدخل الصالة أي من الأطباء أو الممرضين.

شروط قبول المريض

نسير في أروقة المستشفى متجهين إلى الخارج، تحدثنا مرافقتنا عن قسم الكمبيوتر الذي تبرعت به إحدى شركات البريد السريع، وعن صالة الألعاب التي تحوي الكثير من التبرعات أيضا، وعائلات تبرعت بتجهيزات غرف كاملة، وعن علاقة المرضى الحميمة بالمستشفى حتى بعد أن يشفوا وتعود لهم عافيتهم فإن علاقتهم بها لا تنتهي. وأثناء ذلك وقبل أن نترك المستشفى إلى الباب الخارجي تلفت نظرنا امرأة عربية تحتضن طفلتها تاركة المستشفى أيضا، يجذبنا الدم الواحد ونتوقف لنتحدث معها، أنها سيدة من العراق تدعى "ماجدة أيوب" أصيبت طفلتها بورم حول العين، أجريت لها ثلاث عمليات بسبب معاودة ظهور الورم مرتين بعد الإزالة الأولى، وبعدها اضطرت لترك العراق إلى الأردن على أمل إيجاد علاج أفضل ينقذ ابنتها، وعن طريق الصدفة وحدها وصلت حالة طفلتها "سماء" إلى الدكتور "عبد الله الخطيب" مدير معهد ا لأمل للسرطان، ومن ثم تم إرسال تقرير كامل عن حالتها إلى مستشفى "سانت جود"، وبعد التأكد من إمكان علاجها في المستشفى، قام المستشفى بالترتيبات اللازمة لحضورها، وخلال أسبوع واحد فقط كانت المريضة "سماء" ووالدتها في مستشفى "سانت جود" في "ممفس". لقد كانت حالة الطفلة المرضية متقدمة، والسرطان قد انتشر في رئتيها وظهرها، وكانت قد فقدت عينها نتيجة العمليات المتكررة التي أجريت لها، لكن ولحسن الحظ فإن الطفلة استجابت للعلاج، وهي تحتاج إلى عام ونصف لتشفى وتتعافى، وبسبب طول المدة، فإن إدارة المستشفى ستقوم بالإجراءات اللازمة لإحضار الأب ومساعدته في إيجاد عمل أثناء فترة علاج ابنته الطويلة. وقد علمنا أن هناك عديدا من المرضي من دول عربية مختلفة. أما بالنسبة لشروط قبول المريض للعلاج فهي ثلاثة شروط:

1 - أن يتم تحويل الطفل عن طريق الطبيب المعالج لحالته، وأن يكون المرض المصاب به المريض ضمن الأمراض التي يقوم المستشفى بدراستها وعلاجها.

2 - ألا يكون المريض قد تعرض لعلاج مكثف مسبق.

3 - أن يكون الطفل دون سن الثامنة عشرة من العمر. هذا ما أخبرتنا به مرافقتنا بعد أن ودعنا السيدة ماجدة وأبنتها سماء، في طريقنا إلى مبنى "داني توساس الساك" حيث محطتنا الأخيرة.

وعلى الرغم من المشاعر الإنسانية التي غمرتنا طيلة جولتنا في المستشفى وأقسامه، فإن محطتنا الأخيرة كان لها طعم آخر، طعم يشعر به كل من تجري في شرايينه الدماء العربية، ويقف على أرض غربية تفصلها البحار والمحيطات عن وطنه. إن هذا المبنى بما يلخصه من معان، يشعرك بنبض الشرق وهو ينشر دفئه في بلد الحضارة الحديثة التي تتغلب بها المادة على المشاعر الإنسانية، وما يضفي عليك هذه المشاعر، هو هذا المبنى الذي يحاكي الصخرة المشرفة بقبته الذهبية وتلك الأقواس التي تحيط بمدخله، وعندما تدخل تستقبلك الأعمدة الرخامية التي تحمل القبة التي تزين سقفها الزخارف العربية الجميلة، بل أكثر من ذلك العبارات التي خطت بأحرف عربية على جنبات القبة من الداخل والتي تقول: "من أنكر أصله لا أصل له"، "من المؤسف أن يموت طفل في مطلع العمر"، "الساعي إلى الخير كفاعله". أما جنبات المبنى فإنها تحكي بالصور والعبارات قصة مجموعة من العائلات أتت من الشرق العربي وتحديدا من لبنان وسوريا في زمن اجتاحت به الضائقة الاقتصادية والضغوطات السياسية بلادهم، فرحلوا عنها بعد أن سدت في وجوههم كل السبل.. أتوا إلى العالم الجديد بحثا عن الحرية وعن الحياة الكريمة. في البداية لم تكن الحياة سهلة بل كان عليهم أن يكدوا ويكدحوا بكل أناة وصبر ليجدوا لأنفسهم مكانا على هذه الأرض الغريبة وتحت سمائها. إحدى زوايا المبنى تخبرنا عن "داني توماس" مؤسس "الساك" والمستشفى، وعن عائلته. ولد "داني توماس" في "ديرفيلد" ولاية متشجن، عام 1914م، أسماه والده "مزيد يعقوب"، أما اسم "داني توماس" فقد اختاره هو بعد أن بدأ نجمه يسطع، مستعيرا اسمه الأول من اسم أخيه الأكبر "دانيال" واسمه الثاني من اسم أخيه الأصغر "توم". هاجر والدا "داني" تاركين قريتهم الجبلية "بشرى" التي تقع على بعد خمسين ميلا شمال بيروت - ولا ننسى أن هذه بلدة الشاعر المهجري جبران خليل جبران. في عام 1903 م هاجر والده "شهيد يعقوب" أو " شارلي" - كما سمى نفسه فيما بعد - إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان يبلغ من العمر 19 عاما، وفي البداية عمل بائعا متجولا في ولاية "اوهايو"، ثم تزوج من "مارجريت سيمون" ابنة قريته "بشرى" التي كانت قد هاجرت منها عام 1900 م، برفقة والديها، ولم تكن عندها قد تجاوزت العاشرة بعد. وقبل ولادة "داني" بقليل ابتاع الأب مزرعة خيل في ولاية "متشجن"، لكنه خسرها فيما بعد، ولكي يعيل عائلته عمل في أحد المصانع عامل تشغيل.

على الجدران تتوزع الصور التي خلدت اللحظات التي توجت نجاحات "داني توماس" الفنية، والأوسمة التي قدمت له من قبل العديد من رؤساء الولايات المتحدة الذين عاصروه، ومن بعض رؤساء وطنه الأصلي لبنان منهم الرئيس الحالي إلياس الهراوي، تقديرا لما قام به من أعمال خدمت المجتمع والإنسانية.

نترك المستشفى ونحن كلنا فخر بأبناء أمتنا الذين قاموا بهذا العمل الجليل، ولا غرابة في ذلك فهم أبناء أمة اعتادت العطاء، وتترك دائما بصماتها التي تشهد لها بالتحضر أينما حلت.

خيرية الزبيدي مجلة العربي مارس 1997

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016